د. لبيب قمحاوي

 لم يسبق أن تحول الهمس السياسي في الأردن إلى جلبة وصخب وغضب مسموع ومقروء ومرئي، كما هي عليه الحال الآن. فانتقاد السلطة أصبح يومياً وعلنياً وقاسياً وشاملاً لمن وراء السلطة وفي ثناياها، بل ولكل ما يحيط بها. وفقد العديد من المناصب الرسمية الاحترام العام لصالح النقد العام، وفي أحيان كثيرة الاحتقار العام. وما كان من المحظورات أصبح ممارسة عامة يومية مما يؤكد انهيار الاحترام العام لتلك المناصب وما تمثله، بل وتجاوزت الممارسات حد الانتقاد العام إلى توجيه أصابع الاتهام إما تلميحاً أو تصريحاً. ما الذي حصل؟ وكيف وصلت الأمور إلى هذا المستوى؟ وما الذي أيقظ الشيطان من سباته ليرقص رقصات النار ويعانق اللهيب؟

إذا كان الموضوع سردياً فالقائمة طويلة، وإذا كان الموضوع شمولياً فالنتائج تتكلم عن نفسها. دولة فتية تبرعت بتمزيق نفسها حتى الثمالة، بدون وازع وبدون رادع. هل ما حصل هو جهل وتقصير، أم محاولة للانتحار، أم تقرب من الشيطان من أجل فتات لا يسمن ولا يغني عن جوع، هذا إذا لم يكن الفتات معجونا بالسم القاتل.

دعونا نقترب من هذا الواقع المؤلم بهدوء وروية وصبر بعيداً عن الانفعال حتى نفهم إذا كنا نعلم حقيقة ما هم فاعلون أو نستوعب الدروس إذا كنا حقيقة لا نعلم.

لقد قامت الدولة الأردنية طواعية بإضعاف جميع مؤسساتها الدستورية لصالح مؤسسة واحدة هي مؤسسة العرش، وهو أمر لا داعي له، لأن دستور الدولة الأردنية لعام 1952 يضع مؤسسة العرش فوق كل المؤسسات ويفصل آلية العلاقة بين كل مؤسسة ومؤسسة العرش بصورة واضحة. إذاً لمصلحة من تم إضعاف تلك المؤسسات ومن هو المستفيد الأكبر؟

إن إضعاف مؤسسات الدولة الأردنية وعلى رأسها الحكومة ومجلس النواب والقضاء، إضافة إلى العديد من مؤسسات الدولة الأخرى، وانسحاب الدولة من معظم واجباتها الاجتماعية والتنموية أو تقليصها إلى الحد الأدنى يعني في الحقيقة إضعاف الدولة الأردنية نفسها، وبالتالي إضعاف دورها الوطني والإقليمي.

وكان لا بد أن يتبع ذلك، بالضرورة، إضعاف المؤسسة الوحيدة التي بقيت متماسكة ألا وهي الوحدة الوطنية، وذلك من منطلق فرّق تسد حيث لا يمكن لدولة ضعيفة وشبه مفككة أن تسيطر على شعبها ما دام متماسكاً. وهكذا، أصبح من الضروري طعن الوحدة الوطنية وتفكيكها باعتبارها القاعدة الصلبة للحفاظ على تماسك الدولة ومنعها من السقوط في ظل غياب أي دور فاعل ومؤثر لمؤسسات الدولة الدستورية. وأخذت قوى الظلام تلعب في مقدرات الدولة واستغلت تلك المؤسسات المُنتهكة والمغيبة لتجعل منها إحدى أدوات فك الوحدة الوطنية وتدميرها. وبلغت تلك المؤسسات الدستورية من الضعف والمهانة حداً أصبح فيه موظف من الدرجة السادسة أو السابعة في مكتب يدعى ‘مكتب المتابعة والتفتيش’ قادراً على أن يمارس سلطة الحكومة، إن لم يكن الدستور والعرش، في سحب جنسية المواطن الأردني وذلك بجرة قلم. ولم يقف الأمر عند ذلك الحد، بل رافقه تطاول واضح على كبار مسؤولي الدولة من أصل فلسطيني، حيث أجاب أحد موظفي مكتب المتابعة والتفتيش أحد المواطنين الذي احتج على سحب الرقم الوطني منه (أي الجنسية الأردنية) بقوله: ‘حتى طاهر المصري (رئيس مجلس الأعيان الأردني) سنحضره إلى هنا’ أي إلى مكتب المتابعة والتفتيش.

ما هو هذا المكتب الذي أصبح موظفوه يتصرفون بإرادة مطلقة تعز من تشاء وتذل من تشاء؟ وما هي صلاحياته والسلطات المناطة به؟

لا يستند مكتب المتابعة والتفتيش في وجوده وفي تعامله مع المواطنين الأردنيين من أصل فلسطيني إلى أي قانون على الإطلاق، بل إلى تعليمات تدعى تعليمات فك الارتباط، التي أصبحت كماً مجهولاً لا يعلم أحد كنهه. هي تعليمات مجهولة في وضعها الحالي حتى لمن كتبها في الأصل. فهذه التعليمات التي ساهم في صياغتها وزير الداخلية الأردني في عام 1988 (السيد رجائي الدجاني) لا تنص على التنكيل بأحد ولا تعطي أحدا حق سحب الرقم الوطني على أساس عرقين كما لا تمس بحقوق أي أردني من أصل فلسطيني كان موجوداً في الأردن حتى عام 1988 وقد أوضح السيد الدجاني هذا الكلام في اجتماع برئاسة الملك عبدالله الثاني، وإن لم يحظ هذا التوضيح في حينه على رضا مدير المخابرات الأردنية في ذلك الوقت (السيد محمد الذهبي) الذي أجاب الملك عندما سأله عن رأيه فيما أوضحه الدجاني بقوله: ‘ماذا سوف يحصل للبلد (أي الأردن) إذا سمحنا لكل العراقيين والفلسطينيين بالحصول على الجنسية الأردنية’. جواب غريب من مدير مخابرات عامة! ما علاقة هذا بذاك. الحديث كان عن مواطنين أردنيين من أصل فلسطيني، وليسوا بشرا من هنا وهناك موجودين على أرض الأردن. وقد طلب الملك عبدالله الثاني في ذلك الاجتماع تشكيل لجنة من كل من طاهر المصري ومحمد الذهبي ورجائي الدجاني لبحث هذه المشكلة والتعامل معها، ولكن الذهبي تهرب من كل اتصال جرى معه لعقد اجتماع لهذه اللجنة التي لم تجتمع أبداً.

عجباً والله أن تكون إرادة مدير مخابرات هي الأعلى ولكن هذا ما حصل.

واستمرت ممارسات مكتب المتابعة والتفتيش، بل وتفاقمت إلى حد العلنية والوقاحة. وأصبح تحويل أي مواطن أردني تسري في عروقه دماء فلسطينية، حتى لو كانت تلك الدماء من الأجداد، أصبح تحويلهم إلى مكتب المتابعة والتنكيل بالفلسطينيين أمراً روتينياً. فالأمر لا يتعلق الآن ‘بتصويب الأوضاع’ وهو اصطلاح غامض على الكثيرين، بقدر ما أصبح وسيلة للفرز، ومن ثم سحب الجنسية أو بحديث آخر، وطبقاً للتعاريف الدولية أصبحت (عملية تطهير عرقي). وللأسف لم يخرج علينا حتى الآن أي وزير داخلية أو رئيس حكومة لإيضاح طبيعة ما يجري من إجراءات وإبداء حسن النوايا، ووضع الأمور في نصابها الصحيح، ناهيك عن إلغاء تلك الإجراءات جملة وتفصيلاً.

إن ممارسات مكتب المتابعة والتفتيش ضد المواطنين الأردنيين من أصل فلسطيني هو عيب وفيه استهتار بكل القواعد الدستورية والإنسانية ولا تقبل به أبسط شرائع حقوق الإنسان. وإذا ما استمر الحال على ما هو عليه، يجب اللجوء إلى مختلف المحافل العربية والدولية المدافعة عن حقوق الإنسان للدفاع عن مواطنين عزل من أي قوة قانونية للدفاع عن أنفسهم في دولتهم التي أفتت محكمة العدل العليا فيها بأن سحب الجنسية من مواطنيها هو ممارسة لحق سيادي، في الوقت الذي يمنع فيه الدستور الأردني الحكومة بموجب المادة 9/1 من إبعاد أي مواطن أردني من ديار المملكة، باعتبار ذلك حقاً مطلقاً للمواطن، فما بالك بإسقاط الجنسية عنه بقرار إداري من قبل موظف عادي في دائرة مبهمة بموجب تعليمات لا تستند إلى أي أسس قانونية أو دستورية.

المطلوب ببساطة هو الغاء تعليمات فك الارتباط وايقاف العمل بها تماما كونها استنفدت اغراضها مما يستدعي بالتالي إلغاء مكتب المتابعة والتفتيش بشكل كامل ونهائي واعتبار القرارات التي صدرت عنه بسحب الجنسية أو تقليصها باطلة ورد الحقوق لأصحابها. والإلغاء، بحد ذاته وعلى أهميته، لا يكفي إذا لم يرافقه إلغاء المهام المناطة بذلك المكتب المشؤوم والمتعلقة بسحب الرقم الوطني (الجنسية) واعتبار مثل هذا الإجراء غير قانوني وممنوعاً على الإطلاق لكل مواطن كان موجوداً في الأردن أو على رأس عمله في المهجر ومتمتعاً بالجنسية الأردنية عشية قرار فك الارتباط عام 1988.

إن التعنت والإصرار من قبل البعض على الاستمرار في برنامج التطهير العرقي ضد الأردنيين من أصل فلسطيني سوف يفاقم من حالة القلق وعدم الشعور بالأمن والآمان والاستقرار النفسي. وهذا قد يدفع العديد إلى الاستثمار الفردي خارج الأردن خوفاً وتحسباً من الجور والظلم وغياب سلطة القانون مما سيساهم بالنتيجة في تفاقم الأزمة الاقتصادية والعجز في الموازنة في الأردن الفقير بموارده كما يحكى.

إن التلكؤ في إلغاء مكتب المتابعة والتفتيش والمهام المناطة به قد يدفع البعض إلى العمل على توثيق ما جرى ويجري في كتاب أسود سوف يتم العمل على نشره واستعماله أساساً للتقدم بشكاوى إلى المحاكم الدولية المختصة إذا ما استمر القضاء الأردني المحلي على إصراره بأن تدمير مستقبل المواطن الأردني من أصل فلسطيني من خلال سحب جنسيته هو عمل من أعمال السيادة، على الرغم مما ورد في الدستور الأردني نصاً وروحاً.


 

*نشر هذا المقال في جريدة القدس العربي اللندنية بتاريخ  11/ 9/ 2010