د. لبيب قمحاوي

الآن وقد هدأت النفوس وابتدأت العواطف بالانحناء أمام العقل، علينا أن ننظر بروية وهدوء إلى مجمل الأحداث التي رافقت وأعقبت العدوان الإسرائيلي الأخير على منطقة غزة الفلسطينية، وأن نعيد تقييمها على ضوء النتائج المبدئية المتمثلة بوقف اطلاق النار أو بحديث أدق وقف العدوان الإسرائيلي ، ومدى استعداد العدو الإسرائيلي للاستجابة للمطالب الوطنية المحقة للشعب الفلسطيني والمتعلقة بغزة الفلسطينية، والدور الذي لعبته السلطة الفلسطينية ودول عربية عديدة في السماح لهذا العدوان الدموي بالاستمرار لأكثر من خمسين يوماً، وإرادة الصمود والتصدي الفلسطينية التي قاومت الحديد والنار الإسرائيلي بأجساد ودماء الفلسطينيين .

الكثيرون رقصوا فرحاً وهللوا للانتصار العظيم على إسرائيل في عدوانها الوحشي على غزة. معظمهم يرغب أن يدعو ما حصل، بما في ذلك قرار وقف إطلاق النار، انتصاراً للمقاومة الفلسطينية . كل طرف كان له أسبابه الخاصة. الفلسطينيون عن حرقة ورغبة في الانتصار ورفض لسياسات السلطة التي أوصلتهم إلى لا شيء، والإسلاميون لحسابات خاصة بهم أهمها رد الاعتبار وإعادتهم إلى صدارة الأحداث، والسلطة الفلسطينية لأمر ما في نفس يعقوب وان كان الأهم هو التعلق بحبل النجاة القادم من صمود غزة قبل الغرق المحتوم لسفينة السلطة . ولكن تبقى الحقيقة هي الأهم وهي الأبقى بغض النظر عن ما نشعر به أو ما نريده ونرغب به.

الفلسطينيون لم ينهزموا في عدوان غاشم لئيم دام أكثر من خمسين يوماً ضمن حصار خانق، لأن أرادتهم في الصمود والمقاومة لم تنكسر أبداً طيلة فترة العدوان . أما العدو الإسرائيلي بكل جبروت قوته العسكرية والتدميريه من الجو والأرض فإنه لم ينتصر لأنه فشل في فرض إرادته على الفلسطينيين . لقد نجح الإسرائيليون في قتل المدنيين والأطفال، ونجحوا في تدمير المباني والبنى التحتية، وفشلوا في كل شيء آخر .

إن نجاح الإرادة الوطنية الفلسطينية في الصمود قد أصاب العدو الإسرائيلي بصدمة حقيقية وأدى إلى موجة احتجاج عالمية وضعت إسرائيل في مأزق حقيقي شَكَّل بداية الهزيمة الأخلاقية والضميرية التي عصفت بالمجتمع الإسرائيلي وما تزال. وهكذا تعود أسس الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي تدريجياً إلى بدايات حقبة المقاومة ومرحلتها النشطة متجاوزة الآثار السلبية التي تركتها سنوات أوسلو وحكم السلطة الفلسطينية والتنازلات المجانية التي قدمتها عن العديد من ثوابت القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني .

الصمود الفلسطيني يعني فشل إسرائيل في تحقيق أهدافها المنشودة من وراء العدوان . ويبدو أن الهدف الإسرائيلي الأكبر وغير المعلن يتمثل في قتل ثقافة المقاومة وإعادة غرس ثقافة الاستسلام واعتبار نهج “الاحتلال الهادئ” هو الأمثل للتعامل مع واقع الاحتلال . فتاريخ العلاقة بين الفلسطينيين وإسرائيل واضح جداً حيث أن اللغة الوحيدة التي تتعامل بها إسرائيل مع الفلسطينيين هي إما الخضوع والقبول بواقع الاحتلال وإملاءاته، أو السجن والقتل والتدمير . وانطلاقاً من هذه الرؤيا، فإن  أي تنازل تقدمه إسرائيل للفلسطينيين هو في حقيقته شكلي ومؤقت، في حين أن التنازلات الفلسطينية لإسرائيل يجب أن تكون قطعية وفي الجوهر وملزمة مهما حدث و حتى لو نكث الإسرائيليين بوعودهم والتزاماتهم !

إن فشل الإسرائيليين في كسر إرادة الصمود والتصدي لدى الشعب الفلسطيني بالرغم من قساوة ووحشية العدوان لم يكن الهزيمة الوحيده التي لحقت بالإسرائيليين .  فهنالك هزائم أخرى لَحِقَتْ بهم خلال عدوانهم الأخير على منطقة غزة الفلسطينية .

لقد هزَمَ الفلسطينيون للمرة الثانية المبدأ الأساسي في نظرية الأمن القومي الإسرائيلي وهو المتعلق “بالحرب الخاطفة” .  فهذه النظرية تؤكد على وجوب عدم السماح بجر إسرائيل إلى حرب طويلة مما قد يفرض عليها استدعاء الاحتياط أو مزيداً منه وما يعنيه ذلك من آثار سلبية جداً على الاقتصاد الإسرائيلي كلما زادت مدة الحرب حيث أن الجيش الإسرائيلي مكون من جيش نظامي صغير العدد واحتياطي كبير العدد .

كما أن إغلاق مطار بن غوريون إثر تهديدات فلسطينية بقصفه يشكل هزيمة معنوية قاسية لإسرائيل ولكبريائها العسكري، ونصراً معنوياً واضحاً للفلسطينيين . وهذا التطور سوف يرغم العديد من الإسرائيليين على إعادة تقييم موقفهم من الفلسطينيين والتوقف عن النظر إليهم باعتبارهم لا شيء . وقد يكون في ذلك تطوراً سلبياً من خلال دفع المزيد من الإسرائيليين نحو التطرف والتشدد، وهو الأرجح، أو ايجابياً من خلال دفع المزيد من الإسرائيليين نحو القبول بحتمية التعايش مع الفلسطينيين وايجاد أرضية مشتركة للتفاهم معهم منعاً لتفاقم الأمور، ولكن كل شئ يتوقف في النهاية على كيفية إدارة الفلسطينيين لصراعهم مع  إسرائيل .

لا أحد يُنكر دور حركة حماس في خلق بيئة وأجواء مُقَاوِمَةُ، وتوفير تلك الحاضنة للشعب الفلسطيني بما في ذلك التوجه نحو التسلح بالأسلحة المختلفة ومنها الصواريخ مهما كانت بسيطة أو بدائية. ولكن الذي قاتل وصمد وضحى واستشهد هم في المحصلة أبناء الشعب الفلسطيني في منطقة غزة الفلسطينية وليس أبناء حماس فقط ، ولذا يعود النصر لهم والتحية والتقدير لحركات المقاومة في غزة الفلسطينية .

تسعى السلطة الفلسطينية بمساعدة عربية واضحة إلى احتواء حركة حماس وإدخالها في دهاليز السلطة ومساراتها المظلمة لتكون بذلك قد نجحت فيما فشلت فيه إسرائيل من خلال عدوانها. أما حماس فهي بالطبع ليست بهذه السذاجة، ولكنها تعاني في الوقت نفسه مما تعاني منه باقي التنظيمات والفصائل الفلسطينية وأهمها الخلافات الداخلية ناهيك عن الخلاف حول المرجعيات العربية والإسلامية التي تنتمي إليها التيارات المختلفة داخل حركة حماس. هنالك عدة أجنحة داخل حماس، هناك حماس الداخل (أي داخل فلسطين) وحماس الخارج، وهناك من له مرجعية تقترب من قطر وتركيا (خالد مشعل)، أو تقترب أكثر من مصر (موسى أبو مرزوق) وهناك محور إيران –  حزب الله وهو الأكثر نفوذاً في الداخل وهناك علاقة حماس المعقدة والمتشابكة مع الأخوان المسلمون . وهكذا فإن تشتت الأوضاع الداخلية في حماس ومرجعياتها العربية والأسلامية والإقليمية المختلفة وربما المتناحرة، يجعلها أقل تحصيناً في تعاملها مع أطراف المعادلة من عرب وسُلْطة فلسطينية وإسرائيل في حقبة ما بعد وقف إطلاق النار .

يبدو أن الفلسطينيين قد تعرضوا لعدوانين في نفس الوقت . العدوان الأول القادم من إسرائيل وهو عدوان عسكري احتل اهتمام العالم أجمع واستدعى احتجاج معظم الشعوب والعديد من الدول لوحشيته ودمويته. وهناك العدوان الصامت الذي لم يسمع به أحد ولكن نتائجه وعواقبه قد تكون في نفس الخطورة التي سببها العدوان العسكري الإسرائيلي . وهذا العدوان الصامت هو تآمر معظم الأنظمة العربية مع إسرائيل، وإن لم يكن مع إسرائيل فهو بالتأكيد ضد الفلسطينيين .

الصمت الرسمي العربي على ما فعلته إسرائيل بمنطقة غزة هو عدوان على الشعب الفلسطيني. وسماح الأنظمة العربية لإسرائيل بالاستمرار في قصف الأماكن المدنية وقتل المدنيين وأغلبيتهم من الأطفال لأكثر من خمسين يوماً هو مؤامرة على الشعب الفلسطيني . والعرب الصامتون على تدمير غزة وقتل الفلسطينيين، هم نفس العرب اللذين يتنادون الآن للأنضمام إلى أمريكا وحلف الناتو في عمل عسكري ضد داعش .

وحتى نضع الأمور في نصابها، فإن الفلسطينيين يعلمون بالمتغيرات في أولويات معظم الأنظمة العربية . والفلسطينيون يعلمون مثلاً أن أولويات مصر قد اختلفت، فالعدو الأكبر لها الآن هو الأخوان المسلمون وليس إسرائيل، ولكن هذا يجب أن لا يكون على حساب الفلسطينيين . فحركة حماس قد تكون أخطأت في تعاملها مع مصالح مصر القومية خلال حكم محمد مرسي، ولكن هذا لا يعني أن يدفع الفلسطينيون والقضية الفلسطينية الثمن، والأهم أن لا تقبض إسرائيل ذلك الثمن . والسعودية صَحِيَتْ بعد سبات طويل وبعد انقضاء أكثر من أربعين يوماً من القصف والقتل لتتبرع بمبلغ خمسمائة مليون دولار لن يقبضها أحد ولا تساوي نقطة دم طفل فلسطيني واحد . وقطر كانت تضغط على خالد مشعل طول الوقت لرفض وقف إطلاق   النار، لماذا ؟  ولمصلحة من ؟ ومن أوحى لقطر باتخاذ هذا الموقف ؟  أما سوريا والعراق واليمن وليبيا فهي تحت المجهر ومُختَرَقة من أجهزة استخباراتية متعددة منها الموساد الإسرائيلي . وهكذا خَبِرَ الفلسطينيون أول عدوان مُرَكَّب قادته إسرائيل وشاركت فيه العديد من الأنظمة العربية سواء من خلال صمتها الطويل أو من خلال مشاركتها السياسية والاستخباراتية النشطة .

السلطة الفلسطينية هي امتداد للأنظمة العربية أكثر منها قيادة للشعب الفلسطيني كما أنها ظل الأحتلال الإسرائيلي في المناطق التي تديرها .  والسلطة الفلسطينية تصرفت خلال العدوان على غزة كوسيط أكثر منها كطرف في الصراع وكقيادة حقيقية لشعب يتعرض للعدوان . وعلى أية حال، فإن أكبر خلل في المعادلة الفلسطينية – الفلسطينية تتمثل في الرغبة الدفينة لمحمود عباس في أن تفشل حماس في تحقيق مطالبها إلا إذا كان ذلك يعني تسليم ثمرات النجاح للسلطة الفلسطينية بقيادته . وهو يشترك في ذلك الموقف مع مصر وإن كان لأسباب مختلفة . ولكن مصر هي الوسيط في المفاوضات والسلطة الفلسطينية هي التي تقود الوفد الفلسطيني في المفاوضات . إذاً طرفي المعادلة الفلسطيني والعربي في التفاوض مع إسرائيل لا يريدون نجاح حماس في مطالبها ! ماذا نتوقع إذاً من هذا المخاض ؟؟  آلاف الشهداء وآلاف الجرحى ودمار شبه كامل والحصيلة تآمر واضح على مطالب الشعب الفلسطيني لأنها سوف تعزز من وضع حماس .

وبالرغم من كل ذلك، فإن إسرائيل ليست بوضع أفضل . فرئيس حكومتها، بنيامين نتنياهو، يكافح من أجل البقاء في السلطة بينما حلفاؤه يتآمرون عليه لإخراجه منها . نتنياهو أصبح الحليف الأقرب للعرب والسلطة الفلسطينية لأن ذهابه يعني وقوع الحكم في أيدي أقصى اليمين الإسرائيلي ومطالبه الشاذة، يقابلها معسكر عربي مهلهل وغير قادر أو بالأصح غير راغب في الصراع مع اسرائيل ويشاركه في ذلك السلطة الفلسطينية . وهذا يعني حُكماً أن المستقبل هو لنهج المقاومة لأن أقصى اليمين الإسرائيلي لا يفهم إلا لغة القوة ومفهوم “الاحتلال الهادئ” لا يعني شيئاً بالنسبة له .

والآن نعود من حيث ابتدأنا، ما هي النتيجة؟ هل انتصر الفلسطينيون أم لا وهل انهزم الإسرائيليون أم لا ؟ نستطيع القول بأن الإرادة الفلسطينية قد انتصرت وأن أهداف اسرائيل لم تتحقق بالعدوان العسكري وقد تتحقق بالنتيجة بالعدوان السياسي من خلال تعاون الأنظمة العربية والسلطة الفلسطينية في منع حركة حماس وبالتالي الفلسطينيين من الحصول على أي مكاسب ومساعدة نتنياهو في عدم تقديم أي تنازلات منعا ً لأحراجه سياسيا ً.

وأخيراً، وعندما تكتشف الأنظمة العربية أن إسرائيل عدوهم تماماً كما هي عدو الفلسطينيين، وعندما يتأكد كل الفلسطينيين أن لا سبيل لإزالة الاحتلال إلا بالمقاومة، وأن التحـريـر يبـدأ بتحـريــر النفـس أولاً، عنـدها فقط يحـق لنا أن نقـول أننا على طـريـق النصـر …. ولحماس بقية.


*نشر هذا المقال في جريدة رأي اليوم اللندنية بتاريخ  3/ 9/ 2014