د.لبيب قمحاوي

خلافاً لما هو معتاد، فإن الحديث المتكرر عن ظاهرة داعش يجب أن لا يبعث على الملل نظراً لخطورتها وتعدد مظاهرها والأنكشاف التدريجي لأبعادها الحقيقية والدور المناط بها مما يؤهلها لأن تكون أخطر ظاهرة تصيب العرب والأسلام منذ بداية القرن الحالي .

خطورة داعش تكمن في كونها أداة محلية عربية واسلامية إخترعتها جهات إستخبارية أجنبية لتخدم مخططاتها في بلاد عربية وبإسم الأسلام . وداعش بذلك ترفع عباءة الخطيئة عن الأجنبي وتـَلـْبسَهُا بالنيابة عنه طوعاً له وخدمة لمخططاته وابراءً له من أي إدانة.

بدأ المسلمون والأسلاميون والمعارضون والغاضبون والمُحْبـَطوُن في الوقوع في الفخ الداعشي بشكل متسارع وملحوظ ولأسباب مختلفة. العديد من المواطنين أخذوا في التعبير عن تأييدهم لداعش استناداً إلى تقدير خاطئ من قبلهم بأن داعش هي الطريق الجديد لمستقبل أفضل وهي عدو الأنظمة القائمة وأنها ضد أمريكا والغرب وأنها القناة الحقيقية المفتوحة أمامهم للتغيير. الأسلاميون ، من ناحية أخرى، يَعْتـَبـِرون داعش أحدث إفرازات الأسلام السياسي والتي تؤكد سلامة موقفه الداعي إلى دولة الخلافة وبرهاناً جديداً على نجاح هذا النهج وعلى القبول الجماهيري به. أما أبناء طائفة السُنَة من المسلمين ، خصوصاً في العراق وسوريا، فإنهم يرون في هذا التنظيم الذي يَدﱠعي تمثيل السُنّةِ خـَلاَصاً لهم من الأضطهاد والأقصاء من قبل طوائف أخرى ، دون أن يَعُوا أنهم بذلك إنما يقعوا في فخ التقسيم المذهبي . أما الغاضبون والمعارضون خصوصاً من الشباب فإنهم إما إنخرطوا في صفوف داعش أو قاموا بإنشاء تنظيمات رديفة باعتبار داعش هي الطريق الأمثل للتخلص من الأنظمة الفاسدة المستبدة خصوصاً وأنها أثبتت نجاحها على أرض المعركة أو هكذا يفترضون متناسين دموية واستبداد وباطنية هذا التنظيم .

وهكذا وبإختصار تعددت الأسباب والموت واحد . فداعش توحي بأنها هذا وأنها ذاك وتعطي لكل فئة ما تريد ، في حين أنها في واقع الأمر بعيدة في جوهرها عن كل ما يصبوا إليه الآخرون ويعتقدوا مخطئين أن داعش تمثله . هذا في الوقت الذي تشعر فيه القوى العلمانية والقومية واليسارية بخطورة هذا التيار وتحاول التصدي له منعاً لتفاقم الأمور وتحولها إلى تسونامي ديني سَلَفي يُدَمـﱢر كل شئ دون أن يفيد أحداً

ولكن ما الذي حصل فعلاً وأعطى تنظيماً مارقاً مثل داعش كل هذه السطوة وهذا الأمتداد . ما الفائدة إذاً من الأنتقال من حقبة الأنقلاب العسكري إلى حقبة الأنقلاب الديني إذا كانت المنهحية متقاربه في الأستبداد والظلم وسفك الدماء؟

داعش قد تكون أكثر تنظيم سلفي جهادي يستعمل ويستفيد من سطوة وسائل الأتصال والتواصل الرقمي لخوض حروبه الأعلامية جنباً إلى جنب مع السيف . فمعارك الفيديوهات الصادمة ، والتي تبث عمليات الأعدام الوحشي الفردية والجماعية ، قد خاضتها داعش بنجاح كبير وبشكل جعل منظمات مثل القاعدة تبدو مسالمة ووديعة عند مقارنتها بداعش . ولكن لماذا أصبح إعلام الرعب جزأً من المعركة ؟

لقد تلازم هذا التطور في إعلام الرعب مع ازدياد التحذير الأمريكي من خطورة داعش ضمن حملة إعلامية دولية مقصودة في هذا الأتجاه ساهمت فيها بعض الدول العربية والأسلامية إما لأستثارة الرأي العام الغربي في إتجاه ضرورة تأسيس حلف عسكري لضرب داعش وهذا ما حصل ، أو استثارة حماس الأسلاميين بأن هذا هو الطريق الصحيح . إن محاولة البعض الدفاع عن داعش باعتبارها تمثل الأسلام والمسلمين والنهج الجديد الذي يجب اتباعه للوصول إلى دولة الخلافة الأسلامية، هي كارثة تحمل قدراً كبيراً من الجهل أو التشويه المقصود للأسلام بهدف تحويله في عيون الآخرين من دين التسامح والعدالة إلى دين البطش والأقصاء وقطع الرؤوس. وهذا بالطبع سوف يؤدي ، إذا ما أخذ مَدَاه المرسوم، إلى إعادة تعريف أسس الصراع في المنطقة وتحويلها من أسس وطنية وقومية إلى أسس دينية إقصائية دموية متزمة.

إن مثل هذا التطور سوف يصيب، أول ما يصيب ، وأكثر ما يصيب ، القضية الفلسطينية وفلسطين . فتحويل أسس الصراع من صراع قومي ووطني إلى صراع ديني هو هدف إسرائيلي ينسجم مع واقعها العنصري الديني ويتنافى مع الأسس التي تحكم العلاقات الدولية والمبنية على المصالح الوطنية وليس الأنتماء الديني أو المذهبـي . والتصريحات الأخيره الصادره عن مسؤولين اسرائيليين والتي تنادي بيهودية الدولة وتتنبأ بتحول أسس الصراع في المنطقة إلى صراعات دينية ، يبدو أنها تمهد لمثل هذا التحول. وهذا يعني تحديداً أن الهوية الوطنية الفلسطينية صاحبة الحق في فلسطين سوف يتم العمل على إلغائها لصالح هويات دينية منها الهوية اليهودية المنغلقة دينياً مقابل الهوية الفلسطينية المنفتحه دينياً كون الفلسطينيين شعب علماني يضم في إطاره الوطني مزيجاً من الأديان والطوائف تتمتع جميعها بالهوية الوطنية الفلسطينية الجامعة وبحقها الثابت في وطنها فلسطين .

الأمور لم تقف عند حدود الخطر على فلسطين . فالكثيرون ما زالوا منبهرين بقدرة داعش على الأنتشار السريع والأنتصار في أكثر من دولة عربية في مدة زمنية قصيرة بل قياسية، فما هو السر في هذا التمدد والأنتشار العجيبين؟

يبدو أن داعش أصبحت القطب الجاذب للعديد من المنظمات السلفية والجهادية، بل أصبحت القدوة لهم بعد نجاحها الباهر في حربها الأعلامية والذي أعطى الجميع انطباعاً عنها يفوق حجمها الحقيقي . وقد أدى ذلك إلى مبادرة العديد من تلك التنظيمات بالأنضمام إليها ومبايعة أميرها الجهادي دون قيد أو شرط كما حصل عندما أعلنت منظمة أنصار بيت المقدس مثلاً انضمامها إلى داعش وتأسيس إمارة داعشيه في سيناء وهي بعيده عن مجرى أحداث داعش وأرض عملياتها . وهكذا فإن توحيد تلك المنظمات السلفية والجهادية سواء أكان ذلك واقعياً أو نظرياً إعلامياً قد أدى إلى تفشي وهم انتشار داعش وتغطيتها لمساحات واسعة و دول مختلفة في زمن قياسي الأمر الذي خلق إنطباعاً زائفاً لدى الكثيرين بأن داعش تنتشر كالنار في الهشيم وأنها تحظى بشعبية وقبول واسعين بين أوساط المواطنين .

من نافلة القول أن دمج الأخطار الصغيرة وتحويلها إلى خطر واحد كبير سوف يؤدي بالضرورة إلى توحيد الجهات المضادة  لذلك الخطر . وهكذا ، فإن العالم يتجه نحو مرحلة من الأستقطاب الثنائي بين مؤيدي السلفية الجهادية بقيادة داعش وبين معارضيها في منطقة قلقة وغير مستقره ، مما قد يؤدي إلى انفجار الأمور وخروجها عن السيطرة بشكل يسمح للقوى الأجنبية بالتدخل المباشر بحجة حفظ الأمن والأستقرار . وهذا سوف يؤدي إلى تسهيل مهمة أمريكا في التلاعب بالمنطقة العربية وإعادة احتلال ما تشاء منها أو الأعتداء عليها تحت شعار محاربة داعش والأرهاب .

داعش ، إذاً ، هي الأداة الجديدة والوسيلة الأهم التي استنبطها العقل الأمريكي مؤخراً لأستعمالها كحصان طرواده في مسعى لإعادة تقسيم العالم العربي بل واحتلال أجزاء منه . ومن المحزن أن يتم ذلك بطلب ، بل وبمسعى ، من حكومات عربية تحت شعار مكافحة التطرف الديني ، وهو بالضبط ما تسعى إليه أمريكا وحلفائها من وراء تضخيم خطر داعش. أما الاﱠبعاد العسكرية لهذا النمو الملحوظ لتنظيم داعش فقد أصبحت الآن واضحة في بعض المجالات وإن ما زالت غامضة في مجالات أخرى

أمريكا ومِنْ خلفها بعض الدول العربية التي ساهمت في نشأة داعش ونموها السريع كانت هي السَبـﱠاقة في قرع أجراس الخطر وفي دفع الأمور باتجاه تضخيم خطر داعش على الأمن الأقليمي والدولي وعلى استقرار الشرق الأوسط . ولكن لماذا هذا الأصرار الأمريكي على الأستمرارفي تذكير العالم بذلك مع أن داعش هي في أصولها إختراع أمريكي؟

لقد أصبح الموقف الأمريكي في هذا السياق واضحاً . فأمريكا في دفاعها عن مصالحها الوطنية واستراتيجتها الخفية للوصول إلى تلك المصالح كانت تخطط لأستعمال العرب والأسلام كوسائل ، بالأضافة إلى استعمال العالم ، من خلال إنشاء تحالف عسكري دولي ، لأضفاء نمط من الشرعية الدولية على ماهي بصدده ، مستعملة داعش والأرهاب كعذر وغطاء من أجل الوصول إلى ذلك . فوجود داعش واستمرارها ليس مستهدفاً بالرغم من كل ما يُشاع ، لأن المطلوب بقاء داعش واستمرارها حتى توفر الغطاء والأعذار اللازمة للتدخل الأمريكي والغربي في المنطقة العربية .

التحركات العسكرية الأمريكية والغربية تحت غطاء محاربة داعش تهدف في الواقع إلى إعادة تقسيم المنطقة ، وربما إعادة احتلال اجزاء منها بدعوة من حكومات عربية قلقة ومهزومة في داخلها . ويتم تحريك داعش في هذا الأتجاه أو ذاك طبقاً للمخططات المنشودة خصوصاً في سوريا والعراق. ويتم بالتالي قصف أهداف مقصودة بحجة ضرب داعش بينما هي في الواقع في مأمن من خطر القصف الذي فشل حتى الآن في إلحاق أي ضرر حقيقي بها . فداعش اذاً مقصودة بالأسم بينما دول المنطقة هي المقصودة بالفعل .

سقوط حكومة المالكي الأقصائية وذات الهوى الأيراني كان أول نتائج هذه السياسة ، ودعوة السلطات العراقية لعودة الجيش الأمريكي إلى العراق بحجة الدفاع عن منطقة الأنبار وتأكيد أمريكا مؤخراً عن نيتها إرسال جنود أمريكيين إلى العراق هي ثاني النتائج ، في حين أن القصف الناعم (Soft bombing) الذي تعرضت له داعش عند اختراقها حدود كردستان العراق كان يهدف إلى  تكريس تلك الحدود باعتبارها خطاً احمراً أمريكياً على الجميع إحترامه بما ذلك الحكومة العراقية نفسها هو ثالث النتائج . هذا هو المعلوم حتى الآن بالنسبة للعراق ، أما المخفي فقد يكون تقسيماً جديداً للعراق .

أما بالنسبة لسوريا ، فإن أمريكا فشلت منذ البداية في خلق اجماع دولي على التدخل في سوريا . أما الآن ، وتحت ستار محاربة داعش وتغلغلها داخل الأراضي السورية والذي تم بسهولة ويسر يبعث على الأرتياب ، فإن طائرات التحالف الدولي تقوم بقصف الأراضي السورية كما تشاء تحت ستار قصف داعش .

          داعش إذاً وفرت العذر لأمريكا لأن تتدخل عسكرياً في سوريا وأعطتها الغطاء اللازم لذلك وأضعفت الثنائية القطبية الأمريكية – الروسية في التعامل مع الملف السوري واستبدلتها بجهد دولي لمحاربة الأرهاب الداعشي بقيادة أمريكا مما قد يخلق صعوبات أمام روسيا التي لا تستطيع أن تـُعادي علانية ما يسمى “بالجهد الدولي لمحاربة الأرهاب” . وبالأضافة ، فإن وجود تنظيم سني مثل داعش معادي لنظام الأسد يساهم في خلق توازن على الأرض مع تنظيم حزب الله الشيعي المؤيد لنظام الأسد مما قد يؤدي بالنتيجة إلى تحييد أثر حزب الله على موازين القوى بين الأطراف المتصارعة داخل سوريا ، ويعيد رسم معادلات القوة بين أطراف الصراع داخل سوريا.

وهكذا فإن داعش تـُسْتَعمل الآن من قبل أمريكا لإعادة توزيع الأدوار في الحرب الدائرة داخل سوريا . إن وجود داعش في سوريا هو المدخل الأكثر أهمية الآن لأنهاك نظام الأسد والتمهيد لتقسيم سوريا وإعطاء أمريكا وحلفائها التغطية والعذر اللازمين للتدخل عسكرياً فيها .

إن ما نحن بصدده ما كان ليحصل لولا الضعف والتشتت العربي وانانية وتفرد الحكام العرب إلى الحد الذي سمح لهم بوضع مصالحهم الشخصية فوق مصالح الأوطان التي يحكمون. وهذا بالتالي أعطى الفرصة للأجنبي لأستعمال تيارات تحمل مسميات عربية واسلامية لكنها في حقيقتها معادية للعروبة ولمصالح الأمة العربية .

إن الأسلاميين لا يعيروا أي اهتمام للدولة الوطنية و زوالها لا يعني شيئاً بالنسبة لهم لأن الهدف هو إنشاء دولة الخلافة على أنقاض الدولة الوطنية العربية والأنتماء القومي العربي . والهوية العربية لا تعني سياسياً أي شئ بالنسبة لهم لأن الهوية الوحيدة التي يعترفوا بها هي الهوية الأسلامية .

وعلى الجميع خصوصاً أجيال الشباب أن تحذر من الوقوع في الفخ الداعشي لأن طريق داعش لن تقودهم إلى الجنة أو إلى التغيير الذي ينشدونه ، بل إلى جهنم الزوال السياسي وانعدام الهوية و الرقص على أنغام الآخرين .


*نشر هذا المقال في جريدة رأي اليوم اللندنية بتاريخ  26/ 11/ 2014