د.لبيب قمحاوي

منذ بداياته كان حُكم الاخوان المسلمين لمصر في سباق مع الزمن. وحقيقة الامر هي ان الاخوان المسلمين يتحملون منفردين مسؤولية ما جرى لهم، فضعف قدرتهم على استشراف المزاج الوطني واستجابتهم البطيئة والمتأخرة دوما لعروض قادمة من اطراف واطياف مختلفة من داخل المجتمع المصري ميزت فترة حكمهم القصيرة. والسبب لا يعود فقط الى افتقارهم الى الخبرة في الحكم، بقدر ما يعود الى طبيعتهم التنظيمية المركزية والمتشددة في طاعة ‘اولي الامر’ اي ‘المرشد العام’ و’مكتب الارشاد’، مما لا يسمح بالمرونة اللازمة في التعامل مع المعطيات والتطورات المتلاحقة التي تفرضها مسؤولية حكم دولة كبيرة مثل مصر. والبرنامج الوحيد الذي كان يحظى بجل اهتمام الادارة الاخوانية كان الاستمرار في الحكم من خلال برنامج ‘اخونة’ الدولة المصرية ومؤسساتها .وهكذا فان الخيارات امام الادارة الاخوانية كانت منذ البداية محصورة ومحددة جدا. وقد ادى ذلك الى حالة من الاستقطاب الحاد الذي ابتدأ يصبغ المجتمع المدني المصري في ظل التسارع الملحوظ في محاولة تطبيق برنامج ‘اخونة’ مؤسسات الحكم والدولة في مصر، وبما يضمن استمرار هيمنة الاخوان المسلمين على مقدرات مصر.
الحقيقة ان الاخوان المسلمين في مصر كانوا في سباق مع انفسهم اكثر من اي شيء اخر، وذلك خشية انكشاف امرهم عند توصل الشعب المصري الى الحقيقة المُرَةِ، بأن تنظيم الاخوان الحاكم يفتقر الى اي برنامج سياسي او اقتصادي للحكم، باستثناء البرنامج الاجتماعي المستند الى تطبيق احكام الشريعة.
ويبدو ان المؤسسة العسكرية المصرية كانت على وعي وادراك كاملين بان انقضاض مؤسسة الرئاسة الاخوانية عليها هو قضية وقت. اذ لا يمكن استكمال عملية ‘اخونة’ الدولة المصرية من دون ‘اخونة’ المؤسسة العسكرية او السيطرة عليها بطريقة او باخرى. وهكذا كان الاستقطاب الحاد بين القوى المدنية داخل المجتمع المصري من جهة والاخوان المسلمين من جهة اخرى يخفي في حقيقته التوترالصامت المتفاقم بين المؤسسة العسكرية المصرية وحركة الاخوان المسلمين، كما تمثلها مؤسسة الرئاسة.
كان السباق مع الزمن يخفي تخوف الكثيرين من احتمال نجاح الاخوان المسلمين في ‘اخونة’ الدولة المصرية، كون ذلك كان سيقضي وبشكل نهائي على الديمقراطية من خلال تحويلها الى ديمقراطية اسلامية على النسق الايراني، اي حصر الديمقراطية في الاحزاب الدينية التي يوافق عليها ‘المرشد العام’. وهذا يعني انه سيتم خلق مرادف سُنِي ِ في مصر للنموذج الاسلامي الشيعي في ممارسة الحكم والديمقراطية، المعمول به في ايران مع استبدال ‘ولاية الفقيه’ الشيعية ‘بولاية المرشد العام’ السُنِية، وبذلك يتم تحويل قضايا التحالف او الصراع في المنطقة من قضايا وطنية الى قضايا دينية. ويصبح الصراع السني/الشيعي هو اساس التحالفات او الصراعات السياسية في المنطقة عوضا عن الصراع العربي/ الاسرائيلي مثلا، وهو بالضبط ما تسعى اليه امريكا وتتمناه اسرائيل، التي سوف تجد شرعيتها المفقودة في هذا الوضع الذي يستند الى الهوية الدينية، عوضا عن الهوية الوطنية التي ينفي وجودها اساسا اي شرعية للدولة اليهودية ويعزز من وضعها كبؤرة للتوتر ومحور للصراع في الاقليم باعتبارها كيانا غاصبا مصطنعا.
وهنا تكمن الاسباب الحقيقية للتأييد الامريكي لحكم الاخوان لمصر بعد ان اعطوا الضمانات المبكرة باحترام اتفاقات كامب ديفيد. فمصلحة اسرائيل هي الاساس بالنسبة لامريكا واعادة تعريف اسس الانتماء والصراع والتحالفات في المنطقة من اسُس وطنية الى اسس دينية يصب مباشرة في مصلحة اسرائيل ويعطيها اساسا لشرعية تفتقدها في الوضع الحالي القائم، بل وقد يجعل منها كيانا اصيلا وليس دخيلا وغاصبا، كما هو عليه الحال الان.
ولكن هل كان الاخوان خاليي الذهن من كل هذة الابعاد الخطرة على مستقبل مصر ومستقبل المنطقة؟ وهل كانوا من السذاجة بحيث فاتتهم خطورة النتائج النهائية لسياسة ‘الاخونة’ وماسينتج عنها من اعادة تعريف هوية جميع الدول العربية وتغيير اسس الصراعات والتحالفات في منطقة الشرق الاوسط، ناهيك عن اعادة مجتمعاتها 1400 عاما الى الوراء؟
ان حشر مارد التقدم في قمقم الماضي باسم الدين هو امر يتنافى وجوهر الاسلام الذي جاء ثورة على واقع التخلف والظلم وقوة للتغيير الحقيقي الذي ادى الى قيام امبراطورية اعترف العدو قبل الصديق بفضلها على الحضارة الانسانية وعلى تقدم العلوم بانواعها المختلفة. كيف يستعمل البعض هذا الدين العظيم كقوة للتخلف واعادة الناس الى قمقم الماضي؟
من هنا تأتي خطورة السماح لاي تنظيم سياسي او اجتماعي الادعاء بتمثيل الدين، او التحدث باسمه او احتكار الحقيقة. فالدين الاسلامي يخلو اصلا من طبقة رجال الدين (الكهنوت الديني) وينطلق من بساطة العلاقة بين الخالق والمخلوق كما جسدتها الاية الكريمة ‘وادعوني استجب لكم’. واذا كان هذا هو الوضع فما بالك برئيس حزب لقبه ‘المرشد العام’ وهو يتصرف وكأنه حامي حمى الدين ومالك الحقيقة التي تستوجب من كل اتباعه ان يَُقبِلوا يده، حتى لو كان ذلك التابع رئيسا لدولة كبرى مثل مصر.
هل الشرعية المنبثقة عن الديمقراطية هي مطلقة ام ان هنالك ضوابط اذا ما تم تجاوزها تصبح الشرعية خطرا على الديمقراطية؟ بمعنى هل يحق لاي نظام يدعي الحفاظ على الديمقراطية ان يستعملها في الوقت نفسة للاستيلاء عليها وتجييرها لصالح نظام حكم بعينه؟ هل يجوز استعمال الشرعية للانقضاض على الديمقراطية ومصادرتها وتغيير معالم الدولة المدنية وتحويل صفتها الى دولة دينية؟ وهل التصدي لمنع حصول ذلك يعتبر اعتداء على الشرعية؟ اين نحن من كل هذا وذاك؟
ان الذعر الذي اصاب قيادة الاخوان المسلمين في مصر من سقوط حكمهم قبل اتمام مهمة’اخونة’ الدولة قد عبر عنه ‘المرشد العام’ محمد بديع عندما شَبَه سقوط حكم مرسي بهدم الكعبة المشرفة. وهذا الذعر يعبر عن قناعة دفينة لدى الاخوان بان اي مسار ديمقراطي حقيقي لن يؤدي الى عودتهم الى السلطة من خلال صناديق الاقتراع وان هذه فرصة واحدة بالنسبة لهم، ومن هنا حرصهم على اتمام عملية ‘الاخونة’ قبل انتهاء ولاية محمد مرسي.
ومحاولة التستر خلف شعار الشرعية كعذرلاجهاض اي محاولة لوقف سياسة ‘الاخونة’ يطرح تناقضا حتميا بين النتائج الحتمية لممارسات تلك الشرعية اي ‘الاخونة’، ومستقبل الديمقراطية واستمرارها. وهذا يطرح بالتحديد التساؤل فيما اذا كان يجب السماح للشرعية بالانقضاض على الديمقراطية وبالنتيجة تحويل الشرعية الى وسيلة لاستبدال الديمقراطية المدنية بديكتاتورية دينية .
الزمن لا يعود الى الوراء ابدا الا بصفته تاريخا. وما جرى في مصر هو في هذا السياق. والمطالبة بعودة ساعة الزمن الى الوراء هي مطالبة غير واقعية وغير ممكنة ولا تُشكل حلا. فالحل لمعضلة مصر الان يجب ان يكون سلميا مع اعترافنا بصعوبة ان يكون توافقيا. ان سلمية اي تحرك بغض النظر عن مصدر ذلك التحرك هي قضية اساسية لمستقبل مصر واستقرارها. والعنف والاغتيال السياسي والارهاب الفكري والتكفير هي امور يجب الابتعاد عنها وادانتها من قبل الجميع، باعتبارها ادوات قهر وقمع تتنافي وابسط قواعد الديمقراطية.
ما جرى في مصر هو بالنسبة للبعض ثورة شعبية ضد انقلاب على مدنية الدولة، وبالنسبة للبعض الاخر انقلاب استباقي مدعوم بثورة شعبية ضد انقلاب تحت التنفيذ مدعوم بحزب في السلطة. ولكن تبقى الحقيقة الاساس انه لا يجوز مبادلة اقصاء الاخوان للاخرين باقصاء الاخرين للاخوان. وهذا لا يشكل دعوة الى اعادة الامور الى سابق عهدها ايام محمد مرسي، بقدر ما يشكل دعوة لالغاء كافة اجراءات ‘الاخونة’ وكل ما تمخض عنها من سياسات وممارسات اقصائية، وسن ما يلزم من التشريعات التي تحمي مدنية الدولة ومؤسساتها، ومن ثم فتح باب المنافسة الديمقراطية الحرة امام الجميع بالتساوي ومن دون اي اقصاء لاحد.


*نشر هذا المقال في جريدة القدس العربي اللندنية بتاريخ  29/ 7/ 2013