د. لبيب قمحاوي

شكّلت سنوات حكم نوري المالكي الثمانية بداية المأساة الجديدة التي يمر بها العراق الآن. فنهج الانتقام والعنف والفساد والتبعية لايران، مكللة بعملية الاقصاء المقصودة لمجتمع سُنّة العراق والعقوبات الجماعية لأعضاء حزب البعث السابقين وكوادر الجيش العراقي المنحل أو بالأصح لكافة المجموعات السكانية المؤيدة سابقاً لصدام حسين سواء عشائرياً أو سياسياً أو عسكرياً قد شكل الأرضية التي أعطت حكم نوري المالكي صفته الإقصائية والدموية والتي أعطت أيضاً مؤشراً مبكراً للطبيعة الدكتاتورية الاستئثارية والإقصائية لهذا النظام.

لقد شكل واقع الحال هذا وضعاً ضاغطاً على المكوﱢن السني للشعب العراقي وعلى المناطق السنية التي أصبحت خارج اطار الاهتمام الحكومي وتم استثناؤها من معظم مشاريع التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وتولد شعور غاضب لدى سكان المنطقة بالظلم والاجحاف مما دفعهم إلى العمل بصمت على تعبئة الفراغ الناشئ عن غياب الحكومة من خلال الاعتماد أكثر وأكثر على المجالس العسكرية المحلية (وهي المجالس التي شكلها ضباط وأفراد الجيش العراقي المنحل في مجتمعاتهم المحلية) والمجالس البلدية والعشائرية. وهكذا ابتدأ التحضير للعمل من أجل رفض هذا الواقع السئ وإلغاءه ووضع أسس جديدة لمستقبل العراق متمثلة إما بإعادة اللُّحمة إلى العراق الممزق من خلال تعزيز مبدأ المواطنة المتساوية والمتكافئة والناجزة، أو تقسيم العراق.

وقد تلازم هذا التطور في الداخل مع نمو اتجاه ضمن أوساط ما يسمى بمعسكر الاعتدال العربي المناهض لايران بقيادة المملكة العربية السعودية يسعى إلى تخليص العراق من قبضة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي ونهجه الذي أدى إلى بسط النفوذ والسيطرة الايرانية على العراق. وبخلاف ذلك فإن البديل يكون بتقسيم العراق واستقلال الإقليم السني حيث سيؤدي ذلك إلى إضعاف العراق الخاضع للنفوذ الايراني من جهة، وضمان موطئ قدم سني مضاد لايران في العراق العربي السنيّْ من جهة أخرى. ومن هنا يمكن البدء بمحاولة استيعاب طبيعة الدور المفاجئ والقوي الذي يلعبه تنظيم “داعش” في الحوادث الأخيرة في العراق. ولكن ما هي حقيقة تنظيم “داعش” ؟ ومن هم أهلها؟

الغموض الذي يلف تنظيم “داعش” هو ظاهرة طبيعية تلازم التنظيمات الباطنية المسلحة التي تسعى إلى التغيير من خلال استعمال أدوات الإرهاب والعنف ضد الأفراد أو المجموعات المدنية . وهي تعتمد في انتصاراتها على عنصر المفاجأة وبث ثقافة الرعب التي تجعل المرء خائفاً ومذعوراً من معارضة ذلك التنظيم أو التصدي له. والواقع أن أفراد “داعش” هم في أصولهم أعضاء في تنظيم القاعدة تم استصلاحهم من قبل بعض الأجهزة الاستخبارية وبعض الدول ومنها دول عربية نفطية .

العنوان العقائدي لتنظيم “داعش” (وهو اختصار للإسم الأصلي: الدولة الإسلامية في العراق والشام)، يدعو إلى برنامج مماثل لبرنامج أنطون سعادة مؤسس الحزب القومي السوري الإجتماعي الذي دعى لتأسيس دولة واحدة في الهلال الخصيب الذي يشمل العراق وبلاد الشام أي سوريا والأردن ولبنان وفلسطين . الخلاف بين الإثنين هو الإطار. فأنطون سعادة دعى إلى تأسيس تلك الدولة ضمن إطار مدني , في حين دعت “داعش” إلى تأسيسها كدولة اسلامية. إطارين مختلفين ومتناقضين لفكرة واحدة ! ناهيك عن الاختلاف الجذري في أسلوب التطبيق .

وبالرغم مما يُقال ويُشاع عن وجود علاقة تمويلية وتسليحية بل وإشرافية بين بعض الدول الغربية والعربية النفطية وتنظيم “داعش”، فإن السيطرة الدائمة والمستمرة على مثل هذه التنظيمات أمر صعب . فهذه التنظيمات تجنح في البداية نحو الانصياع ومن ثم تخرج عن السيطرة وتنقلب على سادتها وأصحاب الفضل عليها. والأمثلة على ذلك كثيرة ومنها بالطبع التنظيم الأم “القاعدة” .

ولكن ما هي الأسس والظروف التي أدت إلى ائتلاف “داعش” مع باقي القوى الفاعلة في الإقليم السني ومنها بقايا تنظيم حزب البعث في العراق، والمجالس العسكرية والعشائرية في الأنبار، والحركة “النقشبندية” وهي حركة ابتدأت صوفية ويقودها عزت ابراهيم الدوري النائب السابق لصدام حسين؟ ما الذي جمع هذه القوى معاً؟ وهل أهداف القوى العراقية السنية متماثلة مع أهداف “داعش”؟ دعونا نعمل على سبر غور هذا التحالف ومعرفة مدى تطابق أهداف مكوناته وهل سيستمر هذا التحالف أم سينقلب إلى حالة من الصدام والعداء؟

كان من الصعب على المُكَوﱢن السني للشعب العراقي القابع باستمرار تحت المراقبة الأمنية لحكومة المالكي أن يقوم بثورته على مراحل أو دفعات لأن ذلك كان سيعطي المالكي الوقت والعذر اللازمين للانقضاض على المحافظات والتجمعات السنية وتمزيقها إرباً. والحل كان يقتضي تشكيل تحالف من قوى مختلفة للانقضاض على قوات المالكي في تلك المدن والمحافظات بسرعة البرق ودحرها بل تهديد بغداد نفسها وهي عاصمة الدولة ومركز الحكم حتى يفقد نظام المالكي توازنه . وقد تطلب ذلك على ما يبدو الاستعانة بتنظيم سُنّي , معادٍ للنهج الشيعي الإقصائي وله تاريخ في الدموية وإثارة الرعب حتى يأخذ عنصر المباغتة مداه الحقيقي وأثره المنشود . وهنا يأتي دور بعض الأجهزة الاستخبارية ودول الإقليم خصوصاً المعادية لايران في تسهيل الأمور أمام خلق هذا التحالف السني مع تنظيم “داعش”.

“داعش” تنظيم لا يمكن تعريفه أو استجلاء طبيعته بشكل واضح ودقيق. وهذا الغموض يجعل من العلاقة معه أمراً خطراً قد يحمل في طياته أهدافاً لا يمكن القبول بها. فالأطراف المتعاونة أو المتحالفة مع “داعش” لا يمكنها أن تحدد بشكل دقيق الأهداف الخفية لداعش من وراء التحالف معها . ولعل ذلك يعطي مؤشراً على مستقبل التحالف بين “داعش” والأطراف الأخرى في المكون السني العراقي . إن مثل هذا التحالف على ما يبدو لن يدوم طويلاً وستنقلب العلاقة التحالفية إلى علاقة عداء معلن بأسرع مما يتوقع الكثيرون . فالوعي السياسي والمدني لاتباع صدام حسين من السُنّة وكذلك بقايا حزب البعث العراقي هو أكبر بكثير من الفكر المتزمت والأهداف الغامضة والأساليب الدموية والمرجعية الخفية لدى “داعش”. ومع أن هذا التحالف قد استند فيما يبدو إلى مبدأ أن “الضرورات تبيح المحظورات”، إلا أن الصِدَام بين أطراف هذا التحالف يبدو حتمياً. فما يريده المكون السني العراقي من خلال الثورة على حكومة المالكي ونظامه يختلف اختلافاً جذرياً عما تريده “داعش” من إقامة دولة الإسلام في العراق وبلاد الشام . واذا كان بقاء التحالف مرهوناً بسقوط حكومة المالكي، فإن بوادر سقوط المالكي ونهجه اذا ما تأكدت قد تشكل الأرضية الكافية لفتح باب الصراع بين أطراف التحالف السني الوطنية والمدنية من جهة, و”داعش” الإسلامية ذات الأهداف الغامضة والولاءات الخفية من جهة أخرى، دون الحاجة لانتظار السقوط الفعلي لنظام المالكي .

من الواضح إذاً أن هذا التحالف هو مرحلي وليس استراتيجي، وهذا يعني أن اختفاء الأسباب الموجبة لهذا التحالف، حتى لو كان ذلك قبل تحقيق الأهداف المرجوة كاملة، قد يؤدي إلى فرط عقد التحالف وانتقال العلاقة من تحالفية إلى عدائية. هذا ناهيك عن محاولات محتملة لتنظيم “داعش” للالتفاف على ثورة السُنّة وتجييرها لصالحه وتحويل مطالبها الوطنية إلى مطالب داعشية إسلامية.

إن تعميد عملية تقسيم العراق بالدم سوف تخلق أحقاداً تتوارثها الأجيال وتجعل مجرد التفكير بإعادة توحيد العراق أمراً مستحيلاً. ويبدو أن هذا جزءٌ من المسار والمهمة التي تقوم بها “داعش” الآن. فالقتل والتعذيب وبث الرعب بين صفوف المدنيين وعمليات الذبح الجماعي هي وسائل لا تخدم بالنتيجة هدف المواطنة المتساوية الناجزة الذي يسعى إليه المُكَوِن السني في العراق. وهذه الوسائل الدموية، وإن اعتقد البعض أنها ستؤدي إلى زعزعة حكومة المالكي، وهذا ما قد يحصل، إلا أنها إذا ما استفحلت قد تؤدي إلى غرس الأحقاد في النفوس وتضفي شرعية دموية على نهج الانتقام ومن ثم الانتقام المتبادل , وتجعل من موضوع المواطنة المتساوية أمراً هامشياً.

الخطأ الاستراتيجي يكمن إذاً في قبول المكون السني للشعب العراقي في منطقة الأنبار بالتحالف مع “داعش”. وحتى لو كان ذلك التحالف موحى به من خارج العراق ، أو بناءً على نصائح قادمة من بعض الدول العربية، فإن القبول به يشكل خطأً كان من الواجب تفاديه. فهو بالإضافة الى كل ما ذ­كر سابقاً، فإنه يضفي مسحة دموية طائفية على المطالب المحقة للمكون السني للشعب العراقي في المواطنة المتساوية والناجزة , ويوسع دائرة الصراع ويدخلها في مستنقع الصراعات الإقليمية كون دائرة النشاط لداعش تشمل دولاً عربية أخرى بالإضافة إلى العراق.

إن محاولات داعش التسلل إلى الأراضي السورية أو الأردنية أو اللبنانية لا ينسجم مع أهداف المكون السني في العراق. فالنتائج السلبية لنشاطات هذا التنظيم لن تنحصر في هذه الحالة بالعراق بل ستمتد إلى بعض دول الإقليم. إن احتلال مناطق داخل الأراضي السورية في البوكمال ومحافظة دير الزور وإعلان البيعة والحكم الإسلامي فيها مع باقي مناطق الأنبار سوف تؤدي إلى توسيع رقعة العمليات المسلحة إلى خارج الأراضي العراقية وتحول أهداف الصراع من محلية عراقية إلى إقليمية داعشية لتشمل الأراضي السورية، وقد تمتد إلى لبنان والأردن من خلال عمليات تخريبية تهدف إلى زعزعة الاستقرار وارهاب المدنيين. وهذا يعني أن هنالك محاولة واضحة من “داعش” للاستفادة العاجلة من علاقتها التحالفية مع سُنّة العراق من أجل الامتداد في أراضي الدول المجاورة، مما يخلق تعارضاً واضحاً بين أهداف المتحالفين ويُعَجّل من حتمية الصراع بينهما. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن هذا الائتلاف قد فتح المجال أمام نوري المالكي لاتهام كافة القوى المعارضة لنهجه والمشاركة في الثورة ضده بأنها داعشية وأنها تنتمي لتنظيم “داعش” ونفى عنها بالتالي أي صفة وطنية عراقية أو مدنية مع العلم بأن القوى الرئيسية المعارضة له هي قوى مدنية ووطنية عراقية لها مطالب دستورية ومحقة.

ولن تقف الأمور عند هذا الحد، إذ  تشير التطورات الأخيرة إلى أن الصراع الحالي الدائر بين المكون السني للشعب العراقي وحكومة المالكي قد وضع الأساس لصراع جديد بين أكراد العراق من جهة والمكون السني والتركماني العراقي من جهة أخرى. وتصريح البرزاني الأخير بإسم إقليم كردستان بأن البشمركة لن تغادر كركوك أبداً يعني عملياً استيلاء الأكراد عليها واعتبارها جزءاً من إقليم كردستان العراق خلافاً لأحكام المادة 140 من الدستور العراقي والقاضي بالتفاوض بشأن المناطق المختلف عليها ضمن المعادلة الفدرالية. وهذا يعكس حقيقة الموقف الكردي الساعي إلى استغلال الوضع المتردي في المناطق السُنِيّة من خلال تعزيز مكاسبه وتوسيع رقعة إقليم كردستان العراق على حساب الآخرين وليس المساهمة في حل مشاكل العراق والحفاظ على وحدته وعلى أمن المواطنين كما قيل في حينه . نحن نتكلم إذاً عن صراعات متجددة داخل العراق , وهذا لا يمكن أن يكون بالصدفة أو عبثياً , وفي كل الأحوال , فإن دور اسرائيل في تدمير العراق وتمزيقه كان دائماً وراء الحدث .

إن هذا الوضع سوف يؤدي إلى تآكل الدولة العراقية من الداخل وسيجعل من عملية تفكيك العراق الى كيانات صغيرة عرقية أو طائفية عملية دموية تسمم بأحقادها العلاقة بين مواطني تلك الكيانات لسنوات طويلة إن لم يكن إلى الأبد , ويجعل أبناء الوطن الواحد أعداءً يستقوون بالأجنبي على بعضهم البعض , ورئيس الحكومة العراقية نوري المالكي أكبر مثال على ذلك عندما طالب القوات الأمريكية بالتدخل ضد أبناء العراق الثائرين عليه .

في مثل هذا الوضع وتحت مثل هذه الظروف المنتصر في النهاية هو نهج التقسيم المُعَمّد بالدم وثقافة الرعب التي لا تسمح بالتفاهم بل تشجع على الخضوع والتسليم .

أصبح التخلص من نوري المالكي ونهجه الذي جر الويلات على العراق وحَوﱠله من دولة قائدة في الإقليم إلى محمية ايرانية ضرورةً ملحة إذا ما أردنا الحفاظ على العراق وسلامته ووحدته. وهذا يجب أن يتم من خلال اتفاق وطني يتعامل مع كل عراقي من منطلق المواطنة المتساوية ويبتعد عن أسلوب الإقصاء وسفك الدماء والقتل والتدمير الذي سيؤدي إلى اشتعال حرب أهلية لها بداية وليس لها نهاية.


 

*نشر هذا المقال في جريدة رأي اليوم اللندنية بتاريخ  1/ 7/ 2014