لمثل الشعبي يقول 'صحيح لا تقسم، ومقسوم لا تأكل، وكل حتى تشبع'، وهذا هو واقع حال النظام في الأردن في تعامله مع الإصلاح السياسي. فالأصل يكمن في النية، وإذا لم تتوفر النية في الإصلاح لدى صانع القرار، فإنّ ذلك يعني، بالضرورة، حتمية انتقال ديناميكية التغيير، ولو تدريجياً، من حوار هادئ في القاعات إلى حوار صاخب في الشارع. وفي هذا السياق، قد ينجح النظام في مسعاه لاحتواء أو تنفيس الغضب الشعبي، ولكنه لن ينجح أبداً في وأد المطالبة الشعبية بالإصلاح .

لقد لاحظنا، ومن دون أي شك، أن الجهد المبذول من قبل النظام، في وضع العراقيل أمام التغيير الحقيقي، وفي رسم الخطط لإجهاض حركة الشارع وتفريغها من محتواها ومن زخمها، يفوق بكثير الجهد اللازم المطلوب للبدء في عملية الإصلاح الحقيقي، اللهم إلا إذا أخذنا البعد الفردي الذاتي للحاكم الذي زيّن له البعض بأنه هو البداية وهو النهاية، وأنّ الوطن هو في خدمته وليس العكس .

لقد تكلمنا مراراً وتكراراً عن خطورة إرسال الإشارات الخطأ إلى الحاكم، لأن ذلك سوف يساهم في اتخاذ القرار الخطأ من قبل هذا الحاكم أو ذاك. من المفهوم بل ومن الطبيعي أن يكون هنالك تفاوت في مطالب الإصلاح. فهذا من طبيعة الأمور في أي تحرك ديمقراطي.

ولكن ما لا يمكن فهمه خروج البعض في تظاهرات ضد الإصلاح. من يتظاهر ضد الإصلاح؟ من هو الذي لا يريد الإصلاح؟ من هو الذي يريد بقاء الظلم والتسلط والتمييز والفساد وحرمان المواطن من حقوقه وإعطائها إلى فئة من الفاسدين والمتنفذين؟ من يريد بقاء ذلك؟ حتى لو كان

مدفوعاً بأجر أو مرغماً على التظاهر ضد الإصلاح أو التوقيع على وثيقة ما ضد الإصلاح، فإن ذلك من شأنه، في أحسن الأحوال، أن يضع الحاكم في موقع اتخاذ القرار الخاطئ ويشجعه على ارتكاب العنف ضد المطالبين بالإصلاح، باعتبارهم مارقين على الإجماع الموهوم المتمثل برفض الإصلاح وبقاء الظلم والفساد.

إنّ الدعوة إلى الإصلاح السياسي والدستوري عوضاً عن المطالبة بتغيير النظام لا تعكس إجماعاً وطنياً على بقاء النظام بأي ثمن، بقدر ما تعكس رغبة أكيدة في الإصلاح الحقيقي الفعّال، من دون الخوض في المجهول. فالإجماع الحقيقي هو ضد المجهول. والمجهول في الأردن صناعة محلية خالصة ابتكرها النظام ومؤسساته حتى يخيف المواطنين ويحد من الرغبة الوطنية في التغيير الشامل وتقليص تلك الرغبة إلى الحد الأدنى الذي يستطيع النظام قبوله والتعايش معه. ففي حقيقة الأمر لا يوجد أي خلاف حقيقي بين الأردنيين في ما بينهم، فهذا الشعب البطل الصامد الذي حَمَلَ الكثير وتَحَمَّل الكثير لا يمكن أن ينغمس في صغائر الأمور.

ومحاولات بعض الأجهزة إطلاق فَزَّّاعة الحرب الأهلية كوسيلة لشل مطالب التغيير الديمقراطي وتحويل مسار الإصلاح باتجاه الحائط يجب التصدي لها من قبل الجميع والعمل على إفشالها، لأن في ذلك فقط طوق النجاة لثورة الإصلاح الشامل . كما أن اللعب بالنار من خلال استعمال الحكم للوحدة الوطنية كسلاح والتهديد بتدميرها كوسيلة لمنع الإصلاح الشامل، هو نهج خطير ويعكس أنانية الحكم المطلقة، التي تضع الوطن في خدمة الحاكم عوضاً عن وضع مصلحة الوطن فوق الجميع .

كلنا أردنيون وكلنا متفقون على ثوابت الوطن، والحديث عن أن الديمقراطية سوف تؤدي إلى السيطرة العددية لفئة ما على مؤسسات الدولة، هو كلام فارغ . فالأردنيو ، بغض النظر عن أصولهم ، ليسوا كَمَّاً سياسياً واحداً أو متجانساً. فالعديد من الأردنيين من أصول فلسطينية وأصول شرق أردنية هم سواء بسواء، جزء من مؤسسة الفساد المالي والسياسي، وهم بالتالي أعداء طبيعيون للإصلاح والتغيير، تماماً كما أن هنالك العديد من الأردنيين من أصول فلسطينية وشرق أردنية مناضلون ومسحوقون ومظلومون وضحايا لحقبة الفساد المالي والسياسي. إذاً أين تكمن المشكلة؟ نحن لا نتكلم عن أغلبية عددية، ولكن عن أغلبية سياسية تمثل رأياً وموقفاً سياسياً ولا تمثل مجموعة عرقية أو قبلية غير متجانسة سياسياً. إنّ الذكاء السياسي يتطلب منا جميعاً أن نقف صفاً واحداً ضد محاولات النظام لخلق حالة من الفوضى والشك المتبادل والانقسام الشعبي المبني على أوهام لا أساس لها بهدف إحباط المطالب الشعبية بالإصلاح السياسي والدستوري الشامل .

إنّ مشكلة الشعب الأردني ليست بين بعضهم البعض، ولكن مع النظام، ويبدو أن النظام قد التقط الإشارات الخطأ واعتَقَدَ أنه في موقع لا يمكن الاستغناء عنه على الإطلاق، باعتبار أن لا بديل له. وهنا يكمن الخطأ الذي وقعت فيه العديد من الأنظمة الأخرى، التي اعتقد أصحابها بأن أنظمتهم خالدة مخلدة إلى الأبد، وأنها محط الإجماع الوطني والقبول الشعبي الدائم مهما فعلت، وكانت النتيجة أنْ دفعت تلك الأنظمة ثمناً غالياً مقابل ذلك الاعتقاد الخاطئ .

وعلى هذا الأساس، فإن مؤسسات النظام يجب أن تكون واعية لهذه الحقيقة ، فالنظام ليس في وضع يمكنه من المناورة العكسية بلا حدود وبطريقة يتجنب من خلالها الإصلاح الدستوري الحقيقي لصالح إصلاحات شكلية، فالإجماع، على ما يبدو، هو على تجنب الخوض في المجهول وليس على بقاء النظام بعلاَّته. والحل الوسط بين الاثنين هو في نظام نيابي ملكي دستوري يعطي كل ذي حق حقه ويحترم أساس العلاقة التعاقدية بين الحاكم والمحكوم، كما وُضِعَ أساسها في دستور عام 1952 .

وإذا كان هنالك من يرفض العودة إلى ذلك الدستور، فعليه واجب إيضاح الأسباب

التي تجعله يرفض دستور الأمة وأساس الشرعية والناظم للعلاقة بين الحكم والشعب

والحامي لمبدأ فصل السلطات . لا أحد يريد تعنتاً أو تشنجاً في المواقف يدفع بالأحداث إلى مستوى جديد تصبح فيه المطالبة بالعودة إلى دستور 1952 جزءاً من مطالب الماضي. وحتى لا نصل إلى تلك المرحلة، فإنّ الشعب يبقى هو صاحب الحق في المطالبة بالعودة إلى دستور عام 1952 نظيفاً خالياً من التعديلات التي طرأت عليه وأخلت بمبدأ الفصل بين السلطات، وحولت السلطة التنفيذية من سلطة إلى أداة، وأفقدت مجلس النواب دوره الرقابي والتشريعي مما فتح الباب على مصراعيه أمام الفساد والمفسدين. وهكذا، فإنّ الاستمرار في تجاهل الدعوة الأصلية المطالبة بالعودة إلى دستور عام 1952، بل ومحاربتها من قبل مؤسسات الحكم، إنما يعكس غياب أي نوايا حقيقية لدى السلطة للإصلاح. وما تشكيل لجنة الحوار الوطني إلا جزء من سياسة الحكم في إعطاء تنازلات شكلية ومحاولة لكسب الوقت تمهيداً لإفراغ الحركة الشعبية المطالبة بالإصلاح السياسي الشامل من مضمونها، واختصارها من مفهوم شامل للإصلاح إلى معالجة جزئية لقانون من هنا وقانون من هناك ضمن رؤية مسبقة الصنع من قبل مؤسسة الحكم. إن هذه اللجنة هي وسيلة وأداة لتنفيس الاحتقان وإضعاف الزخم الشعبي نحو التغيير واستبدال الكل بالجزء ضمن مرجعية حكومية تفتقر إلى المصداقية، وضمن جدول أعمال يسمح لها بمناقشة ما تريده الحكومة فقط ويمنعها من مناقشة باقي القضايا التي تهم المواطن. فهي بذلك تكون كشاهد الزور، ولكن على مستوى الوطن الأردني، انطلاقاً من مفهوم ومنطق عدالة الظلم التي يكون فيها الجلاد هو القاضي وهو المرجعية.

الشعب يريد، ببساطة، دستور عام 1952 من دون تعديلات، وهذا حق الشعب على الحكم، فبأي صفة يمنع الحكم الشعب من المطالبة بحقوقه؟ وبأي صفة يضع الحكم ما يريده في كفة وما يريده الشعب في كفة أخرى؟ لا أحد يدعو إلى المساس بصلاحيات الملك الدستورية، بل على العكس ندعو إلى تأكيدها وتكريسها كما وردت في دستور عام 1952، تماماً كما ندعو إلى إعادة الصلاحيات المسلوبة للسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وكما وردت في دستور عام 1952 أيضاً. الشعب يريد إعادة الأمور إلى نصابها الأصلي والصحيح . وما كان عظيماً ومناسباً لملك الأردن وشعب الأردن عام 1952 يجب أن يكون نفسه عظيماً ومناسباً لملك الأردن و شعب الأردن عام 2011.


 

*نشر هذا المقال في جريدة القدس العربي اللندنية بتاريخ  11/ 4/ 2011