د. لبيب قمحاوي

لماذا يتصدر الأردن، الفقير بإمكاناته وموارده، الأنباء بطريقة شبه يومية، وإن كان من منطلق وواقع سلبيين في معظم الأحيان؟ فالحديث عن الأردن يتراوح بين فساد يتم اكتشافه يوماً بعد يوم، واضطرابات أمنية متفاقمة جعلت حتى من جامعاته نكتة إقليمية. أما مياهه فتتم سرقتها في وضح النهار في وقت يشتاق فيه المواطن العادي لنقطة ماء، وكهرباءه مصابة بضيق تنفس يتفاقم يوماً بعد يوم، وإعلامه يتم اغتصابه من قبل مؤسسات الحكم عند كل منعطف وزاوية، وحكوماته عاجزة باستمرار عن فهم آمال الشعب أو ترجمة إرادته في أي مجال ومهما كان بسيطاً.هذا في وقت يتفاقم فيه انهيار هيبة الدولة والمنعكس في تزايد لجوء الناس إلى أخذ ما يعتبرونه حقاً لهم بأيديهم. كما أن انهيار الوضع الاقتصادي في الأردن وعجز الحكومات المختلفة عن معالجة الأزمات الاقتصادية والمالية وحاجة البلاد الماسة بالتالي إلى المساعدات الخارجية، قد أدى إلى وضع المملكة في السوق لمن يدفع أكثر مقابل خدماتها العسكرية أو الأمنية أو التدريبية أو اللوجيستية.
لم يقف الأمر عند هذا الحد، فالأردن الآن يستعين بالخارج على الداخل. وبحديث أكـثر دقة فإن نظامي الحكم في الأردن وفلسطين ومن منطلقات ذاتية وأنانية التــقت فيها المصالح الضيقة للأنظمة أخذا في لعب لعبة خطيرة في محاولة لضرب أبناء الشعب الواحد بعضهم ببعض وأبناء الشعبين بعضهم ببعض في سبيل تلبية مصالح آنية لهذا النظام أو ذاك ومقابل خدمات متبادلة بينهما.
تميزت العقود الأربعة الماضية بعزوف النظام الأردني والنظام الفلسطيني عن بعضهما البعض ـ هذا عندما لا يكونان منخرطان في صراع – واقتصار العلاقة بينهما بشكل عام على المظاهر والشكليات مع بقاء الشكوك الخفية المتبادلة والجراح التاريخية العميقة خصوصاً خلال فترة حكم ياسر عرفات والملك حسين. ولكن ما الذي جرى حتى أصبح التدخل الفلسطيني في الحياة السياسية الأردنية أمراً مرغوباً بل مطلوباً وبدعم كامل من مؤسسة الحكم في الأردن؟ لقد كانت الموافقة الأردنية على مثل هذا التدخل أقرب إلى المستحيل. إن ما يجري الآن من موافقة على التدخل لا يأتي استجابة لرغبة أو ضغوط شعبية بل لاعتبارات أنانية، وقد يكون استجابة لرغبات أو ضغوط خارجية. إن للفلسطينيين رؤيا في ما يخدم قضيتهم وللأردنيين رؤيا في ما يخدم مصالحهم، وهاتان الرؤيتان قد لا تتوافقان بالضرورة مع الرؤيا التي تحكم سلوك الأنظمة الحاكمة في كلا القطرين والتي تضع مصالح الأنظمة فوق إرادة ورغبات ومصالح الشعوب التي تحكمها. فالأردنيون من أصل فلسطيني هم أردنيون. ومحاولة النظامين الأردني والفلسطيني اللعب بهذه الورقة وخلق حالة من الانفصام السياسي داخل ذلك الجزء من الشعب الأردني هي لعب بالنار، وسوف تؤدي إلى الوبال على الجميع. والعجيب أن الحكم الأردني الذي كان يتحجج دائماً بموضوع الولاء كأساس للتمييز ضد الأردنيين من أصل فلسطيني هو الذي يدفع الآن وبهمة ونشاط في اتجاه محاولة خلخلة الانتماء الكامل لكافة أبناء الشعب الأردني لوطنهم الأردن.
لا يجوز السماح باستغلال المشاعر الوطنية الوجدانية لخدمة أهداف خفية لا بد أنها غير وطنية ولا تحظى بشعبية، ومن هنا كان الحرص على إخفائها.
لقد قام الحكم الأردني مؤخراً بتسهيل زيارة خالد مشعل ورفاقه في حركة حماس إلى عمان ليس لدوافع وطنية لها علاقة بدعم الفلسطينيين في غزة، أو المساهمة في كسر الحصار عليها، أو لتسهيل المصالحة الفلسطينية، ولكن لأسباب أردنية تتعلق بحركة الإخوان المسلمين في المملكة وموقفها من الانتخابات المقبلة. وخلال حفل عشاء أقيم في عمان وضم العديد من القيادات الأردنية والفلسطينية تم العمل على استغلال نزعة خالد مشعل نحو النجومية السياسية بالطلب منه في حركة مسرحية توزعت فيها الأدوار بين بعض الحاضرين بأن يتدخل لدى حركة الإخوان المسلمين والتوسط لديها لإبداء مرونة تجاه برنامج الإصلاح عموماً ومشروع قانون الانتخاب خصوصاً. وكما هو متوقع تفضل السيد خالد مشعل وتلطف بتمديد زيارته الميمونة لمدة يومين حتى يقوم بتلك المهمة ومع أن الجو الحمساوي خلال تلك الزيارة كان معبقاً بالرائحة القَطَرِية، إلا أن المخفي كان واضحاً. فخالد مشعل الذي حاول جاهداً في السابق أن تتم دعوته لزيارة الأردن ولم تتم تلبية مطلبه، والذي لم يُسمح له حتى بتمديد زيارته عندما جاء بمناسبة وفاة والده، أصبح فجأة النجم الساطع المُرَحَّب به وبدوره السياسي في الحياة السياسية الأردنية ويقرر بنفسه تمديد زيارته للقيام بأدوار سياسية محلية أردنية.
كان الأجدى بخالد مشعل وقيادة حركة حماس أن يضعا هذا المجهود من أجل الوصول إلى مصالحة فلسطينية فلسطينية هامة ومطلوبة لخير الشعب الفلسطيني ومقاومته للاحتلال عوضاً عن استثمار الوقت والجهد في محاولة خدمة النظام الأردني وتطويع حركة الإخوان المسلمين في الأردن للقبول بما هو مفروض عليها وعلى الشعب الأردني. إن الهم الرئيسي لخالد مشعل وحركة حماس يجب أن يركز على المصالحة الفلسطينية- الفلسطينية، بالإضافة إلى حل مشاكل قطاع غزة ومقاومة الاحتلال والعمل على إزالته. هذا هو واجب حركة حماس وهذا هو المطلوب منها، وليس لعب أدوار البطولة في مسرحية هزلية سوداء تلبي غرور هذا القائد أو مصالح ذاك.
وبموازاة العمل على جبهة حماس، أوحت بعض الأجهزة الأردنية لقادة من حركة فتح الفلسطينية بتشجيع الأردنيين من أصل فلسطيني، وكذلك أعضاء حركة فتح في الأردن، على الانخراط في الحياة السياسية الأردنية وفي العملية الانتخابية تحديداً بـِهِمَةٍ ونشاط، وتشجيع الجميع على عدم مقاطعتها. منذ متى تشجع السلطات الأردنية حركة فتح على التدخل في الحياة السياسية الأردنية، ولماذا؟.
خلال الأسبوع الماضي تمت الدعوة إلى سهرة رمضانية في منزل وزير أردني سابق من أصول فلسطينية، وحضره طيف واسع شمل العديد من القيادات الفتحاوية، من أجل الدعوة إلى المشاركة النشطة للأردنيين من أصل فلسطيني في الانتخابات. وبغض النظر عن ما توصل إليه ذلك الاجتماع يبقى السؤال الكبير: لماذا؟ وما علاقة حركة فتح الفلسطينية بالأردن؟ وما هو السر وراء اللـجــوء لـــحــركة فتح؟ وهل ما فرقه الزمان يجمعه الشيطان؟.
الأسباب بالنسبة لحركة حماس معروفة، وهي علاقتها التاريخية بحركة الإخوان المسلمين ومحاولة الحكم في الأردن استغلال تلك العلاقة للضغط باتجاه إقناع إخوان الأردن بالتعاون مع برنامج الحكم الخاص بالإصلاح وخصوصاً ما يتعلق بقانون الانتخاب. أما اللجوء إلى حركة فتح فيهدف، على ما يبدو، إلى تعبئة الفراغ السياسي الذي خلقه الحكم ضمن أوساط الأردنيين من أصل فلسطيني من خلال سياسية الإقصاء. إن محاولة اللجوء إلى حركة فتح لملء ذلك الفراغ و لتعبئة ذلك القطاع من الشعب الأردني باتجاه معين لهو أمر خطير وسوف يؤدي إلى الإساءة إلى دور الأردنيين من أصل فلسطيني. إن طرح حركة فتح لشعار استغلال الانتخابات القادمة كفرصة لاستعادة بعض الحقوق السياسية للأردنيين من أصل فلسطيني لن يجدي لأن الأمر أكثر تعقيداً من مجرد الانتخاب. كان الأولى بنظام الحكم الأردني معالجة هذه المشكلة من خلال اتخاذ الإجراءات اللازمة والضرورية للتركيز على مفهوم المواطنة الناجزة وإعادة الاعتبار للدور السياسي الطبيعي لكافة مكونات المجتمع الأردني بشكل متساوٍ والكف عن تزوير إرادة المواطن الأردني والامتناع عن اختراع قوانين تجتزئ الحقوق وتفرق بين أبناء الشعب الواحد. فاستعادة الحقوق لا تتم عن طريق التسلل بل عن طريق المواجهة الصادقة ضمن حوار وطني علني بين كل مكونات المجتمع الأردني خصوصاً وأن الظلم لا ينحصر بالمكون الفلسطيني بل يشمل أيضاً باقي المكونات ومنها المكون الشرق الأردني وإن كان بدرجة أقل.
المبدأ بسيط وواضح، فالحقوق المكتسبة للبعض تعني بالضرورة حقوقاً منقوصة للبعض الآخر، وعلى الجميع التوقف عن استعمال هذه الاصطلاحات كونها ذات مضمون سلبي. والتمييز والإقصاء بقوة قوانين جائرة أمر خطير ويجب وضع حد له. إن المساهمة في الانتخابات ضمن هذه الأجواء لن تؤدي إلا إلى زيادة رقمية وليس نوعية في عدد النواب الأردنيين من أصل فلسطيني ضمن كتلة أو كتل سوف تقودها الأجهزة الأمنية أو من ينوب عنها. والمكتوب معروف من عنوانه. ومخاطبة رأس الدولة ضمن رسالة وكأنه لا يعلم ما يجري أمر لا يجوز. فكل ما ذكر في تلك الرسالة الموجهة إلى الملك، والتي جاءت ناقصة في بعدها الشرق أردني هي أمور معروفة للقاصي والداني و لا داعي للافتراض بأن أحداً يعلم وأحداً لا يعلم. فالكل يعلم والقليل يتكلم. فهذه السياسة الإقصائية هي سياسة أقلية من الأردنيين المتنفذين وهم نفسهم وراء قوى الشد العكسي في معركة الإصلاح السياسي.
لماذا تتدخل حركتان فلسطينيتان في موضوع سياسي أردني داخلي يرفضه معظم الشعب ويريد الحكم الأردني أن يفرضه على الشعب رغم إرادته؟ لماذا المساعدة في ضرب الشعب الأردني وحركته الوطنية بعصا فلسطينية؟.
الأردنيون من أصول فلسطينية هم أردنيون، وعلاقتهم بفلسطين هي علاقة أصيلة ووجدانية، وهي علاقة معادية ونقيضة ورافضة للوجود الصهيوني، مثلهم مثل كل العرب الشرفاء. وهم ليسوا أداة، و لا يوافقون على أن يكونوا أداة، في يد حكام فلسطينيين نسوا فلسطين وركزوا جهودهم على البقاء في الحكم ولو كان ذلك على حساب الفلسطينيين وعلى حساب القضية الفلسطينية. هذا ينطبق على الحكام في حركة فتح وعلى الحكام في حركة حماس، وكلتاهما حركتان ذات أصول وطنية ومناضلة.
المطلوب من حركة حماس وحركة فتح الابتعاد تماماً عن التدخل في الشؤون الداخلية الأردنية وحصر نشاطهما في فلسطين وخدمة شعب فلسطين وإزالة الاحتلال، تماماً كما أن المطلوب من الحكم الأردني الابتعاد عن سياسة اللعب بالنار والتوقف عن استعمال الكرت الفلسطيني متى شاء وكيفما شاء. الأردنيون بكافة أصولهم ومنابتهم مع حق كل أردني في المواطنة الكاملة الناجزة وضد أي برنامج موحى به من الخارج وضد أي سياسات تهدف إلى خدمة الخارج. إن التعاون العجيب بين نظامي الحكم الأردني والفلسطيني يبدو أقرب ما يكون إلى المثل الشعبي القائل ‘شو لم المتعوس على خايب الرجا’.


 

*نشر هذا المقال في جريدة القدس العربي اللندنية بتاريخ  7/ 8/ 2012