د.لبيب قمحاوي

الإسلام هو الحل" شعار عام وفضفاض يربط السياسة بالدين ويتصدر كافة الشعارات الأخرى لمعظم التنظيمات السياسية الإسلامية. وهذا الشعار قد يكون مقبولاً بالنسبة للبعض، ومرفوضاً بالنسبة للبعض الآخر ، وهو بذلك يبقى شعاراً خلافياً. وهذه الخلافية ليست على الإسلام كدين. فهذا موضوع يدخل في إطار المقدس وبالتالي المحظورات. والخلاف إنما هو على "الحل" وماهيته وهذا يدخل في إطار اللامقدس أو المباح كون "الحل" في أصوله موضوعاً سياسياً وليس دينياً. فالمشكلة إذن تكمن في الدمج بين المقدس واللامقدس، أي المحظور والمسموح . والشعار وهو في ظاهره إسلامي و في باطنه سياسي أقرب في واقعه وحقيقته إلى الإسلام السياسي منه إلى الإسلام الديني . والإسلام السياسي هو ممارسة سياسية تستند إلى الدين ، وهي بهذه الصفة، ممارسة قابلة للنقاش والأخذ والعطاء، والقبول والرفض ، ومن هنا ننطلق. لقد ارتبط شعار "الإسلام هو الحل" بتنظيمات سياسية تستند إلى الإسلام كإطار عام و مُوَجـِّه للعقيدة السياسية التي تتبناها تلك التنظيمات . وقد استعملت تلك التنظيمات السياسية الإسلامية ذلك الشعار كمؤشر على تفكيرها العقائدي و كقطب جاذب للمواطن المسلم البسيط من جهة، وكحماية ضد البطش من قبل بعض الأنظمة الحاكمة المستبدة من جهة أخرى . وفي حين أن ذلك الموقف يشكل استغلالاً لقدسية الدين من أجل خدمة العقيدة السياسية وإسباغ نمط من الحماية الدينية عليها، فإنه يشكل ، بالمقياس نفسه ، تعدياً مبطناً على حرية الآخرين في معارضة ذلك التنظيم السياسي بل ومقاومته من خلال الإيحاء بأن تلك المعارضة تشكل اعتداء على الدين نفسه أو عَداءً له. ومن هنا فإن معاداة البعض لشعار " الإسلام هو الحل" ، لا يعود إلى الإسلام بقدر ما يعود إلى "الحل" . فهذا الشعار يبعث على الرضا والقبول لدى البعض كونه يدغدغ عواطفهم الدينية، في حين أنه يبعث، في المقابل، على القلق ، بل والخوف، في أوساط البعض الآخر من المواطنين، بغض النظر عن دياناتهم سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين، كونه يشكل خطراً على رؤيتهم المطالبة بالدولة المدنية. وغموض طبيعة "الحل" وأهدافه يجعل من الشعار أحجية كونه عنوانٌ لشيء غير مُعَرَّف ولم يُطرح محتواه للنقاش العام ولا يوجد اتفاق معلن بين مختلف التنظيمات السياسية الإسلامية على محتواه وأهدافه النهائية. فإذا كان "الحل" دينياً فلا أحد يملك وصاية تسمح له بفرض هذه الرؤيا العقائدية على الآخرين . أما إذا كان "الحل" سياسياً فلا أحد يملك وصاية تسمح له بزج الدين ،وهو مقدس، في ذلك "الحل" وهو غير مقدس ومن صنع الإنسان . علينا أن نقر جميعاً أن هنالك تعددية إيمانية بين المسلمين من أبناء الوطن الواحد، تماماً كما أن هنالك تعددية دينية بين كافة أبناء نفس الوطن. وهذه الحقيقة تحتم على الجميع الابتعاد عن أي برنامج سياسي يصنف المواطنين على أساس دينهم أو درجة إيمانهم. فالتعددية الإيمانية، أو ، الإيمان بدرجاته المتفاوتة، هو أمر يعترف به الدين وعالجه من خلال مبدأ الثواب والعقاب . والحق الذي يملكه الله لا يملكه عبد الله . إن محاولة احتكار الحقيقة والافتراض من قبل تنظيم ما أو مجموعة ما بامتلاكها وصاية على الدين و على كيفية ممارسته لهو أمر في غاية الخطورة. فهذا من شأنه أن يسحق مطالب الإصلاح والتغيير حيث تسعى الشعوب إلى الخروج من قمقم الاستبداد و البطش واحتكار الحقيقة إلى حياة كريمة تكون فيها الشعوب سيدة نفسها و تكون فيها الأنظمة تجسيداً لإرادة الشعب و ليس العكس. و لكن، إذا ما تم استبدال نظام شمولي بنظام شمولي آخر والانتقال من نظام قهري إلى نظام قهري آخر ، فإن حركة التغيير لا تكون قد توقفت فقط، بل تكون قد عادت إلى الوراء. جميعنا يعلم بأن ثورات التغيير ابتدأت كموجات غضب جماهيري في تونس ثم مصر تحت شعارات عامة تعكس المزاج الوطني دون أن يكون لأي حزب أو تنظيم دوراً في نجاح تلك الثورتين . وربما كان لغياب البرنامج العقائدي و التدخل الحزبي الفضل الأكبر في رص الصفوف وتجنب الخلافات و نجاح تلك الثورتين. فالدولة التي تنشدها ثورة الإصلاح و التغيير هي دولة مدنية تعترف بالتعددية بأشكالها المختلفة و لا تحتكر الحقيقة أو الدين أو هوية الدولة. ولكن ما جرى يوم الجمعة الموافق 29/07/2011 في ميدان التحرير في القاهرة من مطالبة القوى الإسلامية (أو بعضها) في مصر بتطبيق الشريعة وطرح شعارات سياسية إسلامية مما أدى إلى انسحاب جماهير عريضة احتجاجاً على رفع تلك الشعارات وعلى ذلك الطرح، لهو أمر غير مقبول وفي غاية الخطورة . بل وأكثر من ذلك فهو إسفين في قلب الوحدة النضالية الجماهيرية في وقت نحن في أمس الحاجة فيه إلى تعزيز تلك الوحدة ، خصوصاً وأن مصر ما زالت تناضل للخروج من مستنقع حقبة القهر والاستبداد والفساد والولوج في حقبة النهوض. فمحاولة احتكار نتائج الثورة أو اغتصابها أمر سيؤدي إلى شق الصفوف وربما إلى الاقتتال الداخلي. لماذا هذا التوقيت من قبل الحركة الإسلامية في مصر وهل هو توقيت انفعالي أم قرار حزبي متفرد أم جزء من خطة مستقبلية لها ارتباطاتها الخارجية؟ هل ما جرى هو أمر مصري داخلي بحت أم جزء من دور جديد للحركة الإسلامية على مستوى الوطن العربي، شاملاً دول مثل تونس و اليمن وليبيا و سوريا ؟ ما الذي نحن بصدده؟ أسئلة تدور في ذهن العديد من المواطنين دون إجابة من التنظيمات الإسلامية حتى الآن . بالرغم من التجارب التاريخية و مراراتها، لا يستطيع أحد أن ينكر على الحركة السياسية الإسلامية دورها في النضال ضد بعض الأنظمة العربية الاستبدادية . وهذا النضال ، و إن كان ضمن المنظور العقائدي السياسي للحركة الإسلامية ، وهذا من حقها كتنظيم ، إلا أن التضحية والمعاناة يبقيان جزءاً من المسيرة النضالية لأي تنظيم سياسي معارض و ليس حكراً على تنظيم بعينه ، وهذا أمر لا يمكن إنكاره. ولكن ما نحن بصدده الآن هو أمر مختلف . هو أمر مصيري يتطلب رص الصفوف والتعاضد والارتفاع فوق العقائدية الحزبية والابتعاد عن محاولة احتكار الحقيقة والدين لأن ذلك من شأنه أن يمزق الصفوف ويصب في مصلحة قوى الشد العكسي المعادية لثورات الإصلاح والتغيير، ويشمل ذلك ما يدور من لغط هامس عن لقاءات أمريكية- إسلامية تشمل قوى إسلامية في بعض الدول العربية التي تمر بمراحل تغيير، أو المرشحة لذلك، بهدف تعبئة الفراغ في السلطة في دول عانت الأمرين من أنظمة مستبدة فاسدة قضت على الحياة السياسية في الدول المعنية وخلقت فراغاً تسعى الشعوب إلى ملئه بقوى سياسية تعكس حقيقة تعددية المجتمع وليس الأحادية السياسية مهما كان شكلها أو جوهرها . إن الحركات السياسية الإسلامية هي شريك حقيقي وأساسي لكافة القوى الشعبية المنظمة وغير المنظمة في نضالها ضد الاستبداد والقمع والفساد الذي تعاني منه الشعوب العربية. وهي بذلك تلعب دوراً محورياً نأمل أن لا يكون مؤقتاً ، نظراً لأن الوجود السياسي والتنظيمي للحركات الإسلامية في معظم الدول العربية أمر واقعي ومعترف به. إن الحركات السياسية الإسلامية هي الوحيدة القادرة على إزالة مخاوف العديد من شركاء النضال ومنهم الحركات الشبابية والمستقلين الراغبين بالعيش في كنف نظام ديمقراطي عماده تداول السلطة في دولة مدنية تساوي بين جميع مواطنيها بغض النظر عن الجنس أو الأصل أو الدين. والجهة الوحيدة القادرة على تهدئة النفوس وطمأنة المواطنين هي الحركات الإسلامية نفسها من خلال طرح برنامج سياسي علني يلتزم بمبدأ تداول السلطة و لا يتعارض مع أسس الدولة المدنية. وفي المقابل ،فإن المحاولات الأمريكية لفتح حوار مع الحركات الإسلامية، سواء أكانت تلك المحاولات في الخفاء أو العلن، مباشرة أو غير مباشرة، يجب أن تقابل بموقف علني وواضح وصلب من قبل الحركات الإسلامية في مقاومة إغراء السلطة و رفض أي صفقة مع أمريكا على حساب مصالح المنطقة وشعوبها. إن نجاح الأنظمة الفاسدة المستبدة في خلق فراغ سياسي مرعب في دولها المعنية قد قلّص الخيارات الأمريكية في التعامل مع قوى التغيير والتنظيمات المناضلة إلى خيار التعامل مع الحركات الإسلامية باعتبارها أكبر تلك القوى وأكثرها تنظيماً على صعيد الوطن العربي. وهذا يعني أن خيار أمريكا في الحوار مع الحركات الإسلامية ، إن حصل، لن يكون مبنياً على قناعة أمريكية بالبرنامج السياسي للحركات الإسلامية بقدر ما سيكون مبنياً على مبدأ فن الممكن واقتناص تلك الحركات ضمن رؤيا تحددها المصالح الأمريكية أولاً وأخيراً . وتاريخ الخيانة الأمريكية لدول المنطقة ومصالح شعوبها و للحركات الإسلامية معروف للجميع. إن الشعوب العربية تجابه الآن العديد من المشاكل الناجمة عن حقبة الاستبداد والفساد ولا يوجد حل واحد سحري لكافة المشاكل بل يوجد حلول مختلفة لمشاكل مختلفة. و ما دام الأمر كذلك ، علينا أن نقر ابتداءً بأن تعددية المشاكل يفترض ويفرض تعددية الحلول . هذا ما يمليه علينا المنطق وهذا ما يجب أن تكون عليه الأمور. والأمور يجب أن تقف هنا و لا داعي لمزج الدين بالسياسة بهدف حماية السياسة بالدين. فشعار "الإسلام هو الحل" أو الإسلام السياسي قد يؤدي إلى إلغاء معظم أشكال التعددية ضمن المجتمع لصالح شكل ما من أشكال النمطية الإسلامية . إن فرض هذا المنطق النمطي لا يعني أن ذلك سيؤدي إلى توحيد الإيمان و جعل جميع المسلمين مؤمنين بنفس الدرجة والمقدار . وما دام الأمر كذلك، فالأوْلى أن نعترف جميعاً بأن الدين لله و الوطن للجميع. و بخلاف ذلك نفتح الباب أمام شعارات أخرى قد تكون أيضاً إقصائية وإلغائية في أصولها و قد تجعل بعض التنظيمات الإسلامية تجرع من نفس الدواء الذي تحاول إعطاءه للآخرين و لا أحد يريد ذلك.


*نشر هذا المقال في جريدة القدس العربي اللندنية بتاريخ  8/ 8/ 2011