د. لبيب قمحاوي

يدور الحديث الأن في الأوساط الأردنية عن المدى الذي سيذهب إليه الأردن في التعبير عن غضبه من تنظيم داعش بعد الوحشيه التي قـُتِل بها الطيار الأردني معاذ الكساسبه . والأكثر من ذلك أن الحديث أخذ يتطور إلى محاولة لأستشراف المدى الذي ستأخذه التفاعلات المتلاحقة على صعيد الحشد العسكري والسياسي والأعلامي الذي أخذ يتنامى محلياً واقليمياً ودولياً ضد تنظيم داعش والمطالبة بضرورة القضاء عليه . وهذا يبعث على التساؤل عن الأسباب الموجبة لهذه الهجمة العالمية وهل نحن بصدد تصعيد وحشد إعلامي يمهد لمرحلة جديدة من العمل العسكري ضد داعش ، أم أننا بصدد محاولة مقصودة لتصعيد التوتر في المنطقة بشكل عام وإعادة خلط الأوراق ؟

الموقف الرسمي الأردني أصبح الآن متسلحاً بتأييد شعبي غاضب وساخط على الوحشية التي ابدتها وتبديها منظمة داعش وعلى المطالب المتكرره للأردنيين للأنتقام من ذلك التنظيم الأمر الذي جعل الأردن أكثر علنية في عدوانيته وعدائه لتنظيم داعش وفي المدى الذي سيذهب إليه عسكرياً للتعبير عن ذلك .

العقاب وليس الثأر هو ما تسلكه الدول في العادة . فالعقاب هو أحد أهم الوسائل لأحقاق العدل وهو بالتالي الوسيلة التي ترتبط دائماً باستعمال العقل وليس العاطفة . هذا ما يجب أن يسعى إليه الجميع ، أي ممارسة العقاب وليس الثأر . فالثأر تعبير بدائي قديم عن الرغبة في العقاب وهو الأسلوب العشائري المتبع في إحقاق الحق . ولكن هذا كان سائداً في العهود الغابرة عندما لم تكن هنالك دول أو قوانين .

يستمر الأردن الرسمي والشعبي حتى الآن في استعمال مفردات مثل “الثأر” و “الأنتقام” دون أي مبالاة بمعنى هذه المفردات أو دلالاتها أو تأثيرها في دعم الثقافة العشائرية على حساب الثقافة الوطنية . فالأردنيون هم مواطنون أولاً وأخيراً وهم ، بهذه الصفة ، يعتبرون الطيار معاذ الكساسبه شهيد الأردن وليس شهيد عشيرة بعينها . ومع تأكيد احترامنا واجلالنا لمشاعر عائلة الشهيد وحقها في الحزن والغضب ، إلا أن معالجة نتائج هذه الجريمة يجب أن تأتي في سياق إمكانات ومصالح الوطن الأردني وسلامة مواطنيه ، وليس استجابة للعواطف فقط ، خصوصاً وأن “فورة الدم” كما يُقال عشائرياً قد قابلتها “فورة دم” وتم اعدام المحكومين الأرهابيين ساجدة الريشاوي و زياد كربولي .

العقل يجب أن يسود على العاطفة ، ومصالح الوطن يجب أن تأتي أولاً وقبل أي انتماء عشـائري . وقدرة الحكم في الأردن على فرض هذه الرؤيا الوطنية سوف تحدد مقدرته على التحكم في تطورات الأمور في المستقبل . والتساؤل فيما إذا كانت جريمة قتل الكساسبه سوف تقوي من يد الحكم في الأردن أو تضعفها في تعامله مع عصابة داعش ، يتوقف بشكل أساسي على قدرة الحكم على نقل ردود الفعل للجريمة البشعة من إطارها العشائري الذي بدأت به إلى إطارها الوطني الأردني والتعامل معها ومع ذيولها على هذا الأساس بإعتبار الشهيد مواطناً أردنياً .

        هنالك من يعتقد أن جريمة قتل معاذ الكساسبه قد غيرت من الموقف الوطني الأردني فيما يتعلق باشتراك الأردن في الحلف الدولي المعادي للإرهاب وفي النشاطات العسكرية التي انبثقت عنه ، بحيث أصبح هذا الموقف داعماً لتلك المشاركة . وفي الواقع فإن هذا الإعتقاد خاطئ . فالأردنيون توحدوا في غضبهم وفي رفضهم لهذه الجريمة النكراء وفي المطالبة بالإنتقام من منظمة داعش وليس أي شئ آخر . إن هذا الموقف الموحد لم يكن نتيجة التوصل إلى توافق وطني على انضمام الأردن للحلف الدولي أو المساهمة في جهده العسكري وبالتالي فإن تأثيره سوف يكون محدوداً ومؤقتاً . فعندما تهدأ النفوس سوف يعود الأردنيون إلى التفكير في الأبعاد الحقيقية لهذا الألتزام مع الحلف الدولي وأثره على الأردن ومصالحه . والحديث الذي يدور حالياً عن جر الأردن إلى حرب برية قتالية ضد داعش كَرَدٍ على مقتل معاذ الكساسبه هو بمثابة الوقوع في فخ قاتل سوف يستنزف الأردن وموارده . وإذا كانت أمريكا تـَدﱠعي أن القضاء على داعش قد يستغرق سنوات عديده تتجاوز الثلاثة ، فماذا عن الأردن بقدراته المحدودة خصوصاً وأن الجميـع يعلم أن داعش تنتـشر في العراق وسوريا وشبه جزيرة سيناء وليبيا وغيرها ، فأي داعش إذاً سوف تقاتل هذه الدولة الأردنية الصغيرة ذات المـوارد والإمكانات المحدوده ؟؟

لقد خُلِقَتْ داعش بهدف تدمير العالم العربي من خلال تدمير مفهوم الدولة الوطنية لصالح دولة داعش الأسلامية التي لا يعلم أحد طبيعتها أو مداها أو دورها . وَمَنْ خلق تنظيم داعش سوف يحرص على بقائه حتى يخدم الهدف الذي أُنشأت من أجله بغض النظر عما يريده الأردنيون . وداعش تعلم جيداً أن الجهد الدولي لمحاربتها هو جهد سياسي بأدوات عسكرية، وهو بالتالي جهداً رمزياً تجميلياً أكثر منه جهداً حقيقياً . داعش تعلم ذلك وهذا ما يجعلها تنظر باستخفاف إلى الجهد العسكري التجميلي للحلف الدولي الذي يعلم جيداً أن الضربات الجوية لن تحسم المعركة . وكما تسير الأمور حتى الآن ، فإن مصير داعش لم يعد مرتبطاً بالجهد العسكري للحلف الدولي بقدر ماهو مرتبط بمدى نجاح داعش في تنفيذ مخطط تفكيك المنظومة العربية وتقسيم دولها وجعل المذهبيه بديلاً عن الوطنية كأساس لدويلات المنطقة في المستقبل . وبحديث آخر فإن أمريكا لن تسمح بزوال داعش قبل أن تحقق الهدف المنشود منها وهو تمزيق الدول العربية الوطنية إلى دويلات مذهبية .

الأردن قد ينزلق بسهولة إلى مستنقع العنف إذا ما استمر في التعامل مع داعش بعنجهية وغرور أو ضمن رؤيا عشائرية ضيقة مما قد يدفع الأمور إلى الحد الذي قد يؤدي إلى انزلاق الأردن إلى فخ العمل العسكري الميداني منفرداً . ويتحول الأردن بذلك إلى كبش فداء للأخرين يخوض حروبهم بالنيابة عنهم ويقدم الشهداء بالنيابة عنهم وكل ذلك مقابل تقديمهم السلاح والمال فقط . والهدف كما يبدو هو تحويل الحرب الدولية على الإرهاب إلى معركة الأردنيين والأردن . وحتى الأن ، يبدو أن الأمور تسير في هذا الإتجاه المرعب .

ولكن الأمور لن تقف عند ذلك ، فمثل هذا التطور قد يدفع داعش للقيام بعمليات إنتحارية داخل الأردن لغايات تدمير الأمن الداخلي وارغام الأردنيين على دفع ثمن موقفهم من داعش . وفي هذا السياق ، فإن الأستقرار والأمن  ، وهو أكبر سلاح في يد النظام الأردني لأسكات شعبه على العديد من القضايا مثل الفساد والمحسوبية ، سوف ينهار تحت وطأه مثل تلك الهجمات الإنتحارية .

وهكذا ، فإن الوحدة الوطنية والغضب العارم الذي أبداه الأردنيون تجاه الجريمة الوحشية التي  ارتكبتها داعش لا يعني وجود اجماع وطني على موقف الحكم الأردني من موضوع الإرهاب والأنضمام إلى الحلف الدولي المناهض له . وشكوك الأردنيون تجاه الأسباب التي أدت إلى خلق داعش بالأضافة إلى موقف أمريكا الأنتقائي في ضرب داعش مازال كما هو لم يتغير . وعندما تهدأ النفوس سوف يعود الأردنيون إلى مناقشة الأسباب والمسببات والأهداف من الحلف الدولي المناهض للإرهاب ومصلحة الأردن فيه ، والتساؤل كذلك عن مصلحة الأردن في التصدي منفرداً للعمل العسكري ضد داعش . وهذا التساؤل سوف يعيد فتح الملف والحوار بين الأردنيين . وقد يتفاقم الخلاف على هذا الموضوع بشكل خطير خصوصاً إذا ما ابتدأ عدد الضحايا الأردنيين في التزايد فيما لو قامت داعش بهجماتها الإنتحارية .

إذا كان هذا هو المتوقع ، فما العمل ؟

هنالك عده خطوات يتوجب على الأردن اتخاذها إذا ما أراد الحد من خسائر محتملة أو أن يتجنب مسار سيؤدي حتماً إلى وضع استقرار الأردن وسلامة الأردنيين على المحك .

الخطوات المطلوبة في هذا السياق كثيرة ولكن أهمها ما يلي :-

أولاً : على الأردن أن يتجنب القيام بأي جهد عسكري قتالي ضد داعش منفرداً . والأساس هو الأبتعاد عن أي قرارات تؤدي إلى إرسال قوات أردنية برية في مهمات قتالية . والتاريخ علمنا أن الجيوش النظامية لا تهزم الميليشيات . بالإضافة إلى أن داعش تتواجد في دول عربية عديدة ذات سيادة مما يعني أن الأردن في محاولته ضرب داعش سوف يقوم بإختراق سيادة دول عربية أخرى بل ويصنع السابقة في جواز فعل ذلك من قبل دول أخرى قد لا تكون عربية ولأسباب قد لا تكون في مصلحة العرب ، إن وجود داعش مبعثر ولا يمكن حصره في مكان ما حتى تتم مهاجمته أو التعامل معه عسكرياً . فأي داعش تلك التي ستقاتلها القوات الأردنية فيما لو قرر الأردن القتال ؟ ولماذا وهذا هو السؤال الكبير ؟

ثانياً : على الأردن أن يسعى إلى معالجة الأسباب التي تخلق البيئة المؤيدة والداعمة لداعش في داخل الأردن . وأهم هذه الأسباب هي الفقر والبطالة والظلم والفساد وغياب الشفافية والعدالة . هذه أمور في غاية الأهمية وعلى النظام الأردني أخذ العبر مما يجري في المنطقة والتوقف عن الأستخفاف بمشاعر الآخرين إذا كانت لا تناسبه أو تتعارض مع مزاجه السياسي . وجنوب الأردن هو أكثر المناطق المرشحة لذلك وهنالك من الدلائل القادمة من هناك ما يبعث على القلق .

ثالثا : الأردن الذي يقع على مفارق الطرق المؤدية إلى العراق وسوريا والسعودية يحمل مسؤولية مراقبة تنقل الأفراد والمعدات بين تلك الدول من خلال الأراضي الأردنية . إن العمل على تجفيف منابع الدعم لداعش سواء بالأفراد أو المعدات من خلال المرور في الأراضي الأردنية هي من مسؤولية الدولة الأردنية بالإضافة إلى أنها أحد الوسائل السلمية الهامة التي قد تساهم في إضعاف تنظيم داعش .

رابعاً : إعادة تعريف دور أجهزة الأمن والمخابرات والإستخبارات الأردنية وتحويلها من قوة للعقاب وملاحقة أصحاب الرأي إلى قوة للردع بحيث تمنع وقوع الأذى على الأردن عوضاً عن السماح بوقوعه مقابل تطبيق العقوبة . إن فلسفة الردع هي إيجابية في أصولها وهي تهدف إلى معالجة منابع وأسباب التوتر ومنع حصول الأذى في الأصل وهذا هو المحك لكفاءة الأجهزة الأمنية وليس عدد المعتقلين من أصحاب الرأي والموقف السياسي .

الأفكار الواردة في هذا المقال تهدف إلى التحذير مما قد ينتظر الأردن فيما لو استسلم للعواطف سواء بحسن نية أو بنية مبيتة تمهيداً لزج الأردن فيما هو غير قادر عليه وبالتالي في غِـنًى عنه . إن الأولوية يجب أن تكون لأستقرار الأردن وسلامة الأردنيين وليس أي شئ آخر . وكل قرار يساهم في ذلك هو قرار في الأتجاه الصحيح وما عداه غير مطلوب أو مقبول .


 

*نشر هذا المقال في جريدة رأي اليوم اللندنية بتاريخ  8/ 5/ 2015