د.لبيب قمحاوي

القدس العربي-قضايا الوطن الصغير قد تبدو ثانوية في أهميتها مقارنة بقضايا الوطن الكبير. ولكن كل الأمور الكبيرة ابتدأت صغيرة وهي في نتيجتها المحصلة العامة لمجموع قضايا الأوطان الصغيرة. نقول هذا ونحن نلهث في خضم ما يجري داخل كل وطن صغير من قضايا سلبية وداخل الوطن الكبير من تحديات قد تكون محصلتها عظيمة وقد تكون مُدمِّـرَة. تلك هي الأيام التي تتطلب من الجميع أن يكونوا متيقظين في مراقبة التطورات ومتحفزين في معالجة تبعاتها وآثارها.
هنالك انطباع عام بأن الدولة الأمنية هي مفهوم محصور في الأنظمة الجمهورية العائلية المستبدة، مع العلم بأن هذا غير صحيح. فلو أخذنا مثالين بالتحديد لدولتين متجاورتين هما سورية والأردن، إحداهما جمهوري عائلي مستبد، والآخر ملكي شبه مطلق، لاكتشفنا أن الدولة الأمنية هي سمة مشتركة بين النظامين وبالتالي البلدين.
ما يجري الآن في سورية، مثلاً، يقطع قلب كل عربي مخلص. نحن لسنا مع النظام السوري في قتل شعبه، ولسنا مع موقف معارض للنظام السوري مبني على الانتقام وتسديد الحسابات . نحن مع مطالب الشعب السوري في الحرية والعدالة والديمقراطية وتداول السلطة ضمن إطار الدولة المدنية وبعيداً عن ديكتاتورية العائلات والحزب الواحد والدولة الأمنية القمعية. سورية قلب العروبة النابض شيء والنظام السوري شيء آخر. والتدخل العربي طبيعي ومفهوم لو كان عربياً صرفاً، أما أن يكون تدخلاً بالنيابة عن قوى دولية أخرى تستعمل خدمات بعض الأنظمة العربية فهذا يمثل منتهى الانحطاط السياسي.
المعادلة صعبة، إذ يبدو من الصعب إقناع النظام السوري بالقبول بتسوية تجنب الشعب القتل وتجنب الوطن الدمار وتمنع خيارات قاتلة عن الأمة. أنانية الحكم المستبد والدكتاتوري لا تفرق بين النظام الوطني المبادر والنظام المستسلم لإرادة الغير فكلاهما يريد البقاء في الحكم بأي ثمن. وفي سبيل ذلك يتم تطويع كافة أجهزة الدولة لخدمة ذلك الهدف الأناني والسيء. وهكذا يتم زج كافة مؤسسات الدولة ضمن المظلة الأمنية القمعية وتحت إشرافها. وطبقاً لذلك، يعتبر قتل الطرف المعارض مشروعاً حتى ولو كان قتلاً بدم بارد، ومغانم الطرف الحاكم مشروعة حتى ولو كانت سرقة في وضح النهار.
الدولة الأمنية سمة من سمات الأنظمة المستبدة بغض النظر إذا كانت جمهورية أو ملكية . إن غياب الشعور بالاطمئنان وغياب الشرعية المستندة إلى إرادة الشعب الحرة غالباً ما يكون وراء ازدهار مفهوم الدولة الأمنية. وهذا هو الأمر الذي عانت وتعاني منه معظم الأنظمة العربية ومنها بالطبع، إن لم يكن على رأسها، سورية وكذلك الأردن. الدولة الأمنية في سورية علنية وسماتها القمعية الدموية معروفة، ولكن ما هي سمات الدولة الأمنية الخفية في الأردن؟ تدار الدولة الأردنية منذ عقود، إدارة تكاد تكون كاملة من قبل جهاز المخابرات العامة. وقد قام ذلك الجهاز، وعلى مدار السنين، بعملية إحلال تدريجية قام من خلالها بإفراغ أي مؤسسة أردنية سواء أكانت دستورية أم حكومية أم تشريعية من استقلاليتها وحولها إلى امتداد لنفوذه وبسيطرة تكاد تكون مباشرة من قبل منتسبي ذلك الجهاز. والمبدأ الأساسي المتمثل باستمزاج جهاز المخابرات في أي تعيينات حكومية أو عامة، مع أنه مخالف للقانون، قد استعمل بكفاءة للسيطرة على كل تلك المؤسسات من الداخل . وقد شملت هذه الممارسة كل شيء وأي شيء، وحتى الجامعات أصبحت تدار إدارة أمنية، وأصبح القائمون على الإدارة والتعليم مرتبطين إما بطريقة مباشرة أو بطريقة غير مباشرة، بالأجهزة الأمنية. وكذلك الأمر بالنسبة لكافة المؤسسات الإعلامية، مما جعل الإعلام الأردني الرسمي عبارة عن دائرة من دوائر جهاز المخابرات العامة، وتم فرز أجيال من الإعلاميين من قبل جهاز المخابرات، وعلى مر السنين أصبحت الواجهة الإعلامية الرسمية، في معظمها، جزءاً من جهاز المخابرات. وتم التعامل مع المعارضة مهما كان شكلها باعتبارها عدواً تجب مقاومته وحجب وسائل الإعلام العامة عنه. بل واستعمل الإعلام الرسمي لتبييض صورة الحكم زوراً وبهتاناً، واتسعت مسؤوليات جهاز المخابرات لتشمل أيضاً الاستيلاء على السلطة التشريعية من خلال تزوير الانتخابات النيابية والدفع بأشخاص من جهاز المخابرات، سواء أكانوا فاعلين أو متقاعدين، وكذلك من أصدقاء ذلك الجهاز الذين يدينون بانتخابهم إلى ذلك الجهاز وليس إلى الشعب. ونفس الحال ينطبق على الانتخابات البلدية حيث تم تزوير الانتخابات بطرق مماثلة للانتخابات النيابية. أما الحكومة فقد أصبحت حكومة جهاز المخابرات العامة. فهذا الجهاز الذي يتبع قانونياً لرئيس الوزراء، أصبح يتعامل مع رئيس الوزراء والحكومة باعتبارهما تحت ولاية وإشراف جهاز المخابرات العامة وانتهت بذلك الولاية العامة للحكومة سواء طوعاً أو قهراً وأصبح العمل على استرداد تلك الولاية أولوية قصوى على طريق الإصلاح السياسي. ولم يسلم القضاء من هذا الفجور والتسيب، حيث تم العمل بالترغيب حيناً والترهيب أحياناً على السيطرة على القضاء الأردني، وهو الذي كان مشهوداً له بالنزاهة والترفع. وإذا أضفنا إلى هذا الواقع المرعب ما جرى لباقي المؤسسات العامة في الدولة انطلاقاً من شركة الملكية الأردنية، إلى شركة الفوسفات وشركة البوتاس وغيرها وميناء العقبة والمطار وسوق عمان المالي وهيئة مكافحة الفساد والعديد من مؤسسات المجتمع المدني ومنها بعض منظمات حقوق الإنسان، ومنظمات المرأة ... الخ، لوجدنا أننا في مستنقع عميق لا خلاص منه إلا بالإصلاح الحقيقي والحازم وإعادة الاعتبار للمجتمع من خلال تأهيل جهاز المخابرات وتحجيمه وإعادته إلى دوره الحقيقي في الحفاظ على أمن الوطن ومنعه من القيام بأي نشاط آخر على الإطلاق وخصوصاً نشاطاته المتعلقة بحماية الفساد الكبير وهي متعددة وإن كان أشهرها تقديم خدمات الإنقاذ والحماية لكبار المسؤولين مقابل خدمات الخضوع للجهاز مثل فضيحة الكازينو.
إن ما يهمس به العديد من الأردنيين حول الدولة الأمنية يجب أن يخرج إلى السطح باعتبار ذلك الخطوة الأولى نحو الإصلاح وتفكيك أسس تلك الدولة المشؤومة والمستبدة لصالح بناء الدولة المدنية الديمقراطية.
إن اعتبار الأمن الداخلي الركيزة الأساسية لفلسفة الحكم في الأردن هو أساس المشكلة كون الأمن الداخلي قد تم تفسيره بوجوب الخضوع والاستسلام الكاملين للمجتمع ومؤسسات الدولة لرغبات ونزوات الحكم من خلال السيطرة الكاملة لهذا الجهاز على المجتمع . وفي ظل غياب أي دور فاعل لمؤسسات العمل الديمقراطي كوسيلة لتداول السلطة، وبالتالي، الوصول إلى الحكم، وممارسة الرقابة على كافة أجهزة الدولة ومحاسبتها من خلال صندوق الاقتراع، أصبحت المؤسسة الأمنية في أغلب الأحيان هي صاحبة السلطة الحقيقية ومالكة القرار النهائي في معظم الأمور والرافعة الأساسية للوصول إلى المنصب السياسي أو الحكومي في الأردن. وبذلك أصبح جهاز المخابرات العامة بمثابة حزب الحكم ولا أقول الحكومة. وهذا الحزب لا يملك بالضرورة أي أيديولوجيا سوى أيديولوجية السيطرة من منطلق أنه الأقدر على حماية النظام والبلد. وهو بذلك يكون حزباً فوقياً لا تنضم إليه الجماهير ولكن يتم تجنيدها في صفوفه واستعمالها في أي غايات يراها الجهاز مناسبة. ومما ساهم في تعزيز هذا الدور للمؤسسة الأمنية أن النظام عامل مؤسسات العمل الديمقراطي، ومنها الأحزاب السياسية والعديد من مؤسسات المجتمع المدني بعدوانية ممزوجة بالهجوم العلني في وسائل الإعلام المملوكة للدولة والمخترقة من جهاز المخابرات، مما خلق مناخاً عاماً بأن هذه المؤسسات هي خصم للنظام، وهي بالتالي ليست القناة الصحيحة والمنشودة للأجيال التي تملك طموحاً سياسياً. وقد ساهم ذلك الوضع في إبقاء تلك الأحزاب والمؤسسات ضعيفة في هيكليتها وعدد أفرادها وتأثيرها في المجتمع. والآن يتباكى النظام على الحياة الحزبية في الأردن ويَتذرع بضعف الأحزاب والحياة الحزبية في الأردن كسبب لعدم إمكانية تطبيق المبدأ الدستوري القاضي بتشكيل حكومات برلمانية. وهكذا ساهم النظام في الأردن من خلال الدولة الأمنية في إضعاف، إن لم يكن قتل، أهم رافعتين للعمل الديمقراطي وهي الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني.
لقد ساهم هذا الوضع الشاذ في تعزيز سطوة الأجهزة الأمنية وأصبح كل من يريد الوصول إلى منصب سياسي حكومي أو نيابي يعلم بأن الطريق إلى ذلك يمر عبر جهاز المخابرات العامة، مما عزز من سطوة ذلك الجهاز على الأفراد بعد أن سيطر على المؤسسات.
ومع مرور الوقت أصبح من الصعب الفصل بشكل واقعي بين المؤسسة الأمنية ومؤسسات العمل السياسي والعمل العام. وانسجاماً مع ذلك، تطور الفكر السياسي الرسمي للدولة الأردنية بشكل أعطى بموجبه الصدارة للدولة الأمنية على أي شيء آخر، بما في ذلك الديمقراطية والإصلاح الديمقراطي.
ونتيجة لذلك دخلت قوى الإصلاح في الأردن مساراً شائكاً في محاولتها لإيجاد حل لواقع الدولة الأمنية ومطلب الدولة الديمقراطية. وأصبح واضحاً أنه بدون التوصل إلى ذلك الحل، فإن الكفة سوف ترجح لصالح الدولة الأمنية، خصوصاً وأن النخبة السياسية الحاكمة في الأردن، وهي بطبيعتها محافظة والعديد من أفرادها هم ذوو خلفية أمنية، تفترض بان الديمقراطية، إذا ما طبقت بشكل صحيح، سوف تكون مدخلاً إلى الفوضى والتسيب، في حين أنها تعني بذلك الخشية من فقدان المكاسب التي تم الحصول عليها تحت مظلة الدولة الأمنية . وأصبحت المعادلة واضحة في نظر هؤلاء، إما ديمقراطية موجهة في إطار الدولة الأمنية، أو ديمقراطية ناجزة مع التهديد بالتسيب والفوضى والبلطجة. وتم الترويج لهذه المفاهيم بشكل حثيث حتى أصبحت جزءاً من المفاهيم السائدة في الشارع السياسي الأردني . وأصبحت هذه المعادلة فزّاعة ورديفاً وداعماً ومكملاً للموقف السياسي للنخبة الحاكمة في الأردن في تصديها لموضوع الإصلاح الديمقراطي.
وهكذا، فإن تفاقم دور المؤسسة الأمنية في الحياة السياسية الأردنية وتغلغلها في مختلف مؤسسات الدولة، وبالنتيجة تكامل والتحام دورها مع دور النخبة الحاكمة قد ترجم نفسه في مفهوم الدولة الأمنية، وخلق واقعاً تنافسياً غير متكافئ بين قوى الحكم التقليدية وقوى الإصلاح، مما يتطلب رفع شعار تفكيك الدولة الأمنية أولاً باعتباره ذا أولوية مطلقة كون هذه الدولة الأمنية هي عدو للإصلاح وحامية، إن لم تكن مسببة، لكافة الأمراض التي يشكو منها الجسم السياسي الأردني.
هذا هو واقع الدولة الأمنية في الأردن، وهو لا يختلف كثيراً عن واقع الدولة الأمنية في سورية مثلاً إلا في أنه أكثر ذكاء كونه أقل دموية وأقل عنفاً. وإذا كان في سياسات النظام السوري العربية والإقليمية والخارجية ما يشفع له لدى العديدين تجاوزاته على حقوق المواطن السوري وعنفه ودمويته في التعامل مع المعارضة في سورية، فما الذي يشفع للنظام في الأردن؟ سؤال هام وخطير ضمن واقع أمني معاد للإصلاح والديمقراطية ولا يختلف بذلك كثيراً عن مثيله في سورية. دعونا نعترف بأننا في مأزق لا نحسد عليه. والاعتراف بوجود مشكلة هو نصف الحل. والكلام الجميل لا يطعم خبزاً، ومقياس النجاح هو الأفعال والإنجازات وليس الأقوال والتمنيات. فكل كتب تكليف الحكومات في الأردن جميلة، والردود عليها أجمل، لكن واقع الأمور مرير ومؤلم ويزداد مرارة وإيلاماً مع مرور الوقت. وكما يقول المثل الدارج 'اسمع كلامك يعجبني، أشوف عمايلك استعجب'.


 

*نشر هذا المقال في جريدة القدس العربي اللندنية بتاريخ  21/ 11/ 2011