د. لبيب قمحاوي

عندما يفشل أي نظام حكم في أن يكون مظلة لكل مواطنيه وأن يتعامل مع مختلف الآراء السياسية في المجتمع بنفس المقاييس وأن يحافظ على نفس المسافة بينه وبين كل مكونات وقوى المجتمع، وعندما يبدأ في أخذ مواقف معادية لمن يخالفه الرأي، ويبدأ في تصنيف مواطنيه على أساس درجة ولائهم، عندها نعلم جيداً أن هنالك مشكلة حقيقية وأن الوطن في خطر.
الحقيقة هي أن الأوطان العربية كلها في خطر وليس وطناً واحداً فقط . والمضحك المبكي أن كل حاكم عربي يعتقد أنه كان خالداً مخلداً في الحكم وأن الكوارث سوف تصيب الآخرين . ولكن الذي حصل أثبت أن المرء، حتى ولو كان حاكماً مستبداً، فإنه لن يحصد إلا ما زرع, وأن الخلود في الحكم يدخل في باب الأماني والتمنيات. فنمط الحكام الذين ابتلى الله بهم الشعوب العربية هو نمط متقارب جداً، نفس الأساليب تقريباً ونفس الأهداف بغض النظر عن آراء الحاكم سواء أكان قومياً أم إسلامياً، أم يسارياً أم لا شيء. وفي كل الأحوال فإن الأذى الذي سببته تلك الأنظمة لشعوبها كان  متقارباً ونتائجه كانت وبالاً على الشعوب وعلى قضاياها وقضايا  الأمة.
لا يستطيع أي نظام حكم ولا يملك أن يتصرف وكأنه يسمو على الشعب الذي يحكمه وأن إرادته هي التي تسود وليس إرادة الشعب. فهذه النظرة تعكس تَجَذر قيم الطغيان والاستبداد في ذهن النظام وحتمية انتقال ذلك الموقف عمودياً إلى أسفل بحيث يصبغ سلوك المسؤولين في ذلك النظام إن لم يكن لسبب محدد فهو على الأقل من باب الاقتداء بالحاكم والتزلف له. وهذا يعزز بالنتيجة حتمية انتقال فكر الحاكم المطلق ومواقفه وقناعته إلى النظام نفسه ومنه إلى الدولة بحيث تصبح الدولة  تجسيداً لإرادة الحاكم ومرآة تعكس أفكاره وآرائه ومواقفه.
الفشل الذي يعاني منه النظام العربي الآن هو نتيجة حتمية للغياب الحقيقي للمؤسسية في الحكم ولمبدأ تداول السلطة لمدة تزيد عن أربعة عقود نتيجة لاختزال ذلك النظام في أشخاص قادوا مجتمعاتهم لعقود من خلال أنظمة دكتاتورية دموية متسلطة سعت لتفريغ المجتمعات التي تقودها من أي مؤسسات حتى تستطيع الحفاظ على مفاتيح القوة والسيطرة وحصرها بيدها و بما يؤدي الى منع أي تهديد لوجودها أو لاستمرارها. وهكذا تحول النظام العربي إلى مجموعة من الحكام المستبدين يديرون الحكم من خلال أنظمة عشائرية أو قبلية مثل عشيرة آل صدام حسين وقبيلة حزب البعث في العراق، وعشيرة آل مبارك و قبيلة الحزب الوطني في مصر وعشيرة آل الأسد وقبيلة حزب البعث في سوريا. أما القذافي فقد فاق الجميع حيث قضى على كل شيء في ليبيا وحكم بواسطة عائلته وعشيرته بلداً مملوءاً بالفراغ، وعندما ذهب لم يبق شيئاً سوى القبائل الليبية والفراغ . وسقوط أي من أولئك الحكام كان يعني عملياً سقوط النظام السياسي برمته في ذالك البلد. وسقوط معظم الحكام أدى بالضرورة الى سقوط النظام العربي السائد دون توفر البديل نظراً لغياب العمل المؤسسي بل المؤسسات نفسها.
ما الذي نريده وما الذي نسعى إليه؟
هل نريد الارتقاء الى مصاف الأمم الحية أم أن ذلك سيبقى في طور الأماني؟ هل نسعى فعلاً الى حل مشاكلنا أم الى إدراة تلك المشاكل وإلقاء اللوم على الآخرين؟ ماذا تريد هذه الأمة العتيقة؟ أعداؤنا يعرفون ماذا يريدون منا، أما نحن فيبدو أننا لا نعرف حتى الآن ماذا نريد من أنفسنا ومن قومنا ولقومنا. لقد نجح العرب في الانحدار من مصاف الأمم الواعدة في أربعينات وخمسينيات القرن الماضي الى مصاف الأمة الفاشلة وذلك بفعل عوامل عدة منها، بالإضافة الى هزيمة العرب الكبرى في فلسطين، هزيمة تجربة وفكرة الوحدة العربية وهزيمة الأنظمة القومية والفكر القومي على أيدي القوميين أنفسهم وهزيمة الديموقراطية التي ابتدأت أيضاً واعدة في برلمانات حية مثل البرلمان السوري والمصري واللبناني والعراقي والأردني في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي ثم انحدرت إلى برلمانات صورية يستعملها الحاكم المطلق متى يريد وكيفما يريد. والهزيمة الأكبر هي هزيمة النفس من خلال أسلوب الاستكانة والقبول بالأمر الواقع وعدم رغبة الشعوب في تقديم التضحيات اللازمة لوضع حد للأنظمة الدكتاتوريه الدموية مما أدى الى استفحال تلك الأنظمة وتطور أساليب البطش والاستبداد لديها الى الحد الذي سمح لها بتدمير مؤسسات الدولة وإعادة تشكيلها بما يجعلها أداة في يد النظام وليس تعبيراً عن مصالح الدولة وانجازاتها. وهذا أدى في النهاية لانهيار النظام العربي وتحوله إلى رافعة للذل والاستكانة والتخلف .
إن حال الأنظمة العربية الحاكمة هو تجسيد سلبي لوحدة حال الأمة التي ابتليت بنفس النمط من الحكام الذين سعوا إلى خلق أنظمة تناسبهم شخصياً عوضاً عن الاتجاه نحو خلق أنظمة تعزز الديموقراطية والعمل المؤسسي وتهدف إلى رفع قيمة الحكم ونَقْلِهِ من واقعه المؤلم كوسيلة للارتزاق والسيطرة المطلقة، إلى واقعه المنشود كأداة للخدمة العامة . إن ظهور تلك الأنظمة العربية القمعية أدى إلى إختفاء مفاهيم كثيرة وأساسية في الحياة السياسية لشعوب المنطقة مثل مبدأ تداول السلطة بالطرق السليمة، والمحاسبة، والشفافية وحرية التعبير والتنظيم السياسي …. الخ.
وفي ذلك ينطبق مفهوم وحدة الحال على معظم الأنظمة العربية. وهكذا، كان واقع الحال للأمة متماثلاً على القمة وان كان ذلك تماثلاً سلبياً لا يعكس أي إنجاز أو تقدم بل يعكس تماثلاً في حالة التقهقر والقهر السياسي إن واقع الحال هذا شكل قاسماً مشتركاً سلبياً بين معظم الدول العربية من جهة، وسداً منيعاً أمام آمال تلك الأمة في التقارب والوحدة من جهة أخرى . وقد أدى هذا الوضع إلى إضفاء نمطية معينة على الواجهة السياسية العربية خلقت إنطباعاً سلبياً لدى العالم بأن العرب أمة لا تؤمن بالديموقراطية ولا تُحكَمْ بها، بل تُحكَمْ من خلال أنظمة دكتاتورية وبإيحاء اتهامي واضح لدور التراث والثقافة الإسلامية في تعزيز ذلك المسار الدكتاتوري .
لقد عملت الأنظمة العربية جاهدة على المحافظة على مواقعها وعدم السماح للآمال في الحرية والوحدة أن تهدد تلك المواقع . ومن أجل ذلك قامت تلك الأنظمة بخلق العقبات والحواجز من أجل الحد من التواصل الشعبي العربي وتكريس قطرية الدولة باعتبارها هي الخيار النهائي . وكانت الأنظمة القومية هي السَبّاقة في دعم وتكريس الدولة القطرية كأداة للحكم ووسيلة للبقاء في السلطة.  ومن أجل ذلك، تم العمل بالعديد من الأدوات التي تساهم في تكريس القطرية وتحد من التواصل بين شعوب الأمة العربية مثل استبدال التنقل بين الدول العربية بجوازات السفرعوضاً عن الهوية كما كان عليه الحال بين معظم الدول العربية في حقبة الخمسينيات، كما  تم فرض تأشيرات الدخول بين الدول العربية، وتم الحد من أي مشاريع تساعد على التواصل خصوصاً سكك الحديد التي كانت ستؤدي إلى تواصل العرب بأعداد ضخمة، وتم وضع القيود على التبادل الثقافي والتجاري. وأصبح، مثلاً، تسجيل فرع لجمعية أجنبية أسهل بكثير من تسجيل فرع لجمعية عربية، واستمرت الأمور في التفاقم إلى الحد الذي أصبح فيه السقوط العربي عملية مستمرة كلما وصلنا فيها إلى القاع برز قاع جديد أكثر عمقاً وسواداً حتى بات العرب والعالم مقتنعون بأن العرب أمة فاشلة لا تملك من المقومات ما يسمح لها بالاستمرار، إلى أن جاء الانفجار من تونس ومن ثم مصر وليبيا واليمن وسوريا وغيرها من الدول العربية وسقطت الأنظمة العسكرية الحاكمة في تلك الدول، وابتدأت موجة من التفاؤل بإعادة انبعاث الأمة. ولكن الفراغ الذي خلقته الأنظمة المنهارة ابتدأ في التأثير على مجريات الأمور خصوصاً في قضايا الأمن والاقتصاد . وابتدأت العجلة في الدوران العكسي  وابتدأت المجتمعات العربية التي شهدت ثورات الربيع العربي ضد دكتاتوريات عسكرية مبهمة ودموية في العودة إلى أحضان العسكر من جديد . فما خرج من الباب عقب ثورات الربيع العربي يعود الآن من الشباك تحت حجج تتعلق بفقدان الأمن وانهيار المؤسسات أو ما تبقى منها والفوضى وبخطر هيمنة الإسلاميين وبعض المنظمات الإسلامية المتشددة على مقاليد السلطة .
مصر الآن في مهب الريح وكذلك العراق وليبيا و سوريا واليمن. كما أن السعودية والأردن في مضرب رياح السموم العاصفة والقادمة من كل مكان. وانهيار الدولة من الداخل قد يكون أمراً حتمياً في ظل تمادي الأنظمة في استغلال شعوبها واستباحة الثروات الوطنية من أجل المنافع الخاصة واعتبار الفساد أمراً مشروعاً لأصحاب النفوذ بل وشطارة في استغلال المنصب والنفوذ أكثر منه فساداً، إلى الحد الذي جعل العديد من المسؤولين يتباهون في إظهار ثروتهم. وقد رافق كل ذلك انهياراً إدارياً واضحاً نتيجة تفشي المحسوبية وسيطرة الأجهزة الأمنية على التعيينات واعتبار الولاء أهم من الكفاءة.
إن الانهيار الإداري للدولة قد عكس نفسه في انتشار السلبية بين أوساط القاعدة الشعبية العريضة وخلق حالة من اللامبالاة تجاه مستقبل الدولة انطلاقاً من تولد شعور عام بأن الدولة قد أصبحت لمن يحكمها وليس لأبنائها مما جعل المواطن بالتالي حالة طارئة في وطنه، وأصبحت مراكز النفوذ هي الحالة الدائمة التي تحظى بالحق في أن تستغل موارد الدولة وأن يورث كل مسؤول فيها إقطاعية من السلطة والنفوذ لأبنائه. وابتدأنا نشهد إبن رئيس الوزراء يصبح رئيساً للوزراء أو يشعر بالحق في أن يطمح لذلك. وأصبح ابن الوزير وزيراً أو طامحاً لذلك، وابن السفير كذلك الخ الخ … إذاً الدولة لمن يحكمها لم يعد شعاراً بلا معنى بل حقيقة تنتقل من جيل إلى آخر.
إن هذه الحقائق المولمة والسلبية أصبحت ظواهر عامة تعكس صفات سلبية مشتركة بين العديد من الدول العربية . وأصبح ما يربط العرب من ظواهر سلبية أكثر بكثير مما يجمعهم إيجاباً نظراً لأن الروابط الإيجابية كانت وما تزال محط هجوم الأنظمة باعتبارها ستؤدي إلى تواصل الشعوب مما يتنافى ومبدأ فرق تسد .
تُرى هل ما نحن فيه حلقة جهنمية مفرغة ندور فيها هائمين؟ أم هو قدرنا؟ لا هذا ولا ذاك بالتأكيد، فهذا ما صنعناه بأيادينا وجنينا به على أنفسنا، ولا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.


 

*نشر هذا المقال في جريدة رأي اليوم اللندنية بتاريخ  23/ 5/ 2014