د. لبيب قمحاوي

لم ينتصر الاسرائيليون عسكرياً في حربهم الأخيرة على الفلسطينيين القاطنين في قطاع غزة، كما لم يُهزم الفلسطينيون. إن عدم إنتصار اسرائيل لا يعني هزيمتها , تماماً كما أن عدم هزيمة الفلسطينيين لا يعني انتصارهم. فمقاييس النصر والهزيمة تكتسب بُعداً خاصاً عند الحديث عن عدوان عسكري دموي تشنه اسرائيل على الفلسطينيين المدنيين العُزﱠل القاطنين في منطقة غزة الفلسطينية. موازين الانتصار والهزيمة لها معاييرها في السياق التقليدي للأمور وهي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالقدرة على تحقيق الأهداف المنشودة. لكننا لا نتحدث هنا عن وضع تقليدي . الحديث هنا عن أقوى قوة عسكرية إقليمية تشن حرباً دموية شرسة على شعب مدني أعزل محاصر منذ سنوات ويفتقر إلى الحد الأدنى من القدرة العسكرية للدفاع عن نفسه، ولا يمتلك سوى إرادته الوطنية العنيدة وإستعداده اللامتناهي للتضحية .

إن استعمال الوحشية المفرطة في قتل المدنيين وتدمير البنية التحتية للمجتمع المدني كما فعلت اسرائيل في منطقة غزة وما تزال تعكس حالة متقدمه من الإفلاس الأخلاقي وأزمة غياب الضمير الإنساني التي تعصف الآن بالمجتمع الإسرائيلي. وهذا يشكل بداية انحلال المنظومة الرومانسية لإسرائيل والتي حاولت الحركة الصهيونية تسويقها في العالم من خلال مستوطنات الكيبوتس . وروح الريادة التي ساهمت في تحويل اليهود من كل حدب وصوب إلى مجتمع إسرائيلي قد ماتت الآن ومع موتها قد نشهد بداية انهيار اسرائيل من الداخل بشرط أن لا تقدم لها السلطة الفلسطينية وأعوانها والأنظمة العربية قبلة الحياة.

تَمَحْوَرَ الاهتمام الفلسطيني والعربي على ما يجري من دمار وقتل ومآسي انسانية نتيجة العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين في منطقة غزة دون الانتباه إلى الأهداف الحقيقية من وراء ذلك العدوان. وقد كانت تلك الأهداف الخفية هي القوة الحقيقية المُحّركَة لمواقف بعض الدول العربية في تحالفها مع العدو الإسرائيلي بالإضافة إلى السلطة الفلسطينية التي حكم عليها مسارها السياسي الاستسلامي بالانحياز الصامت لإسرائيل في تصديها لنهج المقاومة للاحتلال.

إن ما يجري للفلسطينيين الآن ليس بمعزل عن ما يجري في المنطقة العربية بشكل عام. ما جرى ويجري يشير إلى أن هنالك مؤامرة تفوق في أبعادها وخطورتها واقع العدوان الأجرامي التدميري على منطقة غزة. فكسر ارادة المقاومة لدى الفلسطينيين ونزع السلاح المقاوم في غزة هي أهداف معروفة ومعلنة. أما الأهداف الخفية فقد تكون أكثر خطورة من فعل التدمير والقتل لأنها ستؤدي في النهاية إلى حسم الأمور لصالح العدو وبرعاية العربان القابعين في ثنايا عباءته. نحن أمام مؤامرة أخطر من العدوان نفسه، وأكثر جبروتاً في نتائجها من الموت المرافق للعدوان إذا جاز التعبير.

الهدف الحقيقي للعدوان هو جزء من مخطط اقليمي واسع تكتمل  حلقاته تدريجياً بهدف إعادة تشكيل المنطقة بما يتناسب والرؤيا الأمريكية –الإسرائيلية . ويرافق عملية إعادة التشكيل مخطط تفتيت العالم العربي وتحويله إلى إمارات طائفية وعرقية , وإفراغ العالم العربي من مواطنيه المسيحيين وهم مُكَوﱢن أصلي في المنطقة ورئة ثقافية وحضارية طالما تنفس العالم العربي من خلالها واكتسب صفتي التسامح الديني والمواطنة اللتين تعلوان على أي صفة أو هوية أخرى.

لمصلحة من يتم العمل إذاً على تفتيت العالم العربي المنكوب وإفراغه من مكونه المسيحي وباقي الأقليات المذهبية ؟ لا توجد إلا إجابة واحدة وهي اسرائيل وأكثر تحديداً يهودية اسرائيل باعتبار أن ما يجري للعرب المسيحيين على أيدي تنظيمات مثل داعش هو أمر سوف يستعمله الإسرائيليون لتعزيز إدعاءهم بضرورة الحفاظ على نقاء الهوية الدينية اليهودية لاسرائيل كوسيلة لتجنيبها مخاطر التصفية كتلك التي يتعرض لها المسيحيون العرب على أيدي منظمات اجرامية مارقة مثل داعش ذات الأصول المشكوك بها. وهكذا تتحول قضايا المنطقة من قضايا وطنية ذات طبيعة سياسية أو تحررية مثل قضية فلسطين، إلى قضايا دينية ومذهبية وطائفية تعطي اسرائيل الشرعية اللازمة للاستمرار كدولة يهودية وتحشر الشعب الفلسطيني في خانة المذهبية وتزيل عن قضيته الصفة الوطنية السياسية. تطور خطير لأنه يمس جوهر القضية والحقوق الوطنية الفلسطينية في الصميم , كما أنه يُحَوﱢل العرب من أمة طامحة إلى مجموعة من الأقليات المتناحرة.

فعملية إلغاء العروبة كهوية جامعة وقطب مُوَحِدْ وجاذب لصالح هويات أخرى مبعثرة طائفية ضيقة وعرقية صغيرة و طاردة كانت دائماً في صلب الاستراتيجية الإسرائيلية. والأمر لم يقف عند ذلك، بل تجاوز نفسه إلى حد المساعدة في تأسيس تنظيمات ذات أهداف دموية وإقصائية مثل “داعش” التي لم ترفع شعاراً واحداً ضد اسرائيل وأمريكا ولم تتبنى أي عملية ضد اسرائيل. وحتى تمعن في الإساءة إلى الإسلام فإنها تستعمل أدوات وأساليب عفا عليها الزمن على أساس أنها جزءٌ من التراث الإسلامي مثل الضرب بالسيوف وقطع الأعناق والسبي وفرض الجزية. أمور كارثية أهدافها معروفة وهي إعطاء الإسلام صفة الدين الدموي الإرهابي. وهكذا يتم استبدال العروبة بالإسلام ثم يتم تدمير الإسلام من خلال تحويله من دين واحد إلى مذاهب متناحرة واقناع العالم بدمويته عن طريق منظمات تم تأسيسها من قبل المخابرات الأمريكية والموساد وبعض دول النفط العربي. والنتيجة أن يصبح العرب بلا هوية وبلا مرجعية . ماهي حصيلة كل ذلك؟

لا أحد يذكر اسرائيل الآن باعتبارها العدو وكل التركيز على داعش وأخواتها !!! لا أحد يُبقي نَظَرَهُ الثاقب على العدو الحقيقي سوى ضحية ذلك العدو الشرس وهم الفلسطينيون القابعون تحت الاحتلال. فإسرائيل تطورت من كونها قوة الاحتلال الفعلي والمادي لفلسطين والفلسطينيين، لتصبح صاحبة النفوذ الأقوى سياسياً على الدول العربية الأخرى المحيطة بها في الإقليم. وهذا يعني أنه في حين أن علاقة الفلسطينيين بإسرائيل هي علاقة طاردة أحدهما يسعى بالضرورة إلى إلغاء الآخر، فإن علاقة الأنظمة العربية باسرائيل هي علاقة استسلام طوعي لإسرائيل مبنية على الخَيَار والمصلحة الأنانية للأنظمة أكثر من الضرورة التي قد يفرضها واقع الأحتلال.

إن التطورات الأخيرة في العلاقات العربية – الفلسطينية تحاول التركيز على الوجه السلبي لتلك العلاقات. ومع أن القيادات الفلسطينية قد تكون أخطأت في تعاملها مع العرب في مناسبات عديدة سواء عن قصد أو بدون قصد، إلا أن ذلك  يجب أن لا يشكل مبرراً لأولئك العرب لدعم اسرائيل في مخططاتها التوسعية وفي ذبحها للفلسطينيين أو في الخلط المقصود في الإساءة وتوجيه اللوم إلى الفلسطينيين والقضية الفلسطينية عوضاً عن توجيهه إلى منظمات فلسطينية بعينها مثل حماس أو فتح أو الجهاد الأسلامي الخ. وإذا كان من الضروري بحث العلاقة بين الأنظمة العربية والفلسطينيين، فإنه لمن المؤسف أن ذلك أصبح مستحيلاً بمعزل عن البعد  الاسرائيلي. فالعلاقة أصبحت ثلاثية الأطراف كل طرفين فيها يتطلب وجود الطرف الثالث. أصبحت اسرائيل في معظم الأحيان الوصي على العلاقة بين الأنظمة العربية والفلسطينيين من جهة، وأصبح العرب الوسيط بين الفلسطينيين واسرائيل من جهة أخرى بالرغم من أنها وساطة ناعمة ولا تهدف إلى اغضاب الإسرائيليين . والأنظمة العربية في تحديد علاقاتها بالفلسطينيين بمختلف أطيافهم تحسب حساب اسرائيل وما تقبل به أولاً وقبل النظر إلى مصلحة الفلسطينيين. اسرائيل أصبحت إذاً “بيضة القبان” في العلاقات العربية- الفلسطينية وأصبحت بالتالي القوة المؤثرة في تحديد مستقبل المنطقة باعتبارها قوة الاحتلال السياسي المعترف بها من قبل العديد من الأنظمة العربية طوعاً وعلانية.

العدوان الأخير على الفلسطينيين في منطقة غزة كان اسرائيلياً من الناحية العسكرية , ولكنه كان فلسطينياً سلطوياً وعربياً واسلامياً و دولياً من الناحية السياسية . ولأول مرة تُجاهر العديد من الأنظمة العربية بعدائها للشعب الفلسطيني وتأييدها لإسرائيل بل ومناشدتها من قبل البعض لالحاق مزيد من الأذى بالفلسطينيين، ومع ذلك لم يُهزم الفلسطينيون. وهذه قد تكون بداية الخير ليس من منطلق “اللهم نجني من أصدقائي أما أعدائي فأنا كفيل بهم”، ولكن من منطلق الاعتماد على النفس وعلى النفس فقط . وهذه قد تكون البداية لتغيير جذري في الواقع الفلسطيني واستشرافه لكيفية وامكانات حل صِرَاعَه مع اسرائيل دون الاعتماد على حكام الدول الشقيقة الصديقة لإسرائيل لفعل ذلك.

لقد خسر الإسرائيليون معركة الرأي العام العالمي وانتصر الضمير العالمي للفلسطينيين وأدان معاناتهم، في حين انهزم الضمير العربي أمام معاناة الفلسطينيين. معادلة محزنة تدمي القلب لما آل إليه الوضع العربي . ومع ذلك فهناك ما يبعث على الأمل المتجدد. فمع أن بعض الدول العربية القائدة أصبحت تابعة للسياسات الأمريكية والإسرائيلية، إلا أن ذلك أدى إلى استرداد حركة الرفض والاحتجاج الشعبي العربي بعضاً من وعيها وعافيتها، وان كان ذلك ببطء ملحوظ خصوصاً بعد أن عاش الجمهور العربي وحشية ودموية العدوان الإسرائيلي الأخير على منطقة غزة الفلسطينية وما رافقها من ضعف وغياب رد الفعل الرسمي العربي وصمود وبسالة المقاومة الفلسطينية والفلسطينيين.


 

*نشر هذا المقال في جريدة رأي اليوم اللندنية بتاريخ  14/ 8/ 2014