د.لبيب قمحاوي

ما يجري الآن في العالم العربي من تغيرات وثورات وقلاقل ونزاعات وانقسامات هي عوارض المخاض الذي تعيشه المنطقة، والذي ربما يشكل نهاية للعالم الذي انبثق عن اتفاقات سايكس- بيكو لعام 1916، وبداية لعالم جديد لن يعترف بالروابط التي تجمع، بقدر ما يعترف بالعصبيات والانتماءات التي تفرق. عالم لن يطمح إلى التطور الشامل، بل يسعى إلى التقوقع كوسيلة للحفاظ على المكاسب الصغيرة التي يراد لها أن تُتَرجم بأوطان مقزمة لا وزن لها ولا قيمة، يُبنى الولاء فيها على الانتماء العرقي أو الطائفي، وليس الانتماء للوطن والأمة. عالم تسوده الفرقة والانقسام والتشرذم، تحكمه وتسير أموره وترسم مقدراته دولة واحدة فقط هي إسرائيل. تلك هي الرؤية التي يريدها خليط عجيب من القوى الخارجية والعربية والمحلية لشعوب ولمستقبل المنطقة، والحدود القصوى المسموح بها للطموحات السياسية لسكانها باعتبارهم قاطنين وليسوا شعوباً .
علينا الاعتراف بداية أن ما يجري الآن في الوطن العربي من مآس، بعضه الأكثر من صنع أيادينا، وبعضه الآخر مفروض علينا هو في الواقع نتيجة حتمية ومحصلة طبيعية لمجريات الأمور في الحقبة التاريخية الممتدة من انهيار الإمبراطورية العثمانية وحتى وقتنا هذا. فهذه الحقبة أفرزت الحدود الحالية لدول الهلال الخصيب، وهي الحدود المعترف بها محلياً وإقليمياً ودولياً. وفي حين يعتبر الكثيرون أن هذه الحدود هي التي عمقت تقسيم العالم العربي وشرذمته إلى ما هو عليه الحال الآن، فإن البعض يعتبر أن ما جرى في سايكس بيكو هو توحيد لموزاييك من الأعراق والطوائف تحت مظلة الدولة القُطْرِية الوطنية. ومع مرور الوقت ظهرت تفسيرات لبعض الأوساط الدولية بأن هذه الاتفاقيات فرضت وحدة سياسية على طوائف أو أعراق قد لا تكون راغبة بذلك، أو قد يكون طموحها السياسي غير منسجم مع الهوية السياسية التي فُرِضَت عليها. ويتم استعمال هذه المقولة حالياً لشرعنة مخططات يجري التحضير لها لتفتيت المنطقة وإعادة رسم الحدود السياسية لدولها. ما جرى في سايكس بيكو عام 1916 أثار في حينه غضب الكثيرين، لأن الشعور الشعبي العام كان بالإجمال عروبياً ومتناقضاً مع مفهوم الدولة القطرية، بل ويعتبرها بديلاً مسخاً لدولة الوحدة العربية. إن التقسيمات الحدودية لتلك الدول تمت لخدمة وتسهيل هدف إقامة دولة صهيونية في فلسطين. وهكذا دخلت اتفاقات سايكس- بيكو وما تمخض عنها في الذهن السياسي العربي، وكذلك في التاريخ العربي المعاصر، باعتبارها تطوراً سلبياً أدى إلى تدمير الحلم العربي بقيام الدولة العربية الواحدة، وساهم من خلال الشرذمة وتقطيع الأوصال إلى تسهيل إنشاء دولة صهيونية في فلسطين.
إلى هنا والجميع يعترف بأن هذا هو ما تعلمناه وعَلِمْنَاه عن تاريخ المنطقة. لكن مع مرور الوقت وبقوة الواقع تحولت الدولة الوطنية من كيان مصطنع ومفروض إلى ناموس مقدس لا يُمَس، وأصبح الدفاع عنه وعن قدسيته واجب كافة المواطنين. وأصبح الولاء للوطن الصغير هو الأولوية التي تسود فوق أي ولاء آخر، وعلى الرغم من انتعاش العواطف والآمال التي رافقت تبلور الحركات القومية والمد الناصري في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، فقد أدت هزيمة عام 1967 إلى بداية انحسار المد القومي لصالح التوجهات الإقليمية الوطنية وبشكل علني. وابتدأ مناخ الهزيمة يعصف بالثوابت العربية وأخذ الجميع يعيدون التفكير بالأولويات من منطلق وطني ذاتي ضيق. وأدى الإحباط الذي رافق الهزيمة إلى تولي أنظمة عسكرية وديكتاتورية الحكم في معظم الدول العربية من السودان إلى ليبيا وسورية واليمن والعراق، ثم جاءت اتفاقات كامب ديفيد ومن ثم وادي عربة لتفتح ثغرة في جدار الحصار السياسي والاقتصادي والأخلاقي على الدولة الصهيونية.
إن مقولة ان ما تمخض عن سايكس ـ بيكو غير عملي وغير عادل، وان هنالك أقليات عرقية أو دينية تستحق أن تكون لها كياناتها السياسية الخاصة بها هي عنوان في ظاهره احتضان لمبادئ حقوق الإنسان، وفي باطنه عدوان مبيت ضد العرب ومصالحهم. بمعنى آخر إن أمريكا والغرب يريدان القضاء على الهوية العربية واستبدالها بهويات أخرى طائفية أو عرقية كأساس للدولة المقزمة. فأمريكا والغرب يريدان تفتييت الكيانات العربية القائمة حالياً إلى دويلات صغيرة، وكذلك تمزيق المجتمعات العربية فيها إلى أقليات تقطن كل منها في دولتها المقزمة الخاصة بها. ولكن هل من المعقول أن ما تُفكّر فيه بعض القوى من أن الكيانات السياسية الهزيلة التي تمخضت عن اتفاقات سايكس- بيكو هي أكثر مما نستحق، وأن الدعوة الهامسة في أوساط بعض القوى الكبرى إلى إعادة النظر في نتائج سايكس ـ بيكو بهدف العمل على تفتيت الكيانات التي تمخضت عنها إلى كيانات أصغر ابتدأت تجلياتها تظهر للعيان. فإعادة النظر في التقسيمات السياسية والجغرافية التي تمخضت عن اتفاقات سايكس- بيكو أصبحت مطروحة الآن بشكل جدي، من منطلق أن ما تمخض عنها في الأصل غير عملي وغير واقعي، وأن هنالك أقليات عرقية أو دينية قد ظُلمت من خلال تلك التقسيمات! كلام خطير جداً مغلف بلبوس إنساني أو ديمقراطي، ولكن الهدف الحقيقي والخفي هو أمن ومستقبل إسرائيل.
وكان تعامل أمريكا وإسرائيل مع هذا الموضوع يسير في اتجاهين، الاتجاه الأول يتمثل بتدمير الهوية العربية، فبعد استنباط هويات قطرية عديدة مثل الهوية السورية أو العراقية أو الأردنية… الخ، تم استنباط هويات أوسع قليلاً مثل الهوية الخليجية كبديل للهوية العربية. وأصبح الانتماء الأساسي هو للهوية القُطرية التي جسّدت العصبية الوطنية. أما الاتجاه الثاني فكان يتمثل في العمل على تدمير الدولة العربية القطرية ككيان سياسي، من خلال شرذمتها وتحويلها إلى دويلات تمثل الانتماء الطائفي أو العرقي وتلغي من قاموسها الهوية الوطنية بهدف تحويل الأقليات في الدولة القطرية إلى أغلبيات نسبية في دول صغيرة مقزمة. منطق عجيب وغريب ولو ساد لقسمت أمريكا أو بريطانيا مثلاً إلى دول عديدة. ولكن القوة لها منطقها الخاص وأساليبها المتعددة وقدرتها على فرض رؤيتها، خصوصاً إذا رافقها استعداد من الطرف الآخر للاستسلام والخنوع والخضوع. وهذه الرؤية تتلازم مع تحول استراتيجي أمريكي وشيك في اتجاه آسيا التي تشكل المستقبل بالنسبة للمصالح الأمريكية، مما يستدعي إعادة ترتيب الأوضاع في الشرق الأوسط بشكل يحوله إلى موازييك من الدول الصغيرة التي لا تملك من أمرها شيئاً تحت إشراف وسطوة إسرائيل، التي سوف تصبح المرجعية الأمنية والعسكرية والسياسية لكل هذه الدويلات وبالنيابة عن أمريكا ودول الغرب.
يرتكز العالم العربي حالياً إلى أربع دول محورية، هي مصر والعراق وسورية والسعودية. والمخطط يدور حول تقسيم كل من هذه الدول إذا أمكن إلى دويلات، أو إذا تعذر ذلك تحويلها إلى دول ضعيفة بكل المقاييس. وهذا لا يعني استثناء باقي الدول العربية من هذا الهدف بقدر ما يتعلق الموضوع بالأولويات، فدول مثل ليبيا واليمن لن تنجو من التقسيم. ودولة مثل السودان التي تم تقسيمها سوف تحترق بحرب بين مكوناتها الأصلية في الشمال والجنوب.
مصر الدولة العربية المركزية والمحورية الأهم والأكبر هي ذات مجتمع متجانس عرقياً وبدرجة كبيرة دينياً ولا يمكن بالتالي تقسيمها إلى دويلات، حيث لا توجد أقليات عرقية يُعْتَّدُ بها أو دينية باستثناء الأقباط الذين يتمتعون بدرجة عالية من الانتماء الوطني. فشعورهم دائماً مصري ولا يوجد لديهم طموحات سياسية للانفصال عن الوطن الأم. والحل بالنسبة لأمريكا يتمثل في الاستعاضة عن تقسيم الدولة المصرية بالعمل على إضعافها وإنهاكها من الداخل وبأيدٍ مصرية، منعاً من أن يؤدي التدخل المباشر لأي قوى أجنبية إلى استفزاز الوطنية المصرية. وهكذا تم العمل على تسهيل استلام حركة الإخوان المسلمين للحكم كوسيلة لإضعاف اقتصاد الدولة المصرية وتحويل سياسة أخونة مصر إلى أداة لتدمير وحدة المجتمع. ومع أن جهود إضعاف وإنهاك مصر ما زالت في بداياتها، إلا أننا نشاهد مؤشرات خطيرة لما ستؤول إليه الأمور في ما لو نجح المخطط الأمريكي بنحر مصر، في حال عدم القدرة على تقسيمها مثل قيام دولة ضعيفة كأثيوبيا بالتطاول على مصر الدولة الإفريقية والعربية القائدة وتهديدها بالفعل وليس بالقول في أهم قضية استراتيجية ألا وهي مياه نهر النيل.
أما السعودية فهي قابعة تنتظر إشارات قادمة من واشنطن لتحدد مصيرها. وأخطر تلك الإشارات هي المتعلقة بالمنطقة الشرقية ذات الأغلبية الشيعية والممتلئة بالنفط والرغبة الأمريكية بفصل الدين عن النفط. ويعتبر مصير العائلة المالكة السعودية ومستقبلها جزءاً من هذه الرؤية.
كان النظام العراقي تحت قيادة صدام حسين من القوة والصلابة بحيث كان من المستحيل اللعب على واقع الاثنيات والطوائف المتعددة التي كونت المجتمع العراقي. لهذا كان القرار الأمريكي- الغربي باحتلال العراق وتدمير اقتصاده ومجتمعه وشرذمته وتقسيمه إلى طوائف وملل، طولاً وعرضاً، بحيث تم تقسيم العراقيين الأكراد والتركمان عرقياً، والعراقيين المسلمين العرب طائفياً إلى سنة وشيعة، وبذلك تم استعمال أكثر من مقياس لجعل تقسيم العراق من السوء بحيث يستحيل إعادة توحيده. فالدولة المركزية موجودة نظرياً ولكنها محصورة عملياً في بغداد. والأقاليم هي في واقعها أكثر من إقليم وأقل من دولة. والوضع العام للعراق هلامي لا شكل له ولا قدرة له على التصرف كجسم واحد صلب. وما جرى للعراق يوضح أن مخطط أمريكا لإعادة تشكيل دول المنطقة ابتدأ منذ فترة سبقت الربيع العربي.
أما الوضع في سورية الآن فيختلف عن كل من مصر والعراق .فسورية متنازع عليها بين أمريكا وروسيا وأصبحت أول ساحة صراع ساخن في حرب باردة جديدة. إننا نشهد الآن إعادة انبعاث حرب باردة من نوع جديد. فالصراع على مصادر الطاقة والنفوذ في المياه الدافئة أصبح يتخذ أشكالاً علنية، ومن السذاجة افتراض العديد من العرب بأن عدو عدوي صديقي. فروسيا والصين تكافحان الآن للحفاظ على مصالحهما في الطاقة وفي الوجود في المياه الدافئة، ولا علاقة لذلك بالمقاومة أو الصراع العربي الإسرائيلي. ولو وصلت الأمور إلى حد الحزم واتخاذ موقف، فقد يكون موقف روسيا والصين تجاه إسرائيل صادماً للعرب الذين ينشدون النجاة من خلال الآخرين وليس من خلال أنفسهم وجهودهم الذاتية. وفي نهاية المطاف لن يسأل أحد سورية عن رأيها في ما سيتم التوصل إليه من اتفاق، لا أمريكا ولا روسيا سوف تسأل. والحل للصراع الدائر في سورية لن يأتي من داخل سورية، بل سوف يفرض عليها من الخارج وعقب اتفاق بين أمريكا وروسيا. ولكن تبقى الحقيقة الأساسية، وبغض النظر عن الحل النهائي للصراع الدائر في سورية، فإن سورية قد دُمّرَت وتحتاج إلى وقت طويل للعودة إلى الحال الذي كانت عليه عشية بدء الصراع.
الحرب الباردة الجديدة تتقاتل فيها القوى العظمى على أراضي العرب والقتلى من العرب والدمار في بلاد العرب والتمويل من أموال العرب. ماذا تريد الدول العظمى وإسرائيل أفضل وأعظم من ذلك؟


*نشر هذا المقال في جريدة القدس العربي اللندنية بتاريخ  17/ 6/ 2013