د.  لبيب قمحاوي

يقف المواطن العربي اليوم عاجزاً أمام تنوع وحجم المشاكل والتحديات التي يجابهها وطننا، ومدى انغماس المسؤولين من كل الأطراف في تعزيزها وجعلها جزءاً من حياتنا اليومية بل ومستقبلنا.

مشكلة العرب ليست مع بعضهم البعض، ولكن مع سياسات بعضها معلن والكثير منها غير معلن تهدف إلى خدمة مخططات وأهداف مرسومة حتى ولو كان ذلك على حساب الوطن والمواطن. ومن أجل ذلك، حرص كل نظام على خلق طبقة من المسؤولين الذين تنسجم مصالحهم مع تلك السياسات والأهداف، وبالتالي يشكلون واجهة للنظام الذي ينتمون إليه لحمايته وللمساعدة في تطبيق تلك السياسات.

لا يوجد حل سحري لمشاكل الأمة نظراً لتنوعها واستفحال بعضها؟ الحل السحري غير موجود في الحياة، فهو أمل كل كسول يعيش في عالم الأوهام ولا يريد العمل أو التضحية لايجاد حلول لما يجابهه أو يكتنفه من مشاكل. والأمم الهابطة هي التي تفتش عن الحل السحري كأن يضرب زلزال مثلاً تل أبيب ويختفي الكيان الاسرائيلي بإرادة سماوية دون أن نتكفل بالثمن والتضحيات اللازمة لتحقيق ذلك، أو أن نستيقظ من النوم ونجد أن الأردن قد أصبح دولة نفطية….. الخ.

الشعوب الهابطة هي التي تملك قيادات هابطة وتعيش بالتالي على الآمال المرتبطة بحلول سحرية خيالية. إنها الشعوب التي يجري الزمن ويتركها خَلْفَه منغمسة في أحلام اليقظة ومتعللة بأسباب ومسببات تُبعد عنها مسؤولية الفشل وتجنبها واجب العمل والتضحية للوصول إلى الحلول اللازمة.

العرب عموماً يتساءلون عن المُحَصّلة النهائية لما هم فيه ويتساءلون، ما العمل؟ المصريون منهم والسوريون والليبيون والفلسطينيون واللبنانيون والتونسيون وغيرهم من العرب، ما العمل؟ بعض العرب أخذتهم العزة بالإثم وباتوا يعتقدون أنهم في منأى عن الجحيم المحيط بهم، والبعض الآخر بلغ منهم القنوط مراحل متقدمة جعلهم يفقدون كل أمل في النجاة وباتوا يترحموا على الماضي، متعللين بمؤامرة قادمة من هنا أو تآمر قادم من هناك، بينما واقع الأمر يشير دائماً إلى الداخل كمصدر لكل المشاكل.

لا يمكن أن يصيبنا ما أصابنا من ويلات و نكبات دون أن نكون قد خلقنا بأنفسنا الأرضية المناسبة لحدوثها. من الطبيعي أن يتآمر الآخرون علينا، ولكنهم لن يستطيعوا تنفيذ رغباتهم إلا إذا وَفـّرنا الأرضية اللازمة والظروف الموضوعية لانتصارهم وانكسارنا. أما الإدعاء بأنهم انتصروا علينا وهزمونا رغماً عنا فهو ادعاء واهم. عوامل النصر تكمن في داخلنا وداخل أي أمة، تماماً كما أن عوامل الهزيمة تكمن أيضاً في داخلنا وداخل كل أمة.

النصر بالكلمات دون الأفعال هو اختراع عربي حديث. والهزيمة التي لا ذنب لنا فيها هي أيضاً اختراع عربي حديث. وكأن الآية الكريمة “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” قد نزلت خصيصاً للعرب. إذ كيف يمكن أن تنهض الأمم دون استحضار عوامل القوة الذاتية والتفوق والإبداع مُعَزَزَة بالاستعداد الذاتي للتضحية. والتضحية هنا ليست بالضرورة حكراً على مفهوم التضحية بالنفس، بل تشمل أيضاً الاستعداد للتضحية بالوقت والجهد والفكر وبالعمل لمصلحة الفرد والمجموع ضمن إطار مؤسسي ورؤيا واضحة. وتبقى فسحة الأمل هي طاقة الفَرَج التي تجعل الحياة الصعبة ممكنة، وغيابها هو الطريق الأقصر للانهيار المادي والمعنوي والفشل الذريع. وطاقة الفَرَج هي في قلوبنا وعقولنا وإرادتنا وبصيرتنا وليست في الأفق البعيد تنظر إلينا ولا ننظر إليها. وللأسف فإن الأفق العربي حالياً وعلى رحابته يبقى مضطرباً ومليئاً بالعواصف. ولا يوجد الآن أي صدى فيه يعلو على صدى الموسيقى الإسرائيلية التي ابتدأت تعزف ألحانها الخاصة بها،وعلى وقعها ابتدأ بعض العرب يرقصون ملتزمين بالإيقاع الإسرائيلي التزاماً ذاتياً دون ضغط أو إكراه.

وهكذا يجابه الفلسطينيون الآن أنماطاً جديدة من الأعداء المُدﱠثِرين بعباءة العروبة وعليهم أن يتعاملوا معهم انطلاقاً من القاعدة الذهبية بأن “صديق عدوي هو عدوي”. معظم الحكام العرب لهم الآن اتصالات سرية وعلنية مع اسرائيل، وبعضهم أكثر من ذلك. فبعضهم الآخر يستقطب حُرّاسه الشخصيين من جهاز الموساد الإسرائيلي، والتنسيق الاستخباري بين العديد من الأجهزة الأمنية العربية مع جهاز الموساد الاسرائيلي أصبح أمراً روتينياً. والقيادة الفلسطينية أكثر قبحاً في تعاملها مع اسرائيل حتى ولو كانت تبرر ذلك بالواقعية التي تعترف بالاحتلال وتتعاون معه من منطلق أن “الضرورات تبيح المحظورات”، دون توضيح ما هي “الضرورات”؟ وما هو المقصود منها؟

تُرى ماهي الضرورات التي تجعل محمود عباس يتشدق مثلاً بالحديث عن “المحرقة اليهودية” (الهولوكوست) وبأنها “أبشع جريمة عرفتها البشرية في التاريخ الحديث”، ويتنطح صائب عريقات بالإدعاء والقول أن هذا هو الموقف الفلسطيني!! لماذا لم يصرح محمود عباس، مثلا، بأن “المحرقة اليهودية” و”مذبحة دير ياسين” هما من أبشع الجرائم التي عرفتها البشرية في التاريخ الحديث؟ لو فعل ذلك لكان فيه فائدة للفلسطينيين وتذكيراً بجرائم الصهيونية وأصولها الغاصبة لفلسطين،ولتم ربط مذبحة دير ياسين بالمحرقة اليهودية في أذهان المجتمع الدولي . ما هي الضرورات التي جعلت محمود عباس وصائب عريقات يتمسحان بأعتاب اسرائيل مجاناً؟ ويذكرون المآسي المتعلقة باليهود وينسون أو يتناسون تلك المتعلقة بالفلسطينيين؟ ومن سمح لمحمود عباس أن يقول ما قاله بإسم الفلسطينيين، ومن سمح لصائب عريقات أن يدعي زوراً بأن هذا هو الموقف الفلسطيني؟ تلك هي المصيبة التي يعاني منها الفلسطينيون الآن وهي تنبع من داخل المجتمع الفلسطيني وقيادته التي التزمت بالضرورات وتناست المحظورات.

وحتى لا تصبح الضرورات مطلباً شعبياً فلسطينياً وعربياً،فمن الضروري التذكير بأن السنوات لا تقاس في عمر الشعوب بعددها،تماماً كما أن سنوات الاحتلال لا تقاس في عمر الشعوب المناضلة من أجل حريتها وحقوقها بعددها أيضاً. الشعوب المستكينة للاحتلال تنحدر نحو هاوية القنوط والاستسلام بصمت وقَدَرِية يجعلان من ذلك الاحتلال واقعاً وليس حالة طارئة،ويخلق استعداداً زائفاً لدى الكثيرين للقبول بحتمية بقاءه واستحالة التخلص منه.

يدعي العديد من المسؤولين الفلسطينيين والعرب بأن سنوات الاحتلال الاسرائيلي الستون ونيف تشكل النهاية بالنسبة للشعب الفلسطيني، وأن خطر فقدان الوطن وتراثه ومعالمه إلى الأبد قد أصبح قائماً. وهذه المقولة هي الوسيلة الأمثل لتبرير التنازلات البلهاء والتفريط بالحقوق الوطنية الفلسطينية التي تنتهجها القيادة الفلسطينية، وجسراً للحكام العرب يعبرون منه إلى اسرائيل حتى يضمنوا رضا أمريكا عنهم.

الإصرار على تعداد السنين هي المقياس الأنسب لدى الفاشلين لتبرير النتائج السلبية لغياب الإرادة والاستعداد للتضحية. أما المناضلين الحقيقيين، فإن المقياس الزمني الوحيد المقبول لديهم هو الوصول إلى الأهداف المنشودة. العثمانيون حكموا العرب وغير العرب مئات السنين، وفي النهاية غادروا. والعرب حكموا اسبانيا (الأندلس) مئات السنين،وفي النهاية غادروا. وفي جنوب افريقيا حكمت الأقلية البيضاء الأغلبية السوداء في إطار نظام فصل عنصري جهنمي ودموي، وفي النهاية اضطروا إلى مغادرة الحكم وتسليمه الى الأغلبية السوداء. ماذا يخشى الفلسطينيون؟ الإسرائيليون قد يحكمون لعشرات السنين أو أكثر بقليل أو أكثر بكثير،ولكنهم سوف يغادرون في النهاية طالما كان هنالك إرادة فلسطينية لمقاومة وجودهم الاحتلالي والاحلالي، طال الزمان أم قصر.

وحتى تكون هذه المقاومة ذات جدوى،فإنها يجب أن تأخذ أشكالاً عديدة وأن لا تكون نمطية . فعلى الفلسطينيين الاستفادة من كل ما هو متاح أمامهم دون أن يؤدي ذلك إلى أي تنازل على الإطلاق. وتعامل الفلسطينيين مع واقع الاحتلال يجب أن يبقى تعاملاً قسرياً تحكمه الضرورة دون أن يعني ذلك القبول بالاحتلال أو الاستسلام له. فالتعددية في النضال وأساليبه هي في نفس أهمية التعددية في السياسة. يجب أن يتسع صدر فلسطين والعرب لكل أشكال النضال دون تخوين أو تكفير أو إقصاء طالما كان الهدف هو تحرير القلب الفلسطيني والعقل الفلسطيني والإرادة الفلسطينية والعربية، فبدون ذلك لا يمكن تحرير الأرض الفلسطينية أو الواقع العربي المهزوم والمأزوم. فالحرية يصنعها الأحرار وليس التابعين والمهزومين في داخلهم.

صحيح أن على الفلسطينيين الاستفادة من كل ماهو متاح من أجل خدمة قضيتهم ولكن على شرط أن لا يؤدي ذلك إلى أي تنازل على الإطلاق. فكما يدعي الإسرائيليون بأنهم موجودون على الأرض ليبقوا، على الفلسطينيين أن يأخذوا نفس الموقف ويؤكدوا أنهم  موجودون على الأرض ليبقوا عليها. وذلك يجب أن لا يعني أنهم موجودون فقط على جزء من الأرض ليبقوا عليه أو أنهم يريدون ذلك أو يوافقوا عليه. فلسطين كلها هي الأرض.

هذا الكلام لا ينطبق على الفلسطينيين فحسب،بل على الحكام والشعوب العربية أن يعوه ويفهموه،فإسرائيل عدو للعرب تماماً كما هي عدو للفلسطينيين. والعلاقة الوحيدة المقبولة إسرائيلياً مع العرب هي علاقة التبعية،أي تبعية العرب لاسرائيل.

إن الولوج في المسالك الخلفية والسير في عتمة الظلام للتواصل في علاقة غير مشروعة بين الحكام العرب وإسرائيل هي دليل على أن هذه العلاقة لا تحظى بالقبول الشعبي. ولكن يبقى السؤال الكبير، منذ متى يهتم الحكام العرب بما تريده شعوبهم؟؟؟ ومنذ متى تهتم القيادة الفلسطينية الحالية بما يريده الفلسطينيون؟؟


 

*نشر هذا المقال في جريدة رأي اليوم اللندنية بتاريخ  30/ 5/ 2014