د. لبيب قمحاوي

نجح حكام العرب بإمتياز في وضع شعوبهم في مأزق أصبح الخروج منه مستحيلاً والإستمرار فيه انتحاراً قد يؤدي إلى تدمير ما تبقى من العالم العربي. فالعرب يلعبون الآن أسوأ الأدوار بحق أنفسهم وشعوبهم وأوطانهم ومستقبلهم . إنه دور التابع الذليل والمحلل لخطايا ومخططات وجرائم أعدائهم العاملين على تدمير مصالحهم وطموحاتهم المسـتقبلية .

يدور الحديث الآن عن تدمير تنظيم “داعش” في حملة مسعورة تقودها أمريكا وتحشد لها قوى دولية واسلامية وعربية وكأن “داعش” قوة دولية كبرى يتطلب تدميرها مثل هذا الحلف ، مما يثير شكوكاً مشروعة بأن الأهداف المنشودة ، وغير المعلنة ، من هذا الحلف تفوق مجرد احتواء تنظيم مثل “داعش” والسيطرة على مساره أو القضاء عليه .

العرب الآن في معظمهم لا يريدون لتنظيم داعش أن يبقى أو ينمو أو يحكم . وفي الوقت نفسه فإن معظم العرب يرفضون أن تقوم قوات أجنبية حتى ولو تم تطعيمها ببعض العرب بالإعتداء على أراضي الدولتين السورية والعراقية وربما تقسيمهما تحت شعار تدمير داعش . ولكن المشكلة أن جيشيهما أصبحا غير قادرين على القضاء على داعش فيما لو تم كبح جماح التدخل الأمريكي والدولي . وهكذا فإن العرب الآن يقفون أمام خيار اللاخيار : إما أمريكا بدون داعش أو داعش بدون أمريكا، أو هكذا يتم تسويق المشروع للعرب و العالم. داعش ليست بالمرصاد لأحد ، فقد انتقلت من مرحلة الطفوله إلى مرحلة  الرجولة في أشهر وهي بذلك تجاوزت مرحلة الفطام إلى مرحلة القضم . والذي يقضم لا يقف بالمرصاد بل يفعل إما ما يريد أو ماهو مطلوب منه . فما هو المطلوب من داعش ؟

      المطلوب من داعش أن تخلق نمطاً من الفوضى ، وأن تحيى بل وتـُكـَرﱢس الخلافات المذهبية وأن تنشر جواً من الرعب يدفع الكثيرين إما إلى الفرار أو إلى الخضوع . وأخيراً أن تـُفـْقـِدَ الحدود الأقليمية الحالية للدول قدسيتها من خلال اختراقها و دمج أراض ٍ من أكثر من دولة بشكل يلغي أي احترام للحدود القائمة ويدفع الأمور باتجاه إعادة رسم تلك الحدود التي تم تحديدها في معاهدة سايكس –  بيكو .

إن القيام بهذا الدور قد رافقه طرح سياسي جديد ينسجم ومواقف الأنظمة العربية الموالية لأمريكا ويتمثل هذا الطرح بأن اسرائيل ليست هي العدو الأول الآن ، بل أن هنالك قضايا وتحديات أخرى تأتي في المرتبة الأولى ومنها مثلاً محاربة الأرهاب بالنسبة للبعض أو إقامة الدولة الأسلامية بالنسبة للبعض الآخر . وهكذا فإن صانعي الأرهاب ومقاومي الأرهاب أصبح كلاهما الآن في نفس المعسكر بالنسبة لحالة العداء مع اسرائيل وأصبحت اسرائيل بذلك حليفاً محتملاً لهذا الطرف أو ذاك أو لكليهما.

إن الحديث عن إعادة النظر في منتجات سايكس –  بيكو والذي إبتدأ منذ فترة  كان يبدو للكثيرين في حينه حديثاً بعيداً عن المنطق ومن أوهام بعض المثقفين . ولكن الوضع الآن يختلف بعد أن بدأت العجلة تدور في ذلك الأتجاه . وهذا ، اذا ماتم ، سوف يشكل الحل الحقيقي للمشكلة الأسرائيلية ونهاية للقضية الفلسطينية وللعالم العربي كما نعرفه .

إن خلق سايكس– بيكو الأولى قد تطلب في حينه إرادة دولية ، والغاءها الآن يتطلب أيضاً ارادة دولية . ومع الإختلاف في الظروف التاريخية التي أحاطت بهذا وذاك من انهيار الدولة العثمانية في حينه إلى انهيار النظام السياسي العربي الآن ، فإن النتائج كانت وستكون لمصلحة اسرائيل . سايكس– بيكو الأولى كانت تمهد لإنشاء دولة اسرائيل والثانية تسعى لبقاء واستمرار دولة اسرائيل بل وإعطائها السيطرة المطلقة على المنطقة دون الحاجة إلى خوض الحروب .

فإسرائيل سوف تصبح دولة دينية يهودية في منطقة تعج بالدول الصغيرة المذهبية والطائفية التي لا تستطيع أن تنكر شرعية اسرائيل وحقها في الوجود كدولة لليهود لأنها بذلك تنكر أسس شرعية وجودها نفسه كونها في معظمها ستكون دول مذهبية وهي صفة أقل وأضعف من صفة الدولة الدينية .

هذا هو الهدف الحقيقي من كل ما يـجري حتى الآن . إن إعادة رسم حـدود دول سايـكس– بيكو لن يصبح ممكناً إلا من خلال إضعاف الدولتين العراقية والسورية إلى الحد الذي يسمح بتقسيمهما إلى دويلات مذهبية وطائفية وعرقية . فإستمرار حالة الضعف والتشرذم  وإستمرار واقع التفسخ على مدى سنوات سيؤدي في البداية إلى تكريس أمر واقع جديد ومن ثم تحويله من أمر واقع إلى أمر مشروع يترجم نفسه بدويلات مذهبية أو طائفية أو عرقية معترف بها دولياُ .

ومن ضمن هذه الرؤيا ستكون اسرائيل هي الدولة المحورية والقطب الجاذب لكل تلك الدول الصغيرة والتي قد يدور معظمها في الفلك الأسرائيلي ويحتمي بظله . ولكن هل ستستجيب اسرائيل وتتصرف بإعتبارها دولة شرق أوسطية تنتمي إلى الأقليم أكثر من انتمائها للغرب وحضارته ؟

المؤشرات تشير إلى أن اسرائيل تسير بخطى حثيثة في اتجاه التحول إلى دولة عنصرية بأدوات مماثلة للأدوات التي تستعملها التنظيمات الجهادية الأسلامية  . فهي تسير الآن في مسار استقطابي واضح . فالمجتمع الأسرائيلي منقسم حالياً إلى جزئين أحدهما يهودي “جهادي” متطرف والآخر علماني ، وما يجمع الطرفين حتى الآن ليس اليهودية بل الصهيونية .

وفي اللحظة التي تنسحب فيها الصهيونية لصالح اليهودية فإن المجتمع الأسرائيلي قد يدخل في دوامة من العنف الداخلي والأرهاب اللاهوتي المتعصب بشكل مماثل لما  نشهده الآن في العالم الأسلامي و استرجاعاً لما  شهده العالم المسيحي في العصور الوسطى .

نحن لا ننظر إذاً إلى مشروع يستهدف العالم العربي فقط ، بل مشروع يستهدف الأقليم بما في ذلك اسرائيل كنتيجة حتمية لترابط مصير دول الأقليم ، مع الفارق بأن الجميع لن يتأذوا بدرجة متساوية ولن يستفيدوا أيضاً بدرجة متساوية من التغيير القادم .

الفرق الأساسي بين اسرائيل وباقي دول الأقليم هو أن التغيير المتعلق باسرائيل لن يأتي من خارجها وإنما من داخلها ، ولكن بعد أن تستقر الأمور في المنطقة ويتم تقسيمها ويفقد العرب هويتهم وأنفسهم وأي قدرة على التصدي لأسرائيل بل وأي رغـبة في فعـل ذلك. وعنـدها ، فـإن اسرائيل اليهودية وليس الصهيونية سوف تقاتل نفسها من أجل حسم خلافها الداخلي المتزايد بين هويتها الدينية المتطرفة أو العلمانية . وقد يؤدي فقدان الخطر العربي عليها إلى تعجيل حتمية ذلك الصدام وتقوية المعسكر العلماني على حساب المعسكر الديني اليهودي المتطرف .

إن تحويل هدف إعادة تقسيم المنطقة من فكرة إلى واقع كان يتطلب التدخل العسكري لأمريكا والغرب ولكن بغطاء دولي وعربي يسمح لأمريكا بعمل ماهو ضروري عسكرياً ولكن بإسم ذلك التحالف الدولي وتلك التغطية العربية . وتدخل أمريكا والغرب تحديداً كان يتطلب خلق رأي عام أمريكي وغربي ودولي مؤيد لأستعمال القوة العسكرية في محاولة للقضاء على التنظيمات المصنفة ارهابية أو سلفية أو جهادية . ولكن طالما كانت الضحايا من أبناء المنطقة ، فإن ردود الفعل الأمريكية والغربية لن تتعدى الإستنكار والإدانة ، وكان لابد من خلق حالة من الغضب والصدمة التي تؤدي إلى تغيير أساسي في الرأي العام الأمريكي والغربـي . وهذا تم بعد إعدام اثنين من الرعايا الأمريكيين و واحد بريطاني بطريقة وحشية وعلنية و دون سبب مفهوم ، واستـُنـْفرت آلة الأعلام الأمريكي والغربي وبدأنا نشهد تبلور إجماع سياسي بين الحزبين الأكبر في أمريكا على ضرورة توجيه ضربات عسكريه لمدى طويل لدول المنطقة تحت شعار السيطرة

ضرورة توجيه ضربات عسكريه لمدى طويل لدول المنطقة تحت شعار السيطرة على تنظيم داعـش مما يعنـي أن القـرار بالعـدوان العـسكري هـو قرار اسـتراتيـجي من مؤسـسة الحـكـم (the establishment) وليس قراراً سياسياً من الأدارة الأمريكية (The administration) .

إن التصريح بأن الأعمال العسكرية قد تتجاوز فترة حكم الرئيس أوباما إلى الرئيس الذي يليه يعني أن الأهداف الحقيقية من وراء العدوان تفوق داعش إلى ماهو أكبر، وتحتاج إلى وقت طويل لأنجازها . نحن إذاً أمام توجه استراتيجي جديد للمنطقة العربية، إن لم يكن للأقليم بأكمله ، شاملاً دول مثل السعودية وتركيا ، وربما ايران، والهدف هو إعادة تقسيم المنطقة ورسم حدودها بما يتناسب والرؤيا الأمريكية .

وفي كل الأحوال ، فإن القصف الجوي لوحده لن يحسم المعركة ولن يؤدي حتى إلى القضاء على تنظيم مثل داعش ، كما أنه لن يكون كافياً لأحداث أي تغيير هام في واقع المنطقة . وهذا يعني حتمية دخول قوات من التحالف الدولي إلى داخل الأراضي السورية أساساً ، وكذلك العراقية رغم أن القوى المحلية في العراق قد تكون اكثر فعالية من التدخل الخارجي على عكس سوريا التي تـُعـَتبَرْ الآن أرضاً مفتوحة حُكـْمها لمن غـَلـَبْ . وهذا إن حصل، قد يؤدي إلى رسم حدود جديدة على أرض الواقع خصوصاً إذا أخد الوضع مداه الزمني المتوقع من قبل رئيس الولايات المتحده .

وهكذا قامت داعش من خلال أعمالها الوحشية بتوفير الأرضية لتدخل الأخرين بالأضافة إلى وضع مؤشرات وشواخص التقسيمات لسايكس –  بيكو الجديدة .

لقد ابتدأت بعض الدول الغربية منذ الآن في وضع الأسس لعمليات التفافية مستقبلية في موقفها من القوى السَلـَفية . و بعض الدبلوماسيين الغربيين ابتدؤا في طرح مفاهيم تؤكد بأن السلفيين ليسوا بنفس المستوى. فهناك “السلفيون الجيدون”  أو “good salafis”  وهناك  “السلفيون السيئون” أو ” Bad salafis”، وهذا يجعل خيار التصنيف وشهادات حسن السلوك للمجموعات السلفية حكراً على أمريكا والغرب باعتبارهم القائمين على أمر التصنيف . ويحكم كل هذا مدى تطابق سلوك هذه المجموعة السلفية أو تلك مع المصالح الأمريكية والغربية في أي وقت من الأوقات وليس فيما إذا كانت في حقيقتها متطرفه ودمـوية أم لا.

 إن ما يجري الآن هو بداية النهاية لمسيرة مؤلمة. الكثيرون يتساءلون عن الحكمه وراء مساهمة العرب في الأعمال العسكرية الدائرة الآن بقيادة الولايات المتحدة وهي تهدف في الحقيقة إلى تفتيت العالم العربي؟ ولكن هل تملك الخراف من أمـرها شيئـاً عندما يقودها الجزار إلى المذبـح؟ نـحن لم نـولد خرافاً ولكن أنانية الحكم لدى الأنظمة الدكتاتورية العربية حولت الشعوب إلى خراف أملاً في البقاء في الحكم إلى ما شاء الله، ولكن جاء من هو أقوى من أولئك الحكام ليرغمهم على ذبح أوطانهم بأيديهم بعد أن ذبحوا شعوبهم .


*نشر هذا المقال في جريدة رأي اليوم اللندنية بتاريخ  29/ 9/ 2014