مفاوضات السلام الهائمة في أزقةِ وحواري ما تبقى من القضية الفلسطينية تدور بين طرفين ضمن معادلة لا تقبل القسمة. فإسرائيل تتفاوض مع السلطة الفلسطينية على حجم الخسائر الفلسطينية، والسلطة الفلسطينية تتفاوض مع إسرائيل على حجم الخسائر الفلسطينية أيضاً. فهذه المفاوضات المبهمة تقوم على انتزاع تنازلات سياسية وتاريخية ومبدئية فلسطينية، وهي استمرار لعملية مفاوضات استنزافية شكلت، منذ مدريد، بداية لحقبة من التنازلات هدفت إلى تقليص الثوابت الفلسطينية وتحويلها من جدار منيع لحماية الحقوق الفلسطينية إلى سلعة يتم تجاذبها في سوق المفاوضات. وما كان من المحظورات، أصبح، بالتالي، مباحاً وخاضعاً للمساومة.

يفاوض الإسرائيليون منذ البداية وحتى الآن، على إنقاص الحقوق الفلسطينية وتقليصها تدريجياً ومن ثم إذابتها، وذلك ثمناً لقبولهم بالولوج في عملية التفاوض وليس مقابل إتمام عملية السلام. ففي كل جولة مفاوضات خسر العرب شيئاً وخسر الفلسطينيون أشياء، وفي المقابل أعطى الإسرائيليون وعوداً وفُتاتاً لا معنى ولا طعم لها، وكسبوا ما خططوا للفوز به في كل مرحلة تفاوضية. وأبرز المكاسب المبكرة للإسرائيليين يتمثل بتوفير غطاء فلسطيني يرفع عنهم صفة العدو المحتل المستوطن والمقتلع للبشر والحجر إلى صفة الشريك المفاوض. وإذا شاء أحدٌ أن يعترض على كل ذلك بإعتباره إفتراء على الحقيقة فليتفضل بتعداد المكاسب الفلسطينية والخسائر الإسرائيلية.

لقد زرعت عمليات المفاوضات السابقة والمتكررة الآمال والتوقعات الواهمة لدى بعض أفراد الشعب الفلسطيني البسطاء والمنهكين والمتعبين من جبروت الاحتلال وقسوته وغطرسته. وزحف الأمل الكاذب إلى قلوب البعض، ولكن دون جدوى. وانكسر الفؤاد الفلسطيني عندما رأى خيمته النضالية تُهدم بأيدٍ فلسطينية، وتُختزل من منظمة التحرير الفلسطينية المؤتمنة على النضال من أجل تحرير كل فلسطين، إلى سلطة فلسطينية تفاوض من أجل حكم ذاتي على أجزاء مبعثرة من فلسطين، وتسعى إلى اختطاف حركة فتح المناضلة واختزالها من قائدة للمقاومة الفلسطينية إلى خيمة سياسية تقبع على هرمها بعض الأوراق المتساقطة من شجرة النضال الفلسطيني لتقود الشعب الفلسطيني نحو الهاوية. ومع ذلك لم يكف الجانب السلطوي الفلسطيني عن تمسكه المعلن بحبال مفاوضات السلام المتعثرة حيناً والمقطوعة أحياناً أخرى، وحرق كل سفنه دون جدوى أو عائد. فالسلطة الفلسطينية أوقفت المقاومة المسلحة ومن ثم أدانت تلك المقاومة دون جدوى أو عائد، واعتقلت المقاومين دون جدوى أو عائد، وألغت برنامج منظمة التحرير الفلسطينية دون جدوى أو عائد، ونطقت بالعيب السياسي قبل أن ترتكبه دون جدوى أو عائد.

ولكن، هل فلسطين وحدها في الهاوية؟ وهل ما جرى ويجري لفلسطين لا أثر أو علاقة له بالمنطقة؟

يحلو للبعض أن يعتقد بأن ما جرى ويجري في فلسطين هو أمر يخص الفلسطينيين وحدهم وأن على الفلسطينيين، بالتالي، أن يقتلعوا شوكهم بأيديهم. هذا الكلام، وهو في ضمير المستتر للتفكير الرسمي للعديد من الأنظمة العربية، يعكس قصر نظر تلك الأنظمة، والتي تعتبر أن التخلص من الهم الفلسطيني سيجعلها في مأمن من الأخطار المحيطة بهذه القضية. فإسرائيل لم تعد تنظر إلى نفسها كقوة احتلال غاصبة وطارئة على المنطقة، بل كقوة إقليمية لها الحق في تعزيز نفوذها والدفاع عن مصالحها، بغض النظر عن حيثيات القانون الدولي وعن التوازن الإقليمي للقوى التقليدية في المنطقة. فالتعامل الإسرائيلي بمنطق القوة الإقليمية مع دول المنطقة فرض نمطاً جديداً من العلاقات ومن التعامل على تلك الدول. وانتقلت إسرائيل من موقع الطرف في النزاع المحلي إلى موقع القيادة في النزاع الإقليمي، وأصبح بالتالي بعض أعداء الأمس لإسرائيل أصدقاء اليوم وبعض أصدقاء الأمس أعداء اليوم في ترجمة واقعية لديناميكية العلاقات الإقليمية المتغيرة والمتحركة دائماً بفعل عوامل محلية وإقليمية ودولية. وانتقل الإسرائيليون، بالتالي، من مرحلة احتلال الأرض وإنشاء الدولة، إلى مرحلة فرض شرعية الدولة وحقها التاريخي من خلال إرغام الفلسطينيين على التنازل عن حقهم التاريخي، ومن ثم إلى مرحلة يهودية الدولة باعتبارها دولة لليهود فقط بكل ما يحمله ذلك من آثارٍ خطيرة على القضية الفلسطينية وعلى الفلسطينيين أنفسهم، خصوصاً المقيمين منهم ضمن إطار تلك الدولة. وأخذ الإسرائيليون تدريجياً بسياسة ربط مصير سكان فلسطين العرب في المناطق المحتلة عام 1948 بمصير سكان الضفة وقطاع غزة المحتلين عام 1967 في محاولة واضحة لتحويل الأمر من قضية احتلال وحقوق مغتصبة إلى قضية ديموغرافيا.

لم يكن الفلسطينيون ببعيدين عن ما يجري وعن فشل المفاوضات في تحقيق أي إنجاز. وبدأ الحراك داخل فلسطين واضحاً، وسقط هذا النمط من السلام كخيار شعبي فلسطيني وبقي محصوراً بطبقة من المتكسبين والمستفيدين وبأقلية تتربع على هرم السلطة الفلسطينية. وترجم الفلسطينيون ذلك بإنجاح حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في الانتخابات التشريعية الفلسطينية، مما أدى بالنتيجة إلى استيلاء حركة حماس، ببعديها الفلسطيني والإسلامي، على قطاع غزة، في صراع واضح على السلطة ضمن برنامج مضاد يرفض الفساد المالي والسياسي ويربط مصير القضية الفلسطينية باستمرار المقاومة من داخل فلسطين. واتحدت قوى دولية وعربية وفلسطينية مع العدو الإسرائيلي في محاولة مستميتة ودموية للقضاء على سيطرة حركة حماس على قطاع غزة، حيث اعتبر البعض بأنّ استيلاء حماس على السلطة في قطاع غزة سوف يرجح كفة التوازن الإقليمي لصالح المعسكر المضاد لإسرائيل وللسلام، في حين اعتبر الإسرائيليون نجاح حركة حماس بأنه تهديد من الداخل لدور إسرائيل الإقليمي في الخارج. ولم يكن ما حدث في غزة بمعزل عن ما يجري في الخارج. فقد تزامن ذلك مع تبلور حركات شعبية أخرى في المحيطين العربي والإسلامي مثل حزب الله في لبنان وتنظيمات مسلحة أخرى بأشكالها المختلفة ومواقعها المختلفة، بالإضافة إلى تبلور تفاهم ما بين دول بعينها وهي إيران وسورية وتركيا، وهي دول ذات ثقل في الإقليم الشرق أوسطي ولها مصالح تاريخية ضاربة الجذور، ولا تسمح لكيان دخيل وغريب وجديد مثل الكيان الإسرائيلي بأن يهدد تلك المصالح. وقد ترافق كل ذلك مع محاولات دولية جادة لإضعاف دول الإقليم العربية الرئيسة لصالح إسرائيل. فتم احتلال العراق وتمزيقه كما تم تحييد دول الإقليم الكبرى من خلال إشغالها بقضايا داخلية وأمنية.

وهكذا، يخطئ العرب خطأً كبيراً في ترك العنان للسلطة الفلسطينية لإجراء أي تسوية تشاء للقضية الفلسطينية انطلاقاً من أنّ ذلك أمر فلسطيني ويخص الفلسطينيين وحدهم. فالنتائج المتوقعة لمثل هذه التسوية سوف تفاقم حالة الاحتقان الفلسطيني والعربي والإسلامي، وستؤدي إلى تعزيز قوة إسرائيل ودورها الإقليمي بما يتناقض بالضرورة مع مصالح الفلسطينيين والأمتين العربية والإسلامية. إنّ اختباء الأنظمة العربية خلف السلطة الفلسطينية انطلاقاً من المقولة الكاذبة بأنّ ما يرضي الفلسطينيين، ممثلين بالسلطة الفلسطينية، يرضي العرب، أو أنّ العرب لن يزايدوا على الأخوة الفلسطينيين، إلى غير ذلك من أعذار محزنة، كل هذا لن يجلب السلام، بل سوف يؤجج الغضب ويدفع بالمنطقة إلى أتون يحرق الداخل العربي والإسلامي مُـطـَهِّـراً ومُـكَفـِّراً قبل أن يصل لهيبه إلى قلب العدو الإسرائيلي وحلفائه وأصدقائه المعلنين وغير المعلنين.

إنّ عدم السماح بحل القضية الفلسطينية خارج إطار الثوابت الوطنية الفلسطينية كما جسدها الميثاق الوطني الفلسطيني، هو الضمان لبقاء القضية الفلسطينية حية، ولحماية الحقوق الوطنية للشعب العربي الفلسطيني، ولتجنيب بعض الأقطار العربية، مثل الأردن، العواقب الوخيمة المدمرة فيما لو سمح لإسرائيل بفرض التسوية التي تريدها على الفلسطينيين وعلى دول الجوار والمنطقة بشكل عام. وهكذا، يصبح مطلب وقف ما يسمى بمفاوضات السلام وإلغاء هذا المسار، مطلباً وطنياً فلسطينياً يصب في المصلحة الفلسطينية والعربية ويجنب الفلسطينيين أولاً والعرب ثانياً الآثار المدمرة لعقد معاهدة سلام مع العدو الإسرائيلي على أساس الشروط الإسرائيلية وتحت مظلة الضعف الفلسطيني والعربي الكامل. وانطلاقاً من ذلك، فإنّ الأنظمة العربية الداعمة لمسيرة المفاوضات كما تديرها السلطة الفلسطينية هي مسؤولة أيضاً عن العواقب الوخيمة لمثل تلك المسيرة وتتحمل المسؤولية كاملة عن النتائج المترتبة عنها فيما لو استمرت بدعمها لتلك المسيرة وللسلطة الفلسطينية. إنّ المصلحة الوطنية والقومية لكافة الدول العربية تتطلب رفع الغطاء العربي الساتر والحامي لتلك المسيرة باعتبارها لن تؤدي إلا إلى مزيد من الخراب وعدم السماح للسلطة الفلسطينية للاستمرار بالقفز بين غطاء الإجماع العربي واستقلالية القرار الفلسطيني كيفما شاءت وكلما ارتأت ذلك مناسباً لتمرير سياسات لا تحظى بالشعبية أو القبول بين أوساط الشعب الفلسطيني.

إنّ سرقة الوقت الإضافي من خلال اجترار أفكار قديمة بلغة جديدة هو فن أجادته وتجيده السلطة الفلسطينية. فمحاولة اكتساب المزيد من الوقت من خلال جولات مفاوضات جديدة يعني، بالنسبة للسلطة الفلسطينية، حياة جديدة، في ظل غياب أي نوايا إسرائيلية لإعطاء أي تنازلات حقيقية للفلسطينيين، وفي ظل عدم قدرة الفلسطينيين على فرض أي تنازلات على الإسرائيليين. وانطلاقاً من ذلك، فإنّ المصلحة الوطنية الفلسطينية تستدعي اختفاء السلطة الفلسطينية عن المسرح السياسي الفلسطيني، وإجبار العدو الإسرائيلي على لعب دوره المباشر كقوة احتلال، وعدم السماح لهذا العــــــدو بالاستمرار في الاختباء خلف السلطة الفلسطينية وممارسة الاحتــــلال الفعلي من خلالها. إن مثل هذا الإجراء ســـيؤدي إلى كشف المستور أمام الفلسطينيين حتى لا يبقوا تحت وهم أنهم مستقــــلون ولديهم دولة، وأمام العالم حتى لا يظن هذا العالم أنّ الاحتلال قد انتهى من خـــــلال وجود رئيس لدولة فلسطين دون وجود دولة فلسطـــينية. فالمعظم، حتى الآن، يلعب الدور المناط به ولكن دائماً على أرض الملعب الإسرائيلي وضمن حدوده. وقد آن الأوان لوضع حد لهذه المهزلة السوداء.


 

*نشر هذا المقال في جريدة القدس العربي اللندنية بتاريخ  25/ 2/ 2011