د.لبيب قمحاوي
ما الذي جرى حتى بدأ نجم الحركات الإسلامية بالأفول قبل أن يكتمل صعودها إلى قمة السلطة الإقليمية؟ أين يكمن الخلل وهل هناك سببٌ واحدٌ لما جرى ويجري أو مجموعة من الأسباب ؟ ترى هل أخذتهم العزة بالنصر؟ أم هل قرأوا الخارطة السياسية خطأ؟ أم أخلُّوا بالتزاماتهم وتفاهماتهم مع آخرين مما أدى إلى تخلي هؤلاء عن تفاهماتهم مع هذه الحركات؟ أسئلة مشروعة ضمن حالة متشنجة تتطلب فهم واستيعاب أسباب ومسببات ما جرى ويجري حتى نستخلص العبر. بالرغم أن الإسلاميين لا يملكون برامج حقيقية لأي قضية باستثناء البرنامج الاجتماعي، فإن معظم التوقعات ذهبت إلى أن الوريث الأكبر لحقبة ما بعد الربيع العربي هي الحركات الإسلامية. وقد استندت تلك التوقعات إلى أمرين رئيسين، الأول هو الفراغ السياسي القاتل داخل مجتمعات دول التغيير العربي والذي لم يترك في ساحة المعارضة سوى الحركات الإسلامية المعتدلة باعتبارها امتداداً للهوية الدينية الإسلامية للمجتمع والدولة. والثاني قبول أمريكا والغرب للتعاون مع تلك الحركات الإسلامية المعتدلة ضمن شروط ورؤيا معينة تستند إلى نبذ التطرف والعنف والقبول بإسرائيل إن لم يكن الاعتراف بها. وابتدأت العجلة تدور في ذلك الاتجاه وتم تسخير الإعلام العربي والنفوذ والقوة العسكرية الغربية من أجل العمل على احتواء مسيرة الإصلاح والتغيير ومحاولة السيطرة على نتائجها وجعلها تسير في ذلك المسار وبشكل يؤدي إلى النتائج المرجوة. وأخذت النتائج بالظهور لصالح الحركات الإسلامية في تونس ومصر وليبيا والمغرب وكانت الأردن وسوريا مرشحتين لنفس المصير. وابتدأت القلوب بالخفقان فرحاً لدى الإسلاميين وخوفاً ووجلاً لدى العلمانيين. ولكن فجأة أصبح ما كان أمرٌ محتوماٌ أمراً مشكوكاً به وخاضعاً لميزان المراجعة. ولكن ما الذي جعل هذا التطور السلبي ممكناً؟ وأين نجحت الحركات الإسلامية وأين أخطأت؟ هنالك ثلاثة أخطاء قاتلة ارتكبتها الحركات الإسلامية جعلت من انحسارها أمراً ممكناً. الخطأ الأول، أنها تصرفت بمنطق القوة الإقليمية في حين أنها ليست كذلك كونها تياراً إقليمياً وليس تنظيمياً إقليمياً واحداً. وهذا أدى إلى التعامل معها -وكذلك محاسبتها- من قبل جهات عديدة باعتبارها خطراً متنامياً على الإقليم ككل وعلى التوازنات الدقيقة التي تحكمه، وليست خطراً على دولة واحدة أو أكثر في الإقليم. وهكذا نشأ وضع جعل من أي خطوة سياسية غير محسوبة أو غير متوقعة من قبل الحركات الإسلامية أو تؤدي إلى احتمال الإخلال بميزان القوى في دولة واحدة في الإقليم، سوف ينظر إليها ويتم التعامل معها باعتبارها خطراً على التوازن الإقليمي ككل، كما هو الحال في مصر أو سوريا أو الأردن. الخطأ الثاني، أنها افترضت أن جميع الدول والقوى في الإقليم العربي لا تملك خياراً آخر في حقبة ما بعد التغيير سوى الحركات الإسلامية. وبذلك نزعت معظم تلك الحركات إلى ممارسة أساليب الإقصاء للآخرين والغلو والمبالغة بالثقة في حتمية استلامها للسلطة وعاملت باقي القوى في الساحة السياسية بدونية ملحوظة باعتبارها قوى طفيلية وليست قوى فاعلة لها جــــذورها في المجتمع بغض النظر عن حجمها. وهكذا ساهمت الحركات الإسلاميــــة، دون أن تدري، في تقريب القوى الأخرى بعضـــها لبعض وخلق حـــالة من التقارب المبني على مواجهة خطر الإقصـــاء والانفراد بالسلطة من قبل الحركات الإسلامية والذي قد يؤدي إلى تغيير معــــالم الدولة وطبيعة الحكم فيها. وقد ساهم هذا الاستقطاب في إظـــهار الحركات الإســـلامية وكأنها مصدر الخطر على ديمقراطية ومدنية الدولة، وعلى حق الآخرين في تداول السلطة بشكل عام وليس ضمن الحركات الإسلامية حصراً من خلال المنظور الإيراني الذي يعترف بتداول السلطة ضمن الحركات الإسلامية فقط أي ديمقراطية للحركات الإسلامية فقط. أما الخطأ الثالث فيتمثل في افتقار تلك الحركات إلى الليونة المطلوبة في زمن ابتعد عن العقائدية، وفَشَلْ تلك الحركات بالتالي في طمأنة القوى الغير إسلامية والقوى المدنية في مجتمعاتها المختلفة، وتهدئة مخاوفها من البرنامج الاجتماعي للحركات الإسلامية وعدم إيمانها بالنهج الديمقراطي والدولة المدنية. وقد خلق هذا الوضع حالة متزايدة من الخوف أثرت على مواقف وخيارات العديد من القوى المحلية وجعل معظم تلك القوى تنحاز إلى جانب قوى محافظة وقريبة من الوضع القائم (status quo) خوفاً من تولي الإسلاميين السلطة والانفراد بها. لقد افترضت الحركات الإسلامية أنها القائدة لحركة المعارضة في العديد من الدول. وشاءت تلك الحركات أن تنسى أو تتناسى حقيقة أن انطلاقة ثورات الإصلاح والتغيير جاءت من القاعدة الشعبية العريضة وأن الإسلاميين كانوا هم من حصدوا ثمار تلك الثورات دون أن يكون لهم شرف البذار. وبدلاً من أن تعمل الحركات الإسلامية على تعزيز مفهوم المشاركة اختارت السير في طريق الاستئثار. وبعد أن أبدت الحركات الإسلامية حذراً ملموساً في بداية مسيرتها السياسية عقب نجاح بعض ثورات الإصلاح والتغيير، كما أظهرت ميلاً واضحاً نحو التواضع في مطالبها وتوقعاتها، فقد انزلقت بسهولة واضحة إلى مفهوم الاستئثار عندما أخذتها العزة بإثم النجاح وابتدأت الحركات اللاحقة تقتدي بالحركات التي سبقتها في النجاح وأخذت بالمطالبة بالاستئثار بكل المناصب الرئيسية في السلطات التشريعية والتنفيذية بما فيها الرئاسة. وكان هذا واضحاً أكثر ما يكون في التجربة المصرية والتي ابتدأت بقناعة معلنة من قبل الحركة الإسلامية بالاكتفاء بالمجلس التشريعي ، لتتطور بعد ذلك إلى محاولة الاستحواذ على الحكومة لتنتقل إلى المطالبة بالرئاسة خلافاً لموقفها المعلن في البداية، ناهيك عن محاولتها السيطرة على لجنة صياغة الدستور كوسيلة لتحديد طبيعة ومستقبل الدولة. أما في الأردن، فإن التصريح الغريب للدكتور عبد اللطيف عربيات، رئيس مجلس الشورى السابق لحزب جبهة العمل الإسلامي في الأردن، بأن الإسلاميين يستحقون الاستحواذ على السلطات الثلاث قد خلق فزعاً كبيراً وبلبلة واضحة في البورصة السياسية في الأردن خصوصاً وأنه جاء من شخصية إخوانية معتدلة. وهكذا تولد الانطباع العام بأن الحركات الإسلامية تهدف إلى السيطرة على الحياة السياسية في دول الإقليم العربي خصوصاً الدول التي مرت في ثورات التغيير. من الخطأ الاعتقاد بأن الحركات الإسلامية هي حركات مثالية تعكس طهارة دينية وتعففاً عن المكاسب الدنيوية. فهي في الواقع حركات سياسية تستلهم مصالحها كتنظيم أولاً وبعد ذلك من خلال الاعتماد على الدين والإدعاء بأنها تستلهم فكرها وأهدافها منه. وهكذا وبالرغم من كونها (تنظيم سياسي) كأي تنظيم آخر- فإنها تنصب نفسها وصية على المجتمع وتطالب بتطبيق الشريعة كما تراها هي وضمن برنامج اجتماعي ورؤيا متكاملة لما يجب أن يكون عليه المجتمع وتعتبر أن واجب كل مسلم أن يدعمها حتى ولو لم يكن جزءاً من التنظيم وكأنها بذلك تفترض أن لها الوصاية الدينية على المجتمع . وفي واقع الأمر فإن الحركات الإسلامية بشكل عام هي من أكثر التنظيمات المسيسة التي 'تلعب سياسة' بمفهوم احترافي لخدمة أهدافها ومخططاتها. والانشقاقات التي نشاهدها داخل بعض التنظيمات الإسلامية إنما هي انعكاس لذلك. فالحركات الإسلامية تلعب اللعبة السياسية باحتراف واضح وضمن منظور أناني متسلط يضعها في مصاف أي تنظيم سياسي آخر بغض النظر عن هويته سواء أكان قومياً أم يسارياً أم وسطياً إلى آخر ذلك من مسميات. وما يميز الحركات الإسلامية هو جنوحها نحو استغلال الدين وفرض الوصاية الدينية عن أتباعها أو على غير أتباعها من منطلق مفهوم الوصاية العامة للدين التي لا تقبل الجدل ولا تحتمل التحدي. تعتبر الصورة العامة للحركات الإسلامية من خلال النمطية التي تتبناها في الشكل والموضوع مرعبة للبعض ومستفزة للبعض الآخر. نحن نفهم أن يكون هنالك شكلاً نمطياً لرجال الدين ولكن أن تذهب الأمور إلى حد تعميم نمطية معينة على كافة منتسبي التنظيم فهو أمر يفسره العديدون بكونه استفزازي خصوصاً أنه لا يوجد طبقة رجال دين أو كهنوت في الإسلام من منطلق 'وادعوني استجب لكم'، فالعلاقة مباشرة بين المسلم وربه. إن العديدين يقاربون هذه النمطية في الشكل إلى الزي الذي يرتديه أعضاء في تنظيم مليشيا. إذ لا يوجد نصوص في الدين الإسلامي تطالب المسلم حكماً بتربية ذقنه وإطالة لحيته أو ارتداء ثوب قصير أو شبشب أو صندل عوضاً عن الحذاء. كل هذه بدع أخذت أشكالاً تنظيمية وحملت إشارات استفزازية تخيف العديدين وخصوصاً قوى المجتمع المدني والقوى الغير إسلامية. لماذا كل هذا الاستفزاز والإمعان في تبني مظاهر نمطية لا تمت للإسلام بصلة وإن كانت توحي بذلك؟ إذا كان الهدف الاقتداء أو التشبه بما كان عليه المجتمع أيام الرسول عليه السلام فإن ذلك كان قبل ما يزيد عن 1400 سنة وكان انعكاساً لواقع المجتمع وليس الدين ولم يكن بالتالي يعكس مواصفات نمطية محددة للمجتمع الإسلامي. ومما يزيد الطين بـِلَّه، أن بعض الإسلاميين يغالون في ما يصدر عنهم بالصوت والصورة ويبعث على الخوف والرعب بين أوساط المواطنين العاديين مثل السلفيين في مصر. هناك بعض الحركات الإسلامية التي قفزت من السياسة إلى العمل المسلح تحت الأرض وبمسميات مختلفة أشهرها العمل الجهادي. وحتى الآن لم يستطع أحد أن يقنع أحداً بأن قتل مسلم لآخر عمل جهادي أو قتل إنسان مدني مسالم عمل جهادي؟ والجهاد في الإسلام أمر معروف ومُعَرّف ومُحَدَّدْ المعالم ولا داعي للفلسفة والاجتهاد في هذا المضمار الدقيق الذي رافق بداية الدعوة وكان له أسبابه الموضوعية في ذلك الحين. إن مثل هذه السلوكيات واستعمال الدين في السياسة قد حَوّلَ الإسلام بالنسبة للبعض من كونه الحل إلى كونه المشكلة. وفي الواقع فإن مخالفة بعض الحركات الإسلامية والسلفية للمبدأ العظيم في الإسلام والقائل 'لا إكراه في الدين' قد يكون السبب خلف كل تلك المواقف السلبية تجاه الحركات الإسلامية والإسلام. هذا هو واقع الحال الذي فشلت الحركات الإسلامية في تخفيف أثره على المواطن العادي الذي ثار وناضل من أجل الديمقراطية وتداول السلطة ضمن إطار مجتمع مدني. وقد ترافق مع هذا الفشل نجاحٌ باهرٌ في استنهاض همم القوى الأكثر تشدداً ضمن إطار الحركات الإسلامية والتي اعتقدت أن المستقبل قد حسم لصالحها. وقد ضاعف هذا من الأثر السلبي على قوى المجتمع المدني ونـَقـَلَ الحركات الإسلامية من موقعها ضمن قوى المعارضة من صفة الحليف إلى صفة المشكلة. حالة عجيبة والأعجب أن هذه الاحتمالية لم تستنهض همم قوى الاعتدال ضمن الحركات الإسلامية وبما يكفي لتهدئة الخواطر وطمأنة النفوس وبالرغم من النصائح المبكرة للعديد من أصدقاء الحركات الإسلامية. 


*نشر هذا المقال في جريدة القدس العربي اللندنية بتاريخ 15/ 5/ 2012