كلما وصل العرب والإسرائيليون إلى قناعة بأن القضية الفلسطينية قد انتهت وأن الفلسطينيين قد وصلوا إلى الحضيض وأصبحوا جزءًا من التاريخ المنسيّ الذي لا يريد أحدٌ أن يتـَذكرهُ ، تتفاجأ كل الأطراف بأن الفلسطينيين و بالرغم من كل عمليات التآمر والطحن المادي والمعنوي والخيانات التي ضربتهم من كل اتجاه وفي كل اتجاه ، ما زالوا أحياءً وقضيتهم ما زالت ناراً مشتعلة حيناً وجمراً أحياناً . والأهم أنه كلما صغر عمر الأجيال الفلسطينية وازداد بعدها الجغرافي عن فلسطين ، ازداد غضبها وشراستها في رفض الاحتلال والإصرار عن عودة فلسطين لأبنائها . مفارقة ليست عجيبة لأن هذه الأجيال البعيدة تتمتع بهامش أكبر من الحرية وقد ترى الأمور بشكل أكثر وضوحاً حتى من أبناء فلسطين الذين يعيـشون قربها أو في قلبـها.

الأذى والدمار الذي لحق بالفلسطينيين وقضيتهم جاء من داخلهم أولاً ومن الأنظمة العربية ثانياً ومن الاحتلال الإسرائيلي وأمريكا ثالثاً ومن العالم الإسلاميّ رابعاً . وإذا لم يملك الفلسطينيون الشجاعة للإقرار بمسؤولية قياداتهم عن تدهور الحال الفلسطينيّ وحال القضية الفلسطينية ، فلا جدوى من أي محاولة لتوجيه اللوم أو الانتقاد للآخرين ولا مجال لإصلاح المسار الفلسطيني والعربي بشكل فـَعّال .

ابتداءً يجب أن لا يتفاجئ أحد مما يفعله الإسرائيليين والأمريكيين بالفلسطينيين ، فهم العدو الحقيقي وهم بالتالي أصحاب المصلحة المباشرة في تأزيم الوضع الفلسطيني باستمرار وفي تحويل الفلسطينيين وقضيتهم إلى حِمل ثقيل على الجميع وإلى مشكلة لا يرغب أحد بها أو حتى بالسماع عنها . وهم أصحاب المصلحة في تدمير كل ما هو فلسطينيّ وقتل كل من يناضل من أجل فلسطين .

استمد نظام الحكم الفلسطينيّ أي شرعية يمكن أن يدعيها لنفسه الآن من مرحلة النضال الفلسطيني ضد الاحتلال . وهذه الشرعية ، وإن كانت في حينها شرعية في المنفى ، إلا أنها كانت أكثر تأثيرًا على الفلسطينيين في الداخل والخارج وأكثر صدقًا في التعبير عنهم من السلطة الفلسطينية المقيمة الآن على أرض فلسطين . لقد كانت منظمة التحرير الفلسطينية ، وهي السَلـَفْ الجيد لهذه السلطة الرديئة ، ممثلا شرعياً ووحيدًا للشعب الفلسطيني كونها كانت الوعاء لكافة المنظمات والتيارات الفلسطينية الفاعلة . وعندما استبدلت قيادة ياسر عرفات شرعية البندقية التي انبثقت عنها تلك المنظمة بشرعية السلام الكسيح الذي نتج عن اتفاقات أوسلو وانبثق عنها ما يسمى بالسلطة الفلسطينية أصبحت تلك الشرعية في مهب الريح . ولكن هل من المعقول أن يختفيَ نهج المقاومة من برنامج عمل السلطة الفلسطينية ، وتبقى شرعيتها ؟ بالـطبع لا ، إلا إذا كـان مصدر تلك الشرعية بالنسبة للسلطة لا يأتي من خلال المقاومة للأحتلال بقدر ما يأتي من خلال القبول به  ، وهو الأب الروحي لاتفاقات أوسلو وهو مَنْ أسـﱠسَ لها . والسلطة الفلسطينية ، وهي الإفراز الرئيسي ، إن لم يكن الوحيد ، لاتفاقات أوسلو ، هي التي تطوعت علنًا وعلى لسان رئيسها الحالي بإلغاء المقاومة للاحتلال من برنامج السلطة واعتبارها من المحرمات !

يبدو أنَّ المسؤولين الفلسطينيين وبحكم دورهم الجديد في السلطة الفلسطينية قد أصبحوا أدوات بيد الاحتلال من خلال التزامات فرضتها اتفاقات أوسلو وملاحقها السرية مثل التنسيق الأمني مع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية ، والالتزام بوقف نهج المقاومة واعتقال المطالبين به . وتحولت القيادة الفلسطينية من قيادة للمقاومة إلى رادع لها . وأصبح المسؤولون الفلسطينيون بذلك عملاءَ أو جواسيس للاحتلال وفي أحسن الأحوال أصبحوا عبيدًا له ، وليس قيادة ً للمقاومة أو لشعب تحت الاحتلال له معاناته ومتطلباته وآماله وطموحاته

لقد نجح الإسرائيليون في تدمير الحلم الفلسطيني الذي كان يرنو دائمًا إلى العودة إلى فلسطين وتأسيس دولة ديمقراطية أساسها العلم والكفاءة والشفافية وتكافؤ الفرصة وعلنيتها وتداول السلطة بشكل سلميّ و دوري لتكون مثالاً لجميع الدول في المنطقة . فالفلسطينيون الذين بنَوا العديد من الأقطار العربية ، خصوصاً الخليجية ، كانوا يحلمون بفعل نفس الشيء لأنفسهم . ولكن تحول ذلك الحلم إلى كابوس حين عادت مجموعات القيادات الفلسطينية المقيمة في تونس مُطالِبة بثمن تضحياتها ونضالها من لحم و دم الشعب الفلسطيني المقهور تحت الاحتلال . وابتدأت عملية تأسيس دولة الأمن وحكم الزعران ليعطي أسوأ مَثَلٍ على ما يمكن أن يقدمه الفلسطينيون فيما لو تولوا أمورهم بأنفسهم . وابتدأ مسلسل ربط أجهزة الأمن الفلسطينية بالموساد وغيرها من أجهزة الأمن الإسرائيلية .  ومحمود عباس يحكم وكأنه رئيس دولة مستقلة في حين أنها  أرض محتلة . ويريد الاحتفاظ بالكرسيّ حتى مماته ومن بعده الطوفان . وقادة فتح يريدون من الشعب الفلسطيني أن يستمر في تمويل وظائفهم وملذاتهم حتى الممات وكأنهم يحاسبون هذا الشعب المسكين على كل طلقة أطلقوها أو ساهموا في إصدار التعليمات لإطلاقها من أجل فلسطين . هذا الكابوس المرعب من السياسات والمسؤولين القابعين على صدر هذا الشعب الفلسطيني المنكوب ، يمتصون أمواله وخيراته بكل وقاحة ، يشكل بحد ذاته أكبر مشاكل الشعب الفلسطيني بعد مشكلة الاحتلال ، وهو التحدي الأكبر أمام إعادة بناء الموقف الفلسطيني.

كان العرب يخشون إعطاء أي تنازلٍ للإسرائيليين على حساب الفلسطينيين إلى أن جاءت قيادة ياسر عرفات “الملهمة” ووقـّعَتْ مع الإسرائيليين اتفاقية أوسلو ، وابتدأ مسلسل التنازلات العربية لإسرائيل من خلال رفع العرب لشعار خطير ظاهره أبيض وباطنه أسود وهو “نقبل بما يقبل به الأخوة الفلسطينيون” وكان المقصود “بالأخوة الفلسطينيين” هو قيادة السلطة الفلسطينية. مدخل مُريب وعجيب لمسلسل التنازلات العربية لإسرائيل الذي ابتدأ في 16 ديسمبر عام 1991 بإلغاء قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3379 الصادر في نوفمبر 1975 والذي يقارب الصهيونية بالعنصرية وذلك تلبية لطلب إسرائيل كشرط لقبولها المشاركة في مفاوضات السلام في مدريد . وتلا ذلك التجميد الفعلي للمقاطعة العربية لإسرائيل والتي كانت شوكة في حلقها ، بعد أن تم تمهيد الأرضية لذلك عقب توقيع اتفاقية أوسلو بين قيادة ياسر عرفات وإسرائيل عام 1993 واتفاقية وادي عربة بين الأردن وإسرائيل عام 1994 . وأعقب ذلك إعلان مجلس التعاون الخليجي في عام 1994 إنهاء مساهمته في جهود مقاطعة إسرائيل ، وفي عام 1996 اعترف المجلس نفسه بأن الإلغاء الكامل لمقاطعة إسرائـيل “خطوة ضرورية نحو السـلام والتنمية الاقتصادية في المنطقة ” . وابتدأت الاتصالات السرية والعلنية بين العديد من الدول العربية وإسرائيل . وهكذا  فتحت القيادة الفلسطينية الباب على مصراعيه أمام العرب لارتكاب الفواحش مع إسرائيل  باسم الفلسطينيين .

إن الحفاظ على ما تبقى من ثوابت القضية الفلسطينية وعلى الحقوق الوطنية الفلسطينية يتطلب من الفلسطينيين سرعة التخلص من قيادتهم التي لا تكف عن استعمال شرعية فلسطينية مزعومة من أجل تعزيز شرعية الاحتلال من خلال إعطائه تنازلات مجانية مستمرة

إن النضال ضد أدوات الاحتلال هو في نفس أهمية النضال ضد الاحتلال . فالاحتلال التقليديّ يَحكم مباشرة من خلال تفوقه العسكريّ ، أما الاحتلال الذكي فيحكم بأدوات نابعة من داخل المجتمع المُحْتـَل . وإسرائيل تعتمد الآن على الأدوات الفلسطينية للسيطرة على الداخل الفلسطيني ولإعطاء العالم الانطباع الزائف بأنه لا يوجد احتلال بل توجد سلطة فلسطينية وحكومة فلسطينية تحكم شعبَها ، وفي الوقت نفسه تقوم إسرائيل بأخذ ما تريد من تنازلات من تلك السلطة مجاناً وبدون ثمن إلى الحد الذي خلق مللاً لدى أوساط اليمين الإسرائيلي التي أصبحت لا ترى أي مبرر لإعطاء الفلسطينيين أي شيء على الإطلاق ، بل على العكس تشعر بأنها تستطيع أن تأخذ منهم كل شيء حتى مسجدهم الأقصى دون أي مقابل .

وتكتمل الحلقة حول عنق الفلسطينيين بالحديث عن الخلاف بين حماس والسلطة الفلسطينية وهو ليس ببعيد عن الهدف الإسرائيلي في تدمير الوحدة الوطنية الفلسطينية . ويساهم في هذا الجهد العديد من الدول العربية التي يدعم بعضها محمود عباس ، والبعض الآخر محمد دحـلان، وآخرين حركة حماس ، ولكن لا أحد من العرب يدعم حقيقة أي جهد لإعادة اللُّحمة إلى الوضع الفلسطيني والدفع باتجاه تكريس الوحدة الوطنية الفلسطينية على أسس تلتزم بمصلحة القضية الفلسطينية .

خلاف حماس مع السلطة الفلسطينية وحركة فتح هو في حقيقته صراع على النفوذ والحكم. وفي هذا السياق فإن حماس ليست بأفضل من السلطة . كلاهما يريد أن يحكم تحت راية الاحتلال وليس فوقها . والفرق أن حماس لم تعلن تخليها عن نهج مقاومة الاحتلال ، ولكنها في المقابل ارتكبت معاصي  أخرى مثل القفز من الحاضنة السورية إلى الحضن القطَري في لمح البصر ، وتحالفها المشؤوم مع الإخوان المسلمين على حساب الشعب الفلسطيني ومصالحه بالرغم من أن الدعم المصري أهم لفلسطين من الدعم الإسلامي الذي لم يتجاوز في أي وقت من الأوقات الدعم اللفظي للفلسطينيين أو الدعاء لهم بالنصر من على منابر الجوامع وبين جدران البيوت .

وحتى نحسم موضوع دور العالم الإسلامي في الدفاع عن القضية الفلسطينية ، دعونا نستذكر أن تأثير العالم الإسلامي على مجريات القضية الفلسطينية كان وما يزال شبه معدوم ومحصورًا بالتصريحات حيناً والدعاء أحيانًا والدعم المالي أحيانًا أخرى حتى لو تعلق الموضوع بأماكن مقدسة مثل المسجد الأقصى . الإسرائيليون يعلمون ذلك ويعلمون أنهم لو هدموا الأقصى على رؤوس المصلين ، فلن يتصدى لهم سوى الشعب الفلسطيني ، أما العالم الإسلامي فقد يزأر ولكن عن بعد . وإذا ما استمر الإسلاميون في هذا النهج متناسين الحكمة الخالدة “أُكِلْت يوم أُكِل الثور الأبيض” ، فقد يأتي يوم نرى فيه اليد الإسرائيلية تمتد إلى الأماكن المقدسة في مكة والمدينة ، وهما ليسا أعزَّ وأغلى على الإسلام من المسجد الأقصى .

التساؤل الذي يدور الآن على لسان العديدين يتمحور حول المستقبل . المعظم يعتبر الواقع المرير الذي نعيشه الآن هو تمهيد لمستقبل أكثر مرارة ينتظرنا سواء شئنا ذلك أم أبيناه .

ما يجري الآن قريب جدًا لما حصل في منطقتنا عشية انهيار الإمبراطورية العثمانية حيث كان الجهل سيد الموقف بين أغلبية الناس والعملاء كانوا قيادة الموقف بشكل عام . أمّا الآن فإن الجهل المنظم اكتسح القاعدة الجماهيرية العريضة من خلال حركات سلفية وإسلامية ترنو إلى الماضي ليس للتنور ولكن لإعادة الأمـور قرونًا إلى الخلف وكما كانت في عهد السـلف ، وقادة الموقف أصبحوا طبقة جديدة من الحكام الطغاة . لم يتغير الكثير سوى أننا أصبحنا أكثر وعيًا لخطورة الجاهلين منا ولأستفحال سادتنا من العملاء .

إن الالتصاق في رحم ما اعتدنا عليه منذ اتفاقات سايكس – بيكو قريب جداً من الشعور الذي ألمَّ بالعرب عشية سقوط دولة الخلافة العثمانية . والانتقال من بساطة حياة التخلف إلى التحديات التي يجلبها التغيير معه قد تدفع بالكثيرين إلى الإصرار على الاحتفاظ بما هم فيه واعتبار ذلك هو الأفضل ، في حين أن الخوف من التغيير ونتائجه قد يكون هو السبب الحقيقي وراء ذلك الموقف . والتغيير النابع من داخل الأمة هو الهدف المنشود وهو الوسيلة الأسمى لدفع مستقبل الأمة إلى الأمام. ولكن ما نحن فيه من اضمحلال في عنفوان الأمة وإخضاعها التدريجيّ لإرادة الغير ، وهم غالبًا من الأعداء ، يجعل التغيير أمرًا محفوفًا بالمخاطر .

ما نحن فيه أمر يدعو إلى الوَجَل والأسى ، ولكن تُرى هل للبيت رب يحميه أم شعب يحميه أم لا هذا ولا ذاك ، وإلا كيف وصلت بنا الأمور إلى ما وصلت إليه وكيف أصبح المسجد الأقصى والقدس تحت رحمة بساطير الاحتلال ؟


*نشر هذا المقال في جريدة القدس العربي اللندنية بتاريخ  19/ 11/ 2014