د. لبيب قمحاوي

الدور الوظيفي للأردن يتجدد بإستمرار وبتكلفة زهيدة نسبياً على القائمين على تحديد ذلك الدور والإشراف عليه . وفي الفترة الأخيرة أخذ سقف هذا الدور في الأرتفاع والتمدد بحيث لم يعد محصوراً بالدور العازل المانع كما كان عليه الحال منذ تأسيس الأمارة ، بل أصبح دوراً تفاعلياً مع مجريات الأحداث يؤثر فيها ويتأثر بها وفي بعض الأحيان يصنعها أو يساهم في صنعها .

يبدو أن الحكم في الأردن مصمم أكثر من أي وقت مضى على الإستمرار في لعب الأدوار المناطة به على المستوى الأقليمي . وإذا كانت حادثة مقتل الطيار الشهيد معاذ الكساسبه قد وفرت الغطاء الشعبي لتبرير القيام ببعض تلك الأدوار ، فإن حجم الأندفاعة الأردنية وخطورة تبعات ما تقوم به عسكرياً تحت شعار الثأر والإنتقام قد ابتدأ في دفع العديد من الأردنيين نحو التساؤل عن الحكمة وراء هذه الأندفاعة الرسمية الأردنية وعن ما يمكن أن يتمخض عنها من تطورات قد تدفع بالأمن والأستقرار الأردني نحو هاوية سحيقة ، وهو الوضع الذي تعاني منه العديد من الأقطار العربية المجاورة .

 الأردن وبحكم ما جرى ويجري من إقتتال وحروب أهلية واستنزافية في معظم الدول العربية ، قد أصبح يملك واحداً من أكثر الجيوش العربية تماسكاً وتأهيلاً ، دون أن يعني ذلك أنه أقوى جيش أو أنه قادراً بمفرده على إلحاق هزائم ماحقة بقوى الإرهاب . وبما أن الطيران والقصف الجوي لن يحسما المعركة ضد الإرهاب ، فإن الأردن اذاً أمام معركة طويلة الأمد وعواقبها لن تكون منظورة الآن خصوصاً إذا ما قررت داعش ، فيما لو شاركت الأردن في حرب برية ضدها ، الرد داخل الأردن وبأسلوب العصابات والعمليات الإرهابية ضد المدنيين .

ما نحن بصدده في الواقع ليس أمراً أردنياً حصراً ، ولكنه مخطط يستهدف العرب والمسلمين ، ويستهدف أيضاً إستعمال بعض العرب ضد باقي العرب . إن ما يجري الآن يهدف إلى دفع الأردن للقيام بأدوار خطيرة نيابة عن قوى أخرى أهمها الولايات المتحدة وبشكل قد يؤدي إلى مزيد من الإضرار في الوضع العربي المنهار على عدة جبهات . والأردن بهويته العربية وتاريخه العربي يجب أن لا يقع في هذا الفخ وأن لا يسمح لعوامل الضغط وربما التهديد أن تدفع به إلى المقدمة في مصفوفة غير عربية تهدف إلى القضاء على عالمنا العربي كما نعرفه . والأعذار مهما بدت مُقـْنِعَة وذات شعبية في بداياتها ، لن تستطيع في النهاية أن تـُبَرﱢر قـُبْح النتائج التي سوف تتمخض عن ذلك الدور .

الحديث غالباً ما يستهدف الولايات المتحده ومخططاتها في المنطقة وللمنطقة ، ولكن الحقيقة تبقى هي الأساس الذي يجب أن تُبنى عليه كل المواقف . وفي هذا السياق فإن اسرائيل وأهدافها وأمنها هي المحور الحقيقي لكل ما يجري في المنطقة . ولا ينتقص من هذه الحقيقة المريرة أي معاهدة سلام سواء أكانت مع السلطة الفلسطينية أو مصر أو الأردن . اسرائيل تبقى هي العدو الحقيقي وهي المستفيد الأكبر من كل ما يجري في العالم العربي الآن ، وعلى الجميع أن يعي ذلك . والتستر بغطاء الإرهاب لخدمة أهداف أخرى مستـترة في ثـنايا المخططات الأمريكية – الإسرائيلية للمنطقة العربية لن يُجدي في النهاية لأن النتائج الفعلية سوف تكشف عن نفسها وعن الأهداف الحقيقية من وراء ما يسمى بالحرب على الإرهاب  . وفي هذا السياق من الجدير الإنتباه إلى أن داعش لم تتعامل أبداً مع إسرائيل بإعتبارها عدو العرب والمسلمين . وإذا كانت داعش حركة إسلامية كما تـَدﱠعي ، فكيف يمكنها تفسير غياب أي تواجد لها أو لعملياتها داخل فلسطين المحتله وضد الإحتلال الإسرائيلي وإقتصار ذلك التواجد على الدول العربية ؟

داعش ابتدأت كإختراع أمريكي بتمويل عربي وتدريب عربي . وما يجري الآن هو نتيجة لإنحراف داعش جزئياً عن الأهداف المرسومة لها . فداعش تسير حسب ما تريد أمريكا حيناً ، وينفلت زمامها حيناً آخر . والسبب قد يعود بشكل أساسي إلى كون داعش قد أصبحت عنواناً لمجموعات عديدة وأفراداً عديدين وليست تنظيماً واحداً يمكن توجيهه أو السيطرة عليه بشكل مركزي . وهذا يجعل موضوع الألتزام والضبط والربط شبه مستحيل خصوصاً ونحن نتكلم عن أكثر من دولة وأكثر من مجموعة بأهداف مختلفة وأساليب مختلفة أيضاً .

إن إستعمال أمريكا للحركات الإسلامية بأشكالها وأنواعها المختلفة ليس بالأمر الجديد أو الطارئ . فأمريكا ابتدأت في إستعمال الإسلاميين في حربها الباردة ضد الشيوعية ومن ثم في افغانستان مما مَهـﱠدَ لظهور تنظيم القاعدة وتم بالتالي زرع بذور التطرف والإرهاب في العالم . فأمريكا هي المسؤولة أصلاً عن ظهور ما يسمى بالإرهاب .

إن مجابهة الحقيقة والإعتراف بإن ما يجري في الظاهر يختلف عن ما يجري في الباطن ، وأن الأمور لا تسير في مصلحتنا كعرب أو كمسلمين ، هو أمر ضروري . فالأنظمة قد تعلم ما يدور في الباطن ، ولكن الشعوب تبقى معزولة من قبل أنظمتها عن حقيقة ما يجري وليس لها إلا الظاهر . والحرب على الإرهاب التي يتصدى لها التحالف الدولي هي عبارة عن إدارة صاخبة للصراع فـقط . فالتحالف الدولي بقـيادة أمريكا يدير الصراع مع داعش ولا يصارعها ولا يريد أن يصارعها إلا إذا تجاوزت الخطوط الحمراء المرسومة لها مثل محاولتها إختراق حدود كردستان العراق قبل بضعة أشهر .

مرة أخرى ، لا يوجد حرب ضد الإرهاب ، وإنما يوجد مخطط أمريكي – اسرائيلي وهو الذي خـَلَقَ الإرهاب وخـَلَقَ حلفاً دولياً لإدارة الصراع ضده وليس مصارعته من خلال إستعمال بعض العرب للأعتداء على سيادة دول عربية أخرى تحت ستار ضرب الإرهاب وخلق المبررات أمام غير العرب للقيام بذلك . بعض العرب إذاً يخوضون حربهم ضد العرب الآخرين تحت راية مكافحة داعش ومقاتلة الإرهاب . والأردن على ما يبدو قد أصبح الأكثر تأهيلاً لإحتلال المواقع الأمامية في تلك الحرب نظراً لموقعه المتوسط ولوضعة المستقر نسبياً وتماسك مؤسسته العسكرية واستعداده للعب أي دور يُطلب منه .

ويبدو أن الأمور لن تقف عند حدود الأردن . فزج المزيد من الدول العربية في أَتون هذه الحرب هو جزء رئيسي من المخطط الأمريكي لتدمير النظام العربي بأيدٍ عربية . ومصر التي عَصَتْ على المخطط الأمريكي الهادف إلى تدميرها من الداخل يتم الزج بها في الأَتون الداعشي . فما يجري في مصر الآن ، وقتل واحد وعشرون مصرياً من قبل تنظيم داعش في ليبيا  بالطريقة الوحشية المعهودة لذلك التنظيم ، يهدف إلى زج مصر في معركة أخرى سوف تؤدي إلى إستنزافها وإعادة توجيه مواردها من التنمية إلى الجهد العسكري وهو ما يجري منذ فترة في سيناء . والأخطر من ذلك أن هذه العملية قد تؤدي إلى زج مصر في الجهد العسكري للتحالف الدولي أو لتحالف أوروبي جديد قد يشمل بعض الدول العربية مثل مصر والأردن والأمارات وبعض الدول الأوروبية مثل ايطاليا وفرنسا في جهد عسكري يستهدف الأرض العربية تحت شعار ضرب تجمعات داعش . إن خشية أوروبا مما يجري في ليبيا الآن قد يؤدي إلى تورط أوروبي أكثر نشاطاً في العمليات العسكرية ضد تنظيمات داعش المتواجدة في ليبيا تمهيداً لإحتلال ليبيا أو أجزاء منها . ومثل هذا التطور قد يؤدي إلى تحويل دول المنطقة إلى ساحات حرب تستبيح وحدتها وسيادتها وحتى وجودها الوطني دون أي ضمانة أن ذلك سيؤدي إلى تدمير داعش والقضاء عليها .

العرب ، والأردن منهم ، مطالبون الآن بإظهار مزيد من الوعي لما هم مقدمون عليه وما هو مخطط لهم ومطلوب منهم . والأنظار يجب أن تركز على ما تبقى من الكيانات العربية المتماسكة وأهمها بالتأكيد مصر ، لأنه ، بالرغم مما حصل في مصر ولمصر ، تبقى المقولة أنه “إذا صَلـُحَ حال مصر صَلـُحَ حال العرب” هي المقولة الأصدق والأصح . إن خسارة العرب لدولتين محوريتين مثل العراق وسوريا وتحولهما إلى دولتين شبه فاشلتين ، مستقبلهما في مهب الريح ، هي خسارة قصمت ظهر العالم العربي وجاءت تلبية لمصالح اسرائيل وطموحها في تحويل الكيانات العربية المحورية الرئيسية إلى دويلات هامشيه هائمة لا تعني شيئاً ولا تشكل أي خطر عليها . وما يجري الآن في اليمن وليبيا هو في نفس السياق ويهدف إلى تمزيقهما أيضاً إلى دويلات قبلية فاشلة .

إن هذا المقال لا يشكل هجوماً على الجهود لوضع حد لتنظيم مجرم مثل داعش بقدر ما يهدف إلى كشف الحقيقة . فقدرة داعش على الإنتشار في العديد من الدول العربية في فترة قياسية أمر يبعث على الشك . وأحوال داعش المالية الممتازة وكمية السلاح والمعدات الذي تملكه في كل الدول التي تتواجد فيها أمراً يبعث على التساؤل . وإمتناع داعش حتى الآن عن مهاجمة اسرائيل أو إنتقاد أمريكا هو أمر عجيب إذا ما اعتبرنا في المقابل دموية وعدوانية داعش تجاه العرب والمسلمين ولكنه يؤكد ماهية داعش وارتباطها بأمريكا . وحسم مصير داعش بالطيران أمراً لا يمكن أن يتم إلا إذا رافقه حرب بَرﱢية وهي حرب ستكون دموية ومدخلاً للتقسيم الحقيقي للدول العربية المنكوبة بالداء الداعشي وهذا قد يكون الهدف الحقيقي .

داعش هي في النهاية الأداة الأمريكية لتنفيذ مخطط تدمير العالم العربي من الداخل . والحديث عن كونها رد طائفة السنة من المسلمين على تمدد وإستفحال طائفة الشيعة هو كلام فارغ لا يخدم إلا المخطط الأمريكي . فطائفة السنة من المسلمين لا تحتاج إلى قطع الرؤوس لإثبات وجهة نـظرها .


 

*نشر هذا المقال في جريدة رأي اليوم اللندنية بتاريخ  18/ 2/ 2015