إنّ ما يدور من أحاديث أردنية هامسة حيناً وصاخبة أحياناً أخرى، هي في سياق الحديث في موضوع طالما صُنِّف بأنَّه خارج إطار التداول، كونه يطعن الوحدة الوطنية في القلب، وهي وحدةٌ عزيزةٌ على كل مواطن مخلص. فالنقاء العرقي أو الطائفي لأي مجتمع هو أمر مستحيل، ويعكس نازية في التفكير والتطلعات. وما يتردد صداه أحياناً في جنبات المجتمع الأردني هو، بالتالي، محاولات يائسة من قبل البعض لخلق أجواء من القلق بين أبناء الوطن الواحد. وما يدعو إلى الريبة والتساؤل يتعلق بالأسباب الحقيقية والنوايا الخفية وراء مثل هذا النهج من التفكير، الذي على ما يبدو، يهدف إلى خلق بلبلة في المجتمع، في وقت نحن في أمس الحاجة فيه إلى التكاتف ورص الصفوف، كما هي الحال في المجتمعات الثائرة في باقي الأقطار العربية، التي تتدافع نحو الالتقاء واللحمة الوطنية، لا فرق بين أفرادها إلا بمدى قرب أي فرد منها أو بعده عن مفاسد النظام السائد وعن مطالب الإصلاح والتغيير الحقيقي.

هنالك أقلية في الأردن من أصول شرق أردنية ومن أصول فلسطينية، تحاول إجهاض المطالب الشعبية بالإصلاح والتغيير، من خلال الادعاء بأن الإصلاح والتغيير قد يؤدي إلى الإخلال بتوازنات قائمة، وأن الديمقراطية في الأردن قد تؤدي، بالتالي، إلى صراع داخلي. هراء في هراء وتستطيع هذه الأقلية أن تذهب إلى الجحيم وأن تحتضن الشيطان. لا يوجد مثل هذا الهراء على مستوى الوطن، ويبقى هذا الفكر المسموم في خيال تلك الأقلية. إنّ مطالب الإصلاح والتغيير قائمة ومستمرة على أي حال، وعلى الرغم من رياح السموم. والشعب الأردني ما زال ينظر إلى الأمام من دون أي اعتبار لتلك الأقلية، من الذين يصرون على النظر في اتجاهات أخرى لا وجود لها إلا في عقولهم. وقياساً على الدستور الأردني، فإن جميع الحقوق منتقـــصة، بغض النظر عن الأصول والمنابت. والأردنـــيون جميعاً يقفون، بالتالي، صفاً واحداً في مطالبهم العادلة للإصلاح ولا يوجد أي سبب يدفع أحداً للخــوف من أحد. الجميع سواسية في الــــبلاء والمعاناة، والجميع يجب أن يكونوا سواســـية في دفع البلاء ودرء المخاطر عن الوطن وعـــن المجتمع. ولا يجــــوز أن يوجد استقواء من فئة على أخرى. فالاســتقواء يجب أن يكون من المجتمع قاطبة على الفاسدين والمفسدين. وقد قطع المجتـــمع الأردني شوطاً طويلاً في هذا الاتجاه.

إنَّ من يدعي بأنَّ الأردن هو دولة لجزء من المجتمع الأردني فقط، مخطئ بحق نفسه وحق المجتمع. فالدولة تمثل مواطنيها جميعاً وليس جزءاً من مواطنيها. الدولة الأردنية تمثل المجتمع الأردني كاملاً. فالأردنيون من أصول شرق أردنية هم جزء من المجتمع وعماده وهم، في معظمهم، مظلومون ومضطهدون في بلدهم الأردن، تماماً مثل الأردنيين من أصل فلسطيني، وهم ليسوا حالة طارئة أو مؤقتة في وطنهم الأردن، إذ أنهم شركاء حقيقيون ساهموا في بناء الدولة الأردنية الحديثة مذ وجدت، وهم أيضاً، في معظمهم، مظلومون ومضطهدون في بلدهم الأردن. السطوة والحظوة في الأردن هي لقلة من الأردنيين من مختلف الأصول والمنابت والمرتبطين بمفاسد ومغانم السلطة ومؤسسات النظام. أما الشعب بكل مكوناته فقد كان دائماً هو الضحية.

الأردنيون جميعاً ضد التجنيس السياسي والتوطين، والأردنيون جميعاً ضد العبث بحقوق المواطن وجنسيته، والأردنيون جميعاً ضد الوطن البديل وهو مشروع إسرائيــــلي، ولا يجوز ولا يحق لأي فئة من الشعب الأردني الادعاء بأنها هي فقط المدافعة عن الأردن ضد مشــــروع الوطن البديل واحتكار ذلك واعتباره المشروع الوطني الخاص بها، وكأن باقي الشعب الأردني موافــــق على التوطين وعلى الوطن البديل. إنَّ في ذلك الادعاء الباطل ظلما وإجحافا عظيمين بحق باقي الشعب ومُسَاعَدةً لا حدود لها للعدو الصهيوني، وتبرئة له من مخططاته الإجرامية .

القول بوجود مشكلة داخلية في الأردن تفوق في أهميتها استرداد حقوق الشعب السياسية والمالية ومحاربة الفساد هو قول عجيب، وبالتأكيد يخلو من الصحة. فالمشكلة في الأردن ليست بين المواطنين بعضهم مع بعض، بل بين المواطنين والسلطة وأتباع السلطة، ومع الفاسدين والمفسدين الذين سرقوا الوطن والمواطن. فالشعب الأردني بكل مكوناته عاش مستضعفاً في وطنه، حقوقه مهضومة، وثرواته منهوبة، ومقدراته ليست بيده. والاستثناء من كل ذلك كان، وما يزال، فئة محدودة جداً تنتمي إلى كافة مكونات المجتمع الأردني، ربطت نفسها وارتبطت بالسلطة. وقد اتخذت هذه العلاقة شكلاً شبه مؤسسي أخذ أبشع صوره على شكل التوريث الوظيفي، بحيث أصبحت الشريحة العليا من الوظائف العامة، وخصوصاً السياسية منها، تورث من الأب إلى الابن وأحياناً الحفيد. وأصبح الورثة بالتالي، حريصين على تبادل تلك الوظائف في ما بينهم، وعلى حماية هذا الوضع والدفاع عنه حتى يضمنوا استمرار سلالاتهم في شغل تلك المناصب. لقد فتحت سياسة التخاصية الباب واسعاً لانضمام طبقة جديدة من رجال الأعمال الذين ارتبطوا بالمصلحة المشتركة مع تلك الطبقة من السياسيين الورثة، وأخذ هذا الحلف أبشع صوره في السنوات الأخيرة، التي تميزت بنهب ثروات البلاد تحت عنوان التخاصية وتشجيع الاستثمار. لقد تمت سرقة أموال الوطن واستباحة انجازاته وثرواته لصالح حفنة من السياسيين ورجال الأعمال، جهراً وجهاراً وفي وضح النهار، بالإضافة إلى حفنة أخرى من الأقارب والأنسباء الذين حولوا العديد من مؤسسات الدولة الاقتصادية إلى مزارع خاصة بهم، مع العلم أنّ حقبة الملك الحسين تميزت بعدم سماحه بتولي أفراد العائلة أو الأنسباء مناصب عامة سياسية أو اقتصادية، باستثناء منصب رئيس الوزراء وبشكل محدود جداً، ولم يسمح لهم بمنافسة المواطن الأردني العادي في مصدر رزقه، في بلد محدود الموارد والفرص الاقتصادية. وهكذا، عندما يستعرض أي شخص مكونات هذا الحلف غير المقدس يكتشف أنه يغطي كافة مكونات المجتمع الأردني بغض النظر عن أصولها العرقية أو الطائفية أو الجهوية. طبقة فاسدة من كل الأصول والمنابت، ولا يمكن وصفها بغير ذلك. فالفساد لا هوية ولا دين له، والإصلاح يهدف إلى وقف الفساد ولا يمكن أن يتم ذلك من دون توفر الشفافية الكاملة، التي يتطلب تنفيذها توفر مبدأ المحاسبة والمرجعية وهذا يفترض وجود الديمقراطية وتوفر مبدأ تداول السلطة .

إنّ من تسمح له الظروف بالاطلاع على بعض ما يجري الآن في كواليس السلطة في الأردن يعلم علم اليقين أنّ نوايا الإصلاح الحقيقي، الذي يحمل معنى التغيير وإعادة الأمور إلى نصابها، ما زال سراباً يهدف فقط إلى تنفيس الاحتقان، من خلال تقديم تنازلات شكلية وإظهار بعض الاهتمام الإعلامي العارض بوطن طال إهماله والاستخفاف به وبمواطنيه، واستباحته من منطلق أنّ الوطن بأكمله في خدمة السلطة أو من هم في حواشي السلطة، وعلى اعتبار أنَّ هذا الوطن هو مزرعة لهم. وهكذا، تصبح محاسبة الفاسدين وإعادة المال العام المسروق، بغض النظر عن المسميات، قضية أساسية لإعادة الثقة بين الحكم والشعب ولإعادة الاستقرار المالي والاقتصادي للدولة بما في ذلك استعمال الأموال المنهوبة لتسديد الديون الخارجية على الأردن. وبناءً عليه، فإنّ المال العام المسروق يجب أن يبقى حقاً عاماً بغض النظر عن التقادم الزمني. فالشعب أحق بماله وهو الأبقى والأسمى على أي فرد مهما كان.

إنّ محاولات التملق من قبل بعض المتكسبين لاسترضاء الحاكم سوف ترسل الإشارات الخطأ إلى صانعي القرار، مما قد يؤدي إلى قرارات خاطئة قد تساهم في تفاقم الوضع الداخلي. فمسيرات الولاء بهدف دعم الاستقرار شيء، وبهدف قمع مسيرة الإصلاح والتغيير شيء آخر.

وبنفس المقياس، فإن إزالة الاحتقان لا تعني تنفيس الاحتقان بقدر ما تعني معالجة مواطن الخلل بشكل دقيق وحاسم وشجاع. إن الأمانة الوطنية في التعامل مع الحكم وإبداء النصح الحقيقي وليس المُتَمَلِق قد تساهم في تجنيب البلد مخاطر محققة. ومن هنا، فإنّ الإصلاح الدستوري المنشود لا يهدف إلى الانتقاص من قيمة العرش، بل على العكس يهدف إلى إعادة الأمور إلى نصابها، كما في دستور عام 1952 وهو دستور الوحدة بين الضفتين، وأساس الشرعية والناظم للعلاقة بين الحكم والشعب. والهدف هو رفع العرش فوق مستوى النقد والشبهات، من خلال بقائه مظلة للجميع وعنواناً للوطن، عوضاً عن أن يكون طرفاً في العملية السياسية والاقتصادية وما قد يتمخض عنهما من أخطاء ومن نقد ومن دعوات إلى المحاسبة والمساءلة. فالملكية الدستورية وإرادة الشعب مجتمعتان معاً، هما ضمان الاستقرار في الوطن الأردني وأساساً لتعزيز مفهوم المواطنة والانتماء للوطن، من دون الشعور بالخذلان والظلم والقهر وما قد يتولد عن ذلك من أفعال وردود أفعال.


 

*نشر هذا المقال في جريدة القدس العربي اللندنية بتاريخ  4/ 3/ 2011