في البداية من الواجب الإيضاح بأننا لا نتحدث عن مؤامرة، ولكننا نتكلم عن صفقة، والفرق بين الاثنتين كبير، إلا أن الأمور تقاس بنتائجها. فالمؤامرة تخطيط يجري في الخفاء لتحقيق هدف شرير في الغالب وغير مقبول من ناحيتي العدل والأخلاق. أما الصفقة فهي في أصولها التقاء مصالح بين طرفين أو أكثر، وتحدد تلك المصالح مسار الصفقة ونهاياتها المرجوة،بغض النظر إذا كانت تلك المصالح منسجمة مع المطالب العامة للشعوب ومصالحها أم لا.

وما نحن بصدد الحديث عنه هو وجود مؤشرات قوية على صفقة ما ممكنة وقيد البحث بين الحركات الإسلامية وأمريكا تُمّكِّن الحركات الإسلامية من تولي الحكم أو المشاركة بشكل فعَال في تولي الحكم في البلدان العربية التي تعيش ثورة التغيير بمراحلها المختلفة المكتمل منها أو قيد الاكتمال. وهذا أدى إلى بروز تخوف حقيقي ومشروع بين أوساط معظم العرب، الذين لا ينتمون إلى الحركات الإسلامية أو الذين لا يقبلون أفكارها، من تبعات وصول تلك الحركات إلى السلطة في الدول العربية المرشحة للتغيير أو التي قامت به فعلاً. وهذا التخوف لا يعود إلى الطروحات السياسية لتلك الحركات بقدر ما يعود إلى برنامجها الاجتماعي. فمعظم العرب لا يختلفون مع الكثير من الطروحات السياسية للحركات الإسلامية وخصوصاً الشق المتعلق بالعداء لإسرائيل، ولكنهم يرفضون، بل ويرتعبون ، من البرنامج الاجتماعي لتلك الحركات. ولكن وبالرغم من ذلك، فإن الحركات الإسلامية ما زالت تعطي الأولوية والأهمية القصوى لتنفيذ برنامجها الاجتماعي، كون ذلك البرنامج هو ما يميزها عن تنظيمات سياسية أخرى ويعزز من سطوتها وهيمنتها على أتباعها وكذلك على البسطاء من أفراد المجتمع الملتزمين دينياً.

ومن سخريات القدر أن ما تتقبله أمريكا والغرب ، ولو على مضض، من الحركات الإسلامية هو بالضبط ما يخيف معظم الناس، في حين أن ما ترفضه أمريكا والغرب من طروحات الحركات الإسلامية هو بالضبط ما تؤيده الأغلبية من المواطنين العرب. والإنصاف يتطلب منا الاعتراف بأن موقف أمريكا الحالي من الحركات الإسلامية لا يستند إلى أي قبول أو موافقة على ما تمثله تلك الحركات بقدر ما يعكس الذهنية الأمريكية في ممارسة فن الممكن والقبول الواقعي بالخيارات الموجودة ولكن ضمن الرؤية العامة للمصالح الأمريكية .

والواقع الحالي في دول الربيع العربي يؤكد بأن التنظيمات الوحيدة الفاعلة في تلك الدول هي الحركات الإسلامية، وهذه الحركات تحديداً تُعتبر "معتدلة" في طبيعتها وبعيدة عن الأصولية الجهادية . وهي تشكل بذلك البديل المنطقي ، في حال توليها الحكم، لمواجهة الأصولية الإسلامية العنيفة بل والتصدي لها.

وانطلاقاً من فن الممكن فإن أمريكا لا ترى في البرنامج الاجتماعي للحركات الإسلامية خطراً طالما كان تطبيق ذلك البرنامج محصوراً في الدول العربية المعنية، وما دامت الآثار السلبية لتطبيقات ذلك البرنامج محصورة في مجتمعات تلك الدول .

وبالنسبة لأمريكا ، فإن المجتمعات العربية تستطيع أن تذهب إلى الجحيم وأن يُطْبِقْ الجهل على البشر وأن يقضوا نصف عمرهم ومعظم لياليهم ينشدون الرحمة من رب العالمين دون أن يرحم بعضهم البعض . وأمريكا والغرب، ومن ورائهم إسرائيل، يكونون أسعد ما يكونون إذا ما أضحت المجتمعات العربية مجتمعات هامشية بعيدة عن إنجازات العصر العلمية والثقافية مُنْغَلَقِة على نفسها، مقاييسها الاجتماعية والثقافية تعود إلى أكثر من ألف عام مضت. ولكن ما لا تقبل به أمريكا والغرب هو العداء لإسرائيل والغرب واستعمال أساليب العنف في التعامل مع تبعات ذلك العداء وأصوله.

إن التباين الواضح على السطح في موقف أمريكا من الطروحات السياسية للحركات الإسلامية وبرنامجها الاجتماعي قد يكون هو الأساس وهو المدخل لصفقة جديدة ممكنة بين الحركات الإسلامية وأمريكا تفوق في أهميتها الصفقة والتحالف الذي ساد بينهما في حقبة الحرب الباردة والصراع بين المعسكر الغربي بقيادة أمريكا والمعسكر الشيوعي بقيادة الاتحاد السوفيتي في الحقبة الممتدة من خمسينيات إلى ثمانيات القرن الماضي.

فساحة الصراع في ذلك الوقت كانت دولية حيث كان العدو المستهدف من ذلك التحالف هو الاتحاد السوفيتي، أما ساحة الصراع الآن، فيما لو تم عقد صفقة جديدة، سوف تكون العالم العربي والمستهدف هو مستقبل ذلك العالم. وهذا، بالنسبة للعرب، سيكون قضية مصيرية.  

إن ما ستسمح به أمريكا في إطار صفقة عامة مع الحركات الإسلامية قد يتمثل في السماح لها بتطبيق برنامجها الاجتماعي على شعوبها، دون السماح لها بالتصرف كإطار سياسي جامع يسمح للتيار الإسلامي السياسي بالتصرف وكأنه تيار إقليمي موحد، وبالتالي كقوة إقليمية موحدة.

فأمريكا تريد من الحركات الإسلامية أن تتصرف كقوى محلية مبعثرة هنا وهناك وليس كتيار إقليمي موحد. وفي هذا السياق، ستطلب أمريكا ما يكفي من الضمانات و سوف تضع ما يكفي من القيود على الحركات الإسلامية لتحجيم رؤيتها السياسية والحيلولة دون لعبها دوراً إقليمياً موحداً تجاه قضايا سياسية أساسية ومنها العلاقات الخاصة مع أمريكا والموقف من إسرائيل والسلام معها والذي إذا ما حصل سيجعل من حالة العداء لإسرائيل والغرب عداءً نظرياً خالياً من أي مضمون فعلي .

وفي هذا السياق فإنّ الافتراض بأن الحركات الإسلامية السياسية في المنطقة العربية ، وأشهرها حركة الإخوان المسلمين، تنتمي إلى تنظيم واحد يخترق الحدود سوف يثبت خطؤه إذا ما تمت الصفقة.

إن عدم قبول القوى والاتجاهات الأخرى في المجتمع، مع أنها قوى واتجاهات مسلمة، بالبرامج والأفكار المطروحة من قبل الحركات الإسلامية، ورفض مفهوم الوصاية السياسية والاجتماعية والدينية لتلك الحركات، قد يؤدي إلى شروخ وانقسامات وإلى بروز قوى أخرى معادية ورافضة للحركات الإسلامية داخل المجتمع. وهكذا، فإننا قد نشهد في لحظة ما ائتلافاً عريضاً جداً وأفقياً داخل كل مجتمع عربي لمنع وصول الحركات الإسلامية إلى السلطة باعتبارها حركات غير ديمقراطية وغير مدنيةإننا لا نرغب و لا نريد أن نرى حلفاً مثل هذا لأن شق المجتمع على هذه الأسس أمراً خطيراً وقد يمزق المجتمع في العمق إذا ما تعمّق ذلك الاستقطاب وتجذر.

إن تشجيع الانشطار الديني قد يكون جزءاً أساسياً من متطلبات المخطط الأمريكي في حال وجود صفقة ما مع الحركات الإسلامية. وهذا من شأنه أن يعزز استحالة توحد الأنظمة الإسلامية في رؤيا سياسية موحدة قد تشكل خطراً على المصالح الأمريكية في العالم العربي . وأمريكا لن تسير في صفقة عامة مع الحركات الإسلامية دون أن تتأكد أن عوامل الانشطار الديني والفرقة السياسية سوف تتصدران العلاقات داخل المجتمع في كل دولة عربية وبين كل دولة عربية وأخرى.

وإذا ما استعرضنا واقع الحال الذي تم ويتم في العراق ومصر وسوريا وهي دول عربية محورية، وتونس والبحرين وليبيا والأردن وهي دول عربية هامشية، لاكتشفنا أن سياق الأمور والتطورات تدفعنا دفعاً في اتجاه يعزز شكوك معظمنا في نوايا المخطط الأمريكي لإعادة تشكيل المنطقة العربية واحتوائها تحت عناوين جديدة ولكن ضمن رؤيا تعزز انشطار المجتمع والدولة على أساس طائفي أو عرقي أو كليهما.

إذاً نحن أمام مشهد أخذ يتضح أكثر فأكثر . محاولات أمريكية جادة لاغتيال الربيع العربي وتحويله إلى خريف يعقبه شتاء طويل . إن تشجيع الانشطار الديني و الصدام بين القوى الدينية والعلمانية بشكل يؤدي إلى تفتيت المجتمعات العربية وإضعاف و تدمير كياناتها السياسية قد يكون الثمن الذي تريده أمريكا لإجراء صفقة ما مع الحركات الإسلامية.

وهذا الخطر يتطلب من الحركات الإسلامية الارتقاء فوق شهوة الحكم وإعادة إنتاج نفسها و برامجها الاجتماعية بشكل يجعل وصولها إلى الحكم نتيجة لقرار ديمقراطي نابع من موافقة شعوبها عوضاً عن أن يكون نتيجة صفقة مع عدو خارجي لا يخفي عداءه للعرب و مطامعه في المنطقة.

إن تخوف الكثيرين من احتمالية إحلال أنظمة حكم إسلامية مكان الأنظمة الديكتاتورية العسكرية، التي أنهكت شعوبها ودمرت دولها ومجتمعاتها وحولتها إلى مزارع عائلية، أمر مشروع وله مبرراته الموضوعية خصوصاً في ظل الفراغ الواضح في الحياة السياسية في الدول العربية المعنية. ومثل تلك التخوفات دفعت بالعديد من الأنظمة العربية المرشحة للسقوط لاستعمالها كفزّاعة لتخويف مواطنيها من عواقب التغيير إذا ما أدّى ذلك التغيير إلى خيار بين الفوضى أو وصول الإسلاميين إلى السلطة.

المشكلة تكمن في أن الحركات الإسلامية لا تشعر أن هنالك حاجة حقيقية لطمأنة الناس من أن وصول الإسلاميين إلى السلطة لن يؤدي إلى "أسلمة" المجتمع والدولة والنظام السياسي. إن هذا الموقف قد يؤدي إلى تعميق أزمة الثقة بين الشعب والحركات الإسلامية. وتلافي مثل هذا التطور السلبي يتطلب من الحركات الإسلامية أن تأخذ موضوع التطمينات المطلوبة بجدية و أن تتأكد بأن تلك التطمينات يجب أن تتجاوز البيان اللفظي و الخطابي إلى الخطوات الواقعية والعملية التي تجعل من تلك التطمينات أمراً جدياً و قابلاً للتصديق و القبول. وانطلاقاً من ذلك على الحركات الإسلامية أن تعيد صياغة برنامجها الاجتماعي بشكل واضح يضمن ويكفل عدم إمكانية تحويل المجتمع من مجتمع مدني إلى مجتمع ديني متزمت والدولة من دولة مدنية ديمقراطية إلى دولة إسلامية مفهومها للديمقراطية ينحصر في تداول السلطة بين الأحزاب الإسلامية فقط .

إنّ إزالة التخوفات هي مسؤولية الحركات الإسلامية تجاه باقي المجتمع وليس العكس . ولذلك، فإن المبادرة يجب أن تجيء من الحركات الإسلامية وبشكل مقنع لباقي القوى في المجتمع المدني.

إنّ سمة الشعور بالاغتراب داخل الوطن و التي رافقت تفشي الأنظمة الاستبدادية القمعية التي عانت منها معظم الشعوب العربية، خصوصاً طبقة المثقفين، والتي نادت لرفض القمع و التبعية والعبودية التي ميزت مسيرة تلك الأنظمة و تولدت عنها، و طالبت بالحقوق الديمقراطية للمواطنين واحترام حقوق الإنسان باعتبارها جزءاً من الحقوق الطبيعية لأي فرد، يجب أن لا يعاد إنتاجها تحت أنظمة حكم إسلامية لا تعترف إلا بمن انخرط فيها و تعتبر أن الدين و الالتزام الديني حسب مفهومها هما التعبير الحقيقي والوحيد عن المواطنة وحقوقها وحقوق الإنسان بشكل عام .

وأخيراً، فإن تفادي مثل هذا التطور منوط بقدرة ورغبة الحركات الإسلامية في طمأنة مجتمعاتها المختلفة على التزامها بمدنية المجتمع والدولة واحترامها لمبدأ تداول السلطة بشكل سلمي وحقيقي في حال وصولها إلى الحكم


 

*نشر هذا المقال في جريدة القدس العربي اللندنية بتاريخ  17/ 10/ 2011