د. لبيب قمحاوي

“إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب”، حكمة عربية قديمة تشجع على وقف الثرثرة من خلال إعطاء “السكوت” قيمة عالية تعادل الذهب عندما يكون “السكوت” في موضعه . أما الثقافة العربية الحديثة فتتعامل مع اصطلاح “الصمت” باعتباره مرادفاً “للسكوت” بالرغم من أن كلمة “السكوت” تحمل مدلولات الحكمة والتريث،  بينما تحمل كلمة “الصمت” مدلولات الاستكانة والقبول بالأمر الواقع على علاته.

الإنسان الحر هو الذي يفكر وهو الذي يعبر عن موقف،  والبشر الأحرار هم الأعداء الطبيعيون للاستبداد. فالحرية تبدأ في العقل ومن العقل، وباقي التصرفات البشرية هي تعبير عن ذلك، سواء أكان ذلك التعبير لفظياً أم عملياً. أنظمة الاستبداد تريد شعوباً خانعة خائفة مُحيَّدةً وصامتة، لا تستعمل العقل أو اللسان في السياسة، بل تتبنى نهج الصمت والاستسلام لما هو مفروض عليها من الحاكم المطلق أو من أجهزته.

“في الصمت السلامة” كلمات بائسة تعكس واقع أكثر من أربعة أجيال من العرب الصامتين الخائفين المرعوبين المتناسين للتأثير السلبي لذلك الصمت على مستقبلهم ومستقبل أوطانهم . فاصطلاح “الأغلبية الصامتة” في البلاد العربية بالتالي ليس تعبيراً عن خيارٍ حر للمواطن بقدر ما هو اصطلاح يعكس الصمت المبني على السلبية أو الخوف .

النظام السياسي في كل الأقطار العربية يشجع على “الصمت” سواء علناً ومباشرة أو بأسلوب ملتوٍ وغير مباشر. الرأي الآخر هو في العادة أمرٌ مرفوضٌ أو مكروهٌ، مما يعني أن “الصمت” هو فضيلة محمودة بالنسبة لتلك الأنظمة وأن من يلتزم به سوف ينجو بجلده في أسوء الحالات أو سيكافئ ويصنف بأنه من أصدقاء النظام في أحسنها. أما من لا يلتزم بالصمت فإنه يحظى بتسميات مختلفة طبقاً لهذا النظام أو ذاك. فهو في الأردن مثلاً يدعى  “مشاغب” وهو لقب اخترعته الأجهزة الأمنية لتحقير “الرأي الآخر” وتصنيفه باعتباره “مشاغبة” كفعل الولد الصغير وليس رأياً سياسياً يُعْتد به. وفي سوريا يعتبر “خائناً” وعميلاً لمخابرات أجنبية. أما في السعودية فهو “كافر”، وفي مصر هو إما “جهادي” أو “إخواني” أو صديقاً لهم. وفي بعض هذه الأنظمة يكون عقاب عدم الصمت الموت أو الإغتيال، وفي بعضها الآخر السجن وفي حالات آخرى يكون العقاب من خلال الإقصاء والمحاربة في الرزق والوظيفة .

يقودنا هذا الحديث إلى ضرورة استكشاف طبيعة الثقافة السياسية التي تحكم الآن تفكير الفرد العربي ومدى قدرة هذه الثقافة على التخلص من رواسب عهود الاستبداد والطغيان، ومدى مناسبتها وفعاليتها لأن تكون إحدى الوسائل المتاحة أمام الفرد العربي لإحداث التغيير المنشود خصوصاً وأن تلك الثقافة هي نتاج لعقود من الخنوع والاستسلام للطغيان.

السياسة في عهود الطغيان هي حكر على الطاغية وعلى من يُسمح لهم بالتعاطي في الأمور السياسية. وقد تكون أنظمة الطغيان ذات الخلفية القومية أو اليسارية أكثر ما تكون انفتاحاً في القضايا الاجتماعية وأكثرها انغلاقاً في القضايا السياسية . ويتوقف الموضوع بشكل أساسي على موقف قوى المجتمع من نظام الطاغية . فإذا كان النظام يستند إلى أقلية عرقية أو مذهبية فإنه غالباً ما يكون منفتحاً على الأقليات ومعتمداً عليها في إدارة شؤون الحكم وفي شغل المناصب العليا والحساسة .أما إذا كان النظام إسلامياً ويستند إلى قاعدة إسلامية عقائدية فإنه غالباً ما يكون منغلقاً سياسياً واجتماعياً ومتزمتاً وذا نزعة إقصائية واضحة ومُبَررة بأسباب عقائدية لا تسمح إلا لأبناء تلك العقيدة بإدارة شؤون الحكم .

أما الأنظمة ذات الخلفية العسكرية فإنها تكون أكثر انفتاحاً على مختلف قوى المجتمع كونها تستند إلى المؤسسة العسكرية وهي بطبيعتها مؤسسة تغطي قطاعاً واسعاً من المجتمع وتتمتع بدرجة عالية من الديناميكية الداخلية التي تسمح بالارتقاء من مرتبة إلى ما هو أعلى منها. ولكن صرامة العقيدة العسكرية لا تسمح إلا بديمقراطية محدودة كونها تعتمد على إطاعة المرؤوس لمن هو أعلى منه رتبة دون نقاش . ومن هنا ينطلق موقف الكثيرين في تكريس مبدأ ضرورة الفصل بين العسكر والحكم لأن الدمج بينهما يشكل خطراً على النهج الديمقراطي .

النماذج المتعددة للحكم في البلاد العربية هي نماذج غير ديمقراطية في أصولها وفي نهاياتها أبعد ما تكون عن الشفافية والتداول السلمي للسلطة . وقد خلق هذا الوضع نمطاً من الثقافة السياسية والسلوك السلبي الذي ينسجم في درجته مع مستوى العنف والبطش الذي يمارسه النظام المعني ضد معارضيه بدرجاتهم المتفاوتة .

ولكن يبقى السؤال الكبير لماذا لا يستجيب المواطنون لذلك الاستبداد بمقاومة تعبر عن حرية الرأي والإرادة عوضاً عن الاستسلام له ولنتائجه ؟ سؤال هام تتطلب الإجابة عليه فهم واستيعاب منظومة القيم التي أصبحت تحكم المجتمعات العربية .

إن أهم انجاز لأنظمة البطش والطغيان ، والتي سادت لأكثر من أربعة عقود ، هي قتل روح الكرامة والعزة التي سادت في عهود النضال ضد الاستعمار ، واستبدالها بمواقف التذلل والتزلف للحاكم ، إما بهدف السلامة الجسدية أو لغايات الوصول إلى مواقع السلطة والمسؤولية في ظل الحاكم المستبد. وقد ساهمت نزعات الاستبداد والإجرام لدى أولئك الحكام في تكريس المزيد من التذلل والتزلف في محاولات بائسة ومستمرة للاحتفاظ برضى الحاكم وبالتالي بمواقع المسؤولية، أو اتقاءً لشر الحاكم المستبد من خلال تشجيع وتعزيز السلوك السلبي تجاه ما يجري من أحداث. ومع نجاح تلك الأنظمة في البقاء في السلطة لعقود وانتشارها في معظم الأقطار العربية،  تحول ذلك السلوك من حالة طارئة إلى نمط تراكمي مسيطر بل ومتفاقم .

لم تكتفِ تلك الأنظمة بذلك، بل سعت إلى تخريب منظومة القيم الأخلاقية للمسؤولين وشراء ذممهم من خلال ادخالهم في منظومة الفساد المالي والأخلاقي بعد أن تم إفسادهم سياسياً. الفساد المالي والأخلاقي هو جزء من عملية الإفساد التي برعت فيها تلك الأنظمة . فالانحلال السياسي إذا ما رافقه انحلال مادي وأخلاقي يُحَوَّل المسؤولين والمتنفذين إلى أناس مُرْتَهَنين للسلطة ويصبح التعبير عن هويتهم السياسية والوظيفية محصوراً من خلال الأنظمة التي يخدمونها ولا يصبح لهم بالتالي هوية مستقلة تؤهلهم للعب أي دور آخر . وهكذا يصبح الولاء المطلق والصمت هما وسيلة التعبير الوحيدة لأولئك المسؤولين إلا إذا كان النطق في سياق تمجيد القائد أو آرائه أو تمثيل ارادته ورغباته في هذا المجال أو ذاك .

لقد ساهم هذا الوضع المؤسف في خلق طبقة جديدة من أولئك المسؤولين لها الصدارة في المجتمع مما جعلها القدوة للكثيرين كونها الطبقة صاحبة النفوذ والجاه والمال . وبالنتيجة سادت القيم التي تمثلها هذه الطبقة الجديدة ومنها الاستسلام لإرادة الحاكم والفساد واستباحة المال العام. فاستباحة المال العام في نظر أولئك المسؤولين هي حق لهم مقابل ولائهم اللا مشروط للحاكم . والحاكم الطاغية لا يمانع في ذلك من منطلق أن الأرض وما عليها هي ملك له، وأنه يحق للتابعين له، بالتالي، سرقة ما يُسمَح لهم بسرقته. وما دام أولئك التابعين مستسلمين لإرادته فإنهم يستطيعون الاحتفاظ بما يسرقون. فالسرقة ممكنة بإرادة الحاكم، والاحتفاظ بالمال المسروق ممكن بإرادة الحاكم، والثمن هو الاستسلام الكامل والمستمر لإرادة ذلك الحاكم.

إن إيضاح مدى ترابط الدكتاتورية والاستبداد والتعسف بالفساد السياسي والمالي والأخلاقي هي الخطوة الأولى نحو إعادة البناء. فإعادة بناء منظومة القيم والأخلاق العامة واحترام نظافة اليد كأساس لتولي المسؤولية أصبحت قضية مُلِحَة تتطلب جهداً عاماً يعادل في أهميته جهد التخلص من تلك الأنظمة المستبدة الفاسدة. ولعل من أهم الوسائل في ذلك الجهد، بعد إعادة الاعتبار لسيادة القانون والزاميته على الجميع بالتساوي، هو دعم مؤسسات المجتمع المدني المحلية والعربية والتي تـُعنى بالشفافية ومكافحة الفساد بأنواعه وأشكاله المختلفة , واعتبار تلك المؤسسات جزءاً رئيساً من عملية نهوض الأمة ورد الاعتبار لمنظومة القيم التي سادت في هذه الأمة لعقود طويلة.


 

*نشر هذا المقال في جريدة رأي اليوم اللندنية بتاريخ  4/ 6/ 2014