د. لبيب قمحاوي

الوطن البديل هو اصطلاح إسرائيلي وهو خيار إسرائيلي لم يولد من رحم أردني أو فلسطيني أو عربي، وإنما من رحم صهيوني يرى فيه حلاً لجزء من المشكلة الإسرائيلية على حساب الآخرين. وعلى الرغم من كل ذلك فقد ابتلعت الغالبية الطعم الإسرائيلي. البعض يتهم الفلسطينيين بموضوع الوطن البديل وكأنه مطلب فلسطيني، والفلسطينيون يدافعون عن أنفسهم من دون وعي منهم بأن هذا الدفاع يعزز الشكوك وراء الاتهام الخاطئ، والعرب لا يبالون وكأنهم في منأى عن هذا وذاك، والإسرائيليون يبتسمون لأن هذه المواقف تؤكد قناعات سابقة لديهم بأنّ العرب أقسى على أنفسهم من قسوة أعدائهم عليهم. لماذا لا تُوَجَه أصابع الاتهام إلى العدو الحقيقي، صاحب الفكرة وصاحب المصلحة والمنتفع الوحيد من تطبيق مقولة الوطن البديل؟

أنا لا أتفق مع القائلين بأن الوطن البديل هو وهم، بل هو خطر حقيقي نابع من الفكر الصهيوني ومن المصلحة الإسرائيلية. وما ابتدأ كفكرة مجنونة متطرفة في العقل الموتور لزئيف جابوتنسكي، أصبح الآن جزءاً من النوايا الخفية للسياسة التفاوضية للحكومة الإسرائيلية. وهذا بحد ذاته يتطلب من الفلسطينيين والأردنيين والعرب الانتقال من حالة التعامل مع النظرية إلى حالة التعامل مع الواقع السياسي المرن أي الانتقال إلى دائرة الفعل بهدف التصدي لتلك السياسات التي تشكل ترجمتها العملية تهديداً مباشراً وحقيقياً لكل من الأردن وفلسطين. وبالتالي فإنّ توجيه البعض لأصابع الاتهام إلى الفلسطينيين بأنهم المستفيدون من فكرة الوطن البديل، هو تبرئة للصهيونية و"إسرائيل" ودعمٌ لها في مسعاها لحل مشكلتها الديموغرافية. إنّ تبني قلة من الأردنيين لمقولة إنّ الخطر القادم على الأردن هو من الفلسطينيين تشويه للحقيقة ويشكل خطراً ماحقاً على الأردن ومستقبله، لأنه على الرغم من أي معاهدة سلام، فإنّ الخطر القادم هو من "إسرائيل"، وأنّ هذا الخطر سيصيب بالنتيجة جميع الأردنيين بغض النظر عن أصولهم. وإذا كانت هذه هي الحقيقة، فإن المرء لا يملك إلا أن يتساءل لماذا اكتفت الأردن بإدانة مشروع الوطن البديل؟ ولماذا لم تقم الدولة الأردنية، التي تربطها معاهدة سلام مع "إسرائيل"، بإثارة هذا الموضوع مع الإسرائيليين باعتباره أمراً يشكل خطراً على الأمن القومي الأردني، وبالتالي يتعارض مع معاهدة السلام الأردنية - الإسرائيلية؟ ولماذا لم يطلب الأردن ضمانات من "إسرائيل" ونفياً رسمياً قاطعاً ومانعاً بأنّ "إسرائيل" لن تأخذ هذا المسار، وأنّ الوطن البديل لن يكون أبداً ضمن الخيارات الإسرائيلية؟

ولماذا لم تطلب الحكومة الأردنية أن يقوم الكنيست الإسرائيلي بالتصويت على ذلك وبشكل يحمي الأردن من التقلبات السياسية للحكومات الإسرائيلية المتعاقبة؟ وفي المقابل، لماذا لم تقم السلطة الفلسطينية، التي تربطها بالمسؤولين الإسرائيليين علاقات ود ومحبة، يتخللها العديد من القبلات والعناق عند كل لقاء، بالطلب من سلطات الاحتلال بأن تنفي رسمياً وعلنياً أنّ موضوع الوطن البديل هو أحد الخيارات المطروحة في الفكر الصهيوني والبرنامج السياسي الإسرائيلي، كون هذا الخيار يتنافى مع مطالب ورقة التوت للسلطة الفلسطينية ويتعارض معها، بل وينفيها جملةً وتفصيلاً؟ لماذا ولماذا كل هذا وذاك؟

إنّ التقصير الفلســـطيني الرســـمي والأردني الرســــمي في التصدي لموضوع الوطــــن البديل يجــب أن لا تدفع ثمنه الشعوب. والأمور واضحة لمن يريد أن يراها، وغامضة لمن لا يريد أن يراها.

بدون مواربة، لا يوجد فلسطيني حر مستعد أن يقايض أرضه ووطنه بأي أرض عربية أخرى، خدمة ل"إسرائيل" وإنقاذاً لها من ورطتها. ومع كل الحب لكل أرض عربية، وخصوصاً الأرض الأردنية، وهي الظهير والنصير لفلسطين ولكل فلسطيني، فإنّ مبدأ الاستبدال غير وارد فلسطينياً على الإطلاق، لا طوعاً ولا كراهية. وإذا كان الأمر كذلك فإنّ كل القوى الأردنية والفلسطينية مطالبة بأن تتحد لمجابهة هذا المشروع، وهو في صلب العقيدة الإيديولوجية للحكومة الإسرائيلية الحالية، وأن تمتنع عن توجيه أصابع الاتهام في الاتجاه الخاطئ.

الوطن البديل كفكرة وكمشروع صهيوني لا يمكن تطبيقه بقوة السلاح، وإنما من خلال الولوج في عملية تفاوض مع العدو الإسرائيلي، تؤدي إلى الإذابة التدريجية للحقوق الفلسطينية، وتطوير حالة الضعف الفلسطيني والعربي العام إلى درجة اللاوعي والاستسلام الكامل لإرادة "إسرائيل" وأمريكا، وبشكل يجعل من الوطن البديل الخيار الوحيد المتبقي أمام الجميع. فقضم الحقوق الفلسطينية والثوابت الفلسطينية قطعة قطعة وهضمها من خلال عملية تفاوضية متكررة تتميز بالكر والفر، (الكر الإسرائيلي والفر الفلسطيني والعربي) حتى نصل إلى نقطة يكون فيها ظهرنا إلى الحائط ووجهنا إلى حائط آخر، ولا منفذ للجميع إلا الخيار الإسرائيــــلي الوحيد المطروح أمامنا ألا وهو الوطن البديل.

إنّ مفاوضات السلام المستندة إلى ضعف فلسطيني وعربي عام ومتفاقم، يدفع الأمور باتجاه مزيـــد من التــــنازلات الفلســـطينية والعربية، مقابل آمال ووعود إسرائيلية وهمية وضبابية، هي الطريق الأمثل لتحقيق مشروع الوطن البديل الصهيوني. وهكذا، على كل فلسطيني وأردني وعربي أن يتعامل مع مفاوضات السلام تلك باعتبارها خطراً أكيداً على مستقبل فلسطين والأردن. وأنّ كل من يزرع الضعف والتنازل يحصد الكارثة، شاء ذلك أم أبى.

إنّ القفز بين شعارات الوطن البديل بأشكالها المختلفة من دولة حاضنة ودولة بديلة إلى أراضٍ مدارة هي مساعٍ لا تخرج عن إطار ما ورد في مقال جون بولتون ( The Three -State Option ) الذي يطرح مفهوم الوطن الأردني الحاضن للأرض الفلسطينية، عوضاً عن دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية والقطاع. فبالنسبة لجون بولتون يوجد فقط ثلاث دول في المنطقة، هي "إسرائيل" والأردن ومصر، ولا وجود لدولة أو حتى كيان فلسطيني. ومثل هذا التفكير يبقى في صلب الخيار الصهيوني المتمثل بوطن بديل في الأردن كحل نهائي وترجمة أمينة للمنظور الإسرائيلي للسلام في المنطقة.

والوطن البديل في هذه الحالة قد تتم ترجمته تحت مسميات مختلفة، ولكن المحتوى يبقى واحداً، والنتيجة تبقى واحدة. ومن يقرأ هذا الكلام ويفهمه، عليه أن يتصدى للمخطط الإسرائيلي الأمريكي من دون الالتفاف على ذلك من خلال البحث عن عدو بديل، ومخرج بديل.

إنّ وضع الرأس في الرمال لا يخفي الحقيقة البشعة. وفكرة العدو البديل لا تحل مشكلة وخطر مشروع الوطن البديل، بل على العكس ستؤدي إلى تفاقمه. الفلسطيني ليس عدو الأردني، والأردني ليس عدو الفلسطيني، والاثنان ليسا أعداء أحد من العرب. "إسرائيل" هي عدو الفلسطينيين والأردنيين والعرب جميعاً. وأي حديث بعكس ذلك يصب مباشرة في مصلحة العدو الإسرائيلي. والطريق إلى السلام النهائي والحقيقي معروفة، وهي عودة الحقوق كاملة غير منقوصة إلى أصحابها الفلسطينيين.

إنّ كافة المسارات المطروحة أمام الفلسطينيين وأمام العالم العربي، في ما يتعلق بالعدو الإسرائيلي تهدف إلى حل المشكلة الإسرائيلية وليس حل القضية الفلسطينية. وإذا عرفنا واعترفنا بذلك، فإنّ الكثير من الألغاز والطلاسم تصبح واضحة كالشمس. فمفاوضات السلام منذ بداياتها في كامب ديفيد ومن ثم مدريد ومن ثم أوسلو مروراً بباقي المحطات، وإلى يومنا هذا، وكما ثبت عملياً، هي محطات على طريق حل المشكلة الإسرائيلية وعلى طريق إذابة القضية الفلسطينية، وانتهاك ثوابتها حتى لا يبقى لها أثر يذكر. طريق السلام المبني على الضعف هي طريق باتجاه واحد يؤدي إلى "إسرائيل" الكبرى، ومن يرى من العرب غير ذلك فليخرج علينا بما لديه.


*نشر هذا المقال في جريدة القدس العربي اللندنية بتاريخ 29/ 11/ 2010