يتجه الأردن الآن نحو مخاض صعب من المتوقع أن تصطدم فيه صلابة الإرادة الشعبية الممزوجة بضعف الإمكانات من جهة، مع النوايا الشريرة المبيتة للدولة والنظام والممزوجة بقوة الإمكانات من جهة أخرى. فقد خاض النظام الأردني ومؤسساته بذكاء وتصميم حرب استنزاف صامتة ضد الحراك الشعبي الأردني المُطالب بالإصلاح بأشكاله المختلفة. ويوحي سلوك النظام في الفترة الأخيرة بتولد شعور لديه بأن هذه الحرب الاستنزافية قد أشرفت على نهايتها بنجاح. ومع ذلك فإن هنالك العديد ممن يؤمنون بأن نجاح حرب الاستنزاف ضد الحراك الشعبي الأردني لم يأت كنتيجة لسياسات النظام فقط، وإنما يعود أيضاً إلى ضعف الهيكل التنظيمي الوطني لذلك الحراك وعدم توفر الإمكانات المادية والبشرية اللازمة لوضع النظام ومؤسساته تحت ضغط بشري ضخم ومتواصل كما حصل في تونس ومصر وليبيا واليمن. ولكن يبقى الحراك الشعبي الأردني في سياق الأمور كونه جاء منسجماً مع مطالب التغيير العربية الدائرة من حوله. وجاءت استجابات النظام بالقطعة وعلى مضض لتعكس سياسة المهادنة والاسترضاء عوضاً عن الرغبة في الإصلاح الحقيقي استجابة لمطالب الشعب. ومن هنا ننطلق بحثاً عن الحقيقة في محاولة جادة لفهم أبعاد ما يجري وغاياته.

تناقلت الأوساط السياسية مؤخراً معلومات تشير إلى رغبة النظام الأردني في وضع حد للحراك الشعبي الأردني باستعمال كافة الوسائل الممكنة مع بقاء خيار استعمال العنف خياراً أخيراً. وشملت تلك الوسائل استعمال أساليب مخابراتية معروفة بما في ذلك إطلاق قوى التشتيت والتشكيك والتمزيق من الداخل واستعداء قوى اجتماعية على قوى سياسية ومحاولات إعادة تعريف مفاهيم الولاء والانتماء باعتبارها مفاهيم خارج إطار مطالب الإصلاح وقوى الإصلاح. وابتدأت عملية ظالمة ومظلمة تهدف إلى اصطناع حالة من الفرقة والعداء بين أبناء الوطن الواحد ليس خدمة للوطن ولكن خدمة للحاكم وأهدافه وحفاظاً على سلطته المطلقة.
وابتدأت حرب صامتة من قبل النظام الأردني على قوى التغيير والحراك الشعبي، وكان تشكيل الحكومة الأردنية الأخيرة برئاسة عون الخصاونة جزءاً من تلك الرؤيا وجزءاً من تلك الحرب كما اختارها النظام. إن اختيار رئيس حكومة أقرب ما يكون ممن سبقوه إلى عقلية الإصلاح وسيادة القانون لم يأت تتويجاً لقناعة النظام الأكيدة بنهج الإصلاح وحتميته، بقدر ما جاء تنفيذاً لخطة استرضاء عام ومناورة تكون نهايتها وضع خاتمة لمطالب الإصلاح من خلال إفشال الحكومة وبالتالي محاولة خلق قناعة لدى الشعب بأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان. ومن هنا تلازم تشكيل حكومة الخصاونة مع محاولات مستترة للنظام ومؤسساته وقوى الشد العكسي لوضع المطبات والعراقيل أمام تلك الحكومة. ورغم المحاولات المستمرة لرئيس الحكومة لتفادي هذا الوضع، إلا أن الأمور تسير حتى الآن في صالح النظام وقوى الشد العكسي. وبقاء الحكومة من عدمه يتوقف على مدى قدرتها على الانسجام مع هذا الوضع المرسوم لها ومن ثم الاستسلام له عوضاً عن تلافيه والتصدي له والعمل على تجاوز المطبات التي وُضعت على الطريق. فرؤيا الحكم، إذاً، تفترض استمرار قاعدة الحكم ومؤسساته المحافظة والمناوئة للإصلاح في ظل حكومة ليبرالية لا يمكن وصفها بأنها معادية للإصلاح وإن كان لا يمكن، في المقابل، تصنيفها كحكومة إصلاح.
وفي المقابل فإن ما يجري على مستوى الحراك الشعبي وقوى الإصلاح يفترض بأن قاعدة الإصلاح الجماهيرية تشمل معظم القوى، الحزبية منها والمنظمة وغير المنظمة والنقابية يقود معظمها الجبهة الوطنية للإصلاح كإطار فضفاض يتسع للجميع ويقبل بالجميع على قاعدة أن نجاح الإصلاح هو نجاح للجميع وفشل الإصلاح هو كارثة على الجميع. وتبقى الحركة الإسلامية القوة الكامنة في ضمير المستتر ضمن ذلك الإطار الجبهوي.
هي الحاضر متى تريد والغائب متى تريد. هي مع الإصلاح دون معاداة النظام ومع النظام دون التضحية بالإصلاح. هي حاضرة عندما ينسجم الموقف مع رؤيتها السياسية وبرنامجها السياسي وهي غائبة عندما يتعارض الموقف مع رؤيتها السياسية وبرنامجها السياسي المعلن منه والخفي. هي الحاضر في كل تنظيم أو تجمع بغض النظر عن وجودها في تنظيم أو تجمع آخر حتى ولو كان مماثلاً أو مناقضاً. وهي لا تشعر بأي داعي أو واجب لتبرير ذلك، بل تعتبر وجودها في كل تجمع أو هيئة أو فئة حق لها وجزء من استراتيجيتها.
وهكذا نرى طرفي المعادلة في الأردن يسيران ضمن نفس الرؤية ولكن بأولويات معكوسة وعلى رأس كل طرف قيادة، إحداها، ممثلة بالحكومة الحالية، تتأرجح بين أولوية مطالب النظام ومن ثم مراعاة مطالب الإصلاح، والأخرى، ممثلة بحزب جبهة العمل الإسلامي والأخوان المسلمين، تتأرجح بين أولوية برنامجها الحزبي والإصلاحي ومن ثم مراعاة رؤية النظام ومطالبه. معادلة عجيبة لا تخدم إلا النظام ومؤسساته. فكلا الطرفين على استعداد للمضي في تلبية مطالب الإصلاح أو المناداة بها ولكن ضمن سقف مقبول لدى النظام وإن كان بأولويات معكوسة. فالنتيجة واحدة وأي تجاوز يمس الخطوط الحمراء للنظام يستدعي وقفة مطولة من كلا الطرفين سواء بسواء.
تأرجحت الخطوط الحمراء للنظام الأردني في تعامله مع مطالب الإصلاح بين مجموعة من الضوابط ضمن رؤيا مبهمة لمتطلبات المرحلة. وفي كل الأحوال فإن مفهوم النظام للإصلاح هو 'إصلاح على مضض' ومن منطلق 'دفع الأذية' أكثر منه قناعة بضرورة الإصلاح لفائدة الجميع بما في ذلك الاستقرار العام للوطن. وهكذا كانت تنازلات النظام بالقطعة وليس ضمن استراتيجية عامة للإصلاح الدستوري والسياسي. وكان يرافق كل تنازل محاولة للنظام للالتفاف على ذلك التنازل وإفراغه من مضمونه الحقيقي كما شاهدنا مثلاً في الإصلاحات الدستورية والقوانين الناظمة للعملية الانتخابية. ولكن لكل بداية نهاية وكان من المحتوم أن تصل هذه المعادلة إلى نقطة النهاية. والخلل الذي أصاب معادلة القبول بالإصلاحات بالقطعة واستعداد النظام للقبول بذلك المسار هو التحول الشعبي الكبير نحو مطالب محاربة الفساد ومحاكمة الفاسدين كأولوية مطلقة تحظى بإجماع وطني عام. وأصبحت مشكلة النظام الحقيقية هي في تنامي المطالب الشعبية بمحاربة الفساد حتى النهاية ومحاكمة الفاسدين بغض النظر عن موقعهم السياسي والاجتماعي. والنظام يعتبر هذا المطلب أكثر خطورة عليه من مطالب الإصلاح الدستوري والسياسي كون العديد من أصابع الاتهام تشير إلى النظام باعتباره منبع الفساد الكبير والحامي له. وهكذا، فإن ملف مكافحة الفساد قد يُثبت أنه السلاح الأقوى والأشد تأثيراً في هز أركان النظام الأردني وإرغامه على إعطاء تنازلات لم يكن في الأصل على استعداد لإعطائها، أو قد يصبح القشة التي قصمت ظهر النظام مما قد يفتح الباب بالتالي لمواجهات لا يرغب بها أحد، بما في ذلك النظام نفسه.
وإذا كان النظام يعتقد أن بقاءه هو نقطة إجماع وطني تحظى بتأييد الطيف السياسي والاجتماعي الأردني، فإن قطع دابر الفساد ومحاكمة الفاسدين واسترجاع المال العام المنهوب يحظى بإجماع أردني أكبر وأشمل وأشد تأثيراً كونه يمس في الصميم حياة المواطن الأردني وفرصه في العيش الكريم وضمان مستقبل الأجيال القادمة. وإذا اضطر المواطن أن يختار بين كل هذا وبقاء النظام فإن انحيازه لمصالحه ومستقبل أبناءه وحماية الأجيال القادمة سوف يكون انحيازاً واضحاً.
وبناءً عليه فعلى النظام الأردني أن يكون من الذكاء بحيث لا يضع نفسه في ذلك الموضع وأن لا يرغم الشعب على الاختيار بينه وبين مكافحة الفساد ومحاكمة الفاسدين واسترداد المال العام المنهوب. ولكن واقع الحال يشير إلى أن الأمور لا تسير في هذا الاتجاه. فالدعوة إلى مكافحة الفساد ومحاكمة الفاســـدين واعتبارها شعاراً وهدفاً أساسياً لمعظم القوى السياسية والاجتماعية الأردنية قد ساهم في حشد قوى الشد العكسي على مستوى عالي جداً لتطويق تلك المطالب. وهذا يعني أن قوى الشد العكسي تلك ستعمل على وضع حد لمطالب الإصلاح والسعي إلى إضعاف القوى الإصلاحية لاعتقادها بأن ذلك سيؤدي بالنتيجة إلى وقف المطالب المتعلقة بمحاكمة الفساد والفاسدين وإغلاق هذا الملف نهائياً.
إن هذه التطورات ترجح احتمال وقوع صدام بين قوى الإصلاح وقوى الشد العكسي إلا إذا اختار رأس النظام الانحياز إلى القوى المطالبة بالإصلاح ووقف الفساد ومحاكمة الفاسدين. وهذا الأمر يبدو مستبعداً نظراً لأن قوى الشد العكسي تعتبر نفسها ممثلة للنظام ومصالحه وأنها جزء منه. وهكذا فإن المعادلة ابتدأت تأخذ منحى آخر يتمثل في العمل على شق صفوف قوى الإصلاح والتغيير وتوجيه ضربة قاضية لها من خلال استقطاب التنظيم الرئيسي بين صفوفها وهو حزب جبهة العمل الإسلامي وحركة الإخوان المسلمين. وفي حين لا يوجد ما يؤكد إمكانية نجاح مثل هذا النهج، إلا أن المؤشرات والمعلومات الواردة من عدة مصادر لا تستبعد إمكان تكليف شخصية قيادية من الحركة الإسلامية بتشكيل الحكومة الأردنية خلال الأشهر القليلة المقبلة. وإذا ما جاء ذلك عقب انتخابات نيابية حرة تفوز بها تلك الحركة كأكبر كتلة في المجلس النيابي فإن ذلك يشكل استحقاقاً طبيعياً. أما إذا جاء ذلك التكليف قبل الانتخابات فهنا تكمن الكارثة وتصبح معالم المرحلة المقبلة وائتلافاتها واضحة المعالم ويمكن عندها الربط الإقليمي بين ما يجري في الأردن وما يجري في باقي الأقطار العربية ومنها فلسطين.
إن استحقاقات المرحلة المقبلة أخذت تزداد وضوحاً، فالمعادلة المقبلة تجري تحت المظلة الأمريكية والمباركة الأوروبية وإشراف دول الخليج وبشكل أساسي السعودية وقطر. وهذه المعادلة تقبل بحركة الإخوان المسلمين ومشتقاتها المختلفة باعتبارهم النظام السياسي للمرحلة المقبلة في العالم العربي وتصنف السلفيين والجهاديين باعتبارهم العدو الجديد، والأردن بالطبع هو جزء من هذه الرؤيا. والاتصالات الجارية بين الحركات الإسلامية في العالم العربي وأمريكا والعالم الغربي لم تعد سراً وهي في هذا السياق. كما أن الاتصالات بين حزب جبهة العمل الإسلامي وحركة الإخوان المسلمين في الأردن والعالم الغربي قد تسارعت بشكل ملحوظ في الفترة الأخيرة تمهيداً لترتيب الأمور قبل توليهم مسؤولية الحكومة في الأردن.

إن إعادة إنتاج الإسلام السياسي المسالم باعتباره حليفاً للغرب، بعد أن استنفذ الغرب وأمريكا أغراضهم من أنظمة التعسف والإجرام التي حموها على مدى الخمسين عاماً الماضية، يشكل البوصلة السياسية للنظام في الأردن في سعيه إلى التوفيق بين ما هو على استعداد للقبول به وما هو مطلوب منه. والنظام الأردني أصبح غير قادر على الاستمرار في المسيرة التي فرضها على الأردن لأكثر من خمسة عقود من الحكم المطلق الذي أدى بالنتيجة إلى إضعاف المؤسسات الدستورية للدولة لصالح مؤسسة العرش. ومن المشكوك به أن توافق الحركة الإسلامية في الأردن على أن تحكم انطلاقاَ من هذا المنظور ولكنها ستوافق على الحكم ضمن مبدأ تقاسم السلطة. وهكذا، فإن ما نحن بصدده هو إعادة إنتاج النظام في الأردن ليتواءم مع هذه المتطلبات الجديدة للمرحلة عوضاً عن استبدال النظام في حال فشله في تلبية ذلك. والنظام الأردني، على ما يبدو، قد استوعب ذلك وهو يحاول الموائمة من خلال المناورة ليخرج من هذه العملية بحد أدنى من الخسائر. واللعبة الآن تدور بين أطراف ثلاثة هي النظام الأردني كطرف أول والحركة الإسلامية في الأردن كطرف ثاني وأمريكا والغرب ودول الخليج كطرف ثالث.


 

*نشر هذا المقال في جريدة القدس العربي اللندنية بتاريخ  20/ 2/ 2012