نشهد الآن عودة النظام الأردني إلى الممارسات القديمة في استعمال مؤسسات الدولة الدستورية والحكومية والأمنية والسياسية كأدوات في خدمة الحاكم أولاً وأخيراً دون خجل أو استحياء أو حتى محاولة للتمويه، مما يعكس احتقار الحكم لمطالب الشعب بالإصلاح، واعتبار تلك المطالب تطفلاً على الحق الإلهي للحاكم في حكم شعبه كيفما شاء، تماماً كما كان عليه الحال في العصور الوسطى. 

النظام الأردني يريد الالتفاف على مطالب الشعب لتصبح انعكاساً لرؤية النظام، وتطويع إرادة الشعب لتصبح امتداداً لإرادة النظام. فهذا النظام يخوض الآن معركة صامتة من أجل تحويل مطالب الإصلاح السياسي ومكافحة الفساد من ثورة شعبية إلى عملية استجداء بائسة يكون فيها الخصم هو القاضي، ويكون أي تغيير يعتمده النظام في سياق ما يسمى بالإصلاح، هو منـَّة ٌ وفضلٌ من الحاكم على شعبه وليس استجابة لمطالب الشعب أو إعادة الأمور إلى نصابها الدستوري الصحيح. النظام الأردني، باختصار، يريد 'إصلاح' الشعب الأردني عوضاً عن إصلاح نفسه. ومن الواضح أن هذا النظام، بمؤسساته ورجاله، لم يتعلم دروس المرحلة ولا يريد ذلك. وكل ما يريده النظام ورجالاته ومؤسساته هو ابتلاع موجة الاحتجاج ومطالب الإصلاح والتغيير وإخراجها على شكل فضلات لا يريدها أحد. والمعادلة أخذت الآن شكلاً أكثر وضوحاً، فالشعب يريد إصلاح النظام، والنظام يريد 'إصلاح' الشعب. ولكن، لماذا وصلت الأمور إلى هذه المعادلة القاسية؟ وهل هذا محصلة تفاعلات داخلية أم إقليمية؟ أم الاثنين معاً؟ الموقف، على ما يبدو، يستند إلى قناعة لدى النظام ترسخت على امتداد عقود بأن الشعب الأردني لا يستحق أن يستنشق الحرية مباشرة، اللهم إلا من خلال النظام ومؤسساته وبإرادته حصراً. وأن هذا الشعب مثل الحديد، كلما طرقته بقوة أكثر كلما سهل تشكيله بالشكل المطلوب. مقاربة عجيبة في زمن تتساقط فيه الأنظمة المستبدة تحت طرقات الشعوب وكأنها أوراق شجرة عجوز في فصل الخريف.لو ابتدأنا من النهاية لرأينا مأساة البداية بوضوح. فموجة التغيير التي عصفت بالمنطقة، والأردن جزء منها، لم يتم التعامل معها من قبل النظام الأردني بروح ونيات صادقة. فالشعب كان أكثر صدقاً ونواياه أكثر شفافية في طرح مطالبه وكذلك في أسلوب طرح تلك المطالب. الشعب طالب بالإصلاح ضمن روح الدستور مبتعداً عن أسلوب القصم واستبدال ما هو قائم ومعلوم بما هو غير قائم وغير معلوم. وكانت النوايا الطيبة والأسلوب السلمي تغلف الموقف الشعبي، في حين كان النظام يستجيب لكل ذلك بروح الانحناء للعاصفة ومحاولة احتوائها والسيطرة عليها وإخمادها بكل وسيلة ممكنة وبالحد الأدنى من التنازلات. وابتدأ الحكم في العمل على تشويه المطالب الشعبية للإصلاح ومكافحة الفساد من خلال فزّاعات النظام التي ابتدأت بنشر الشائعات ذات النفس الإقليمي والتخويف والترهيب من عواقب الإصلاح السياسي دون أي اعتبار لأثر ذلك على الوحدة الوطنية وانتهاء بقرارات التفافية بهدف إجهاض المطالب الشعبية وتقزيمها وإفراغها من أي مضمون. وهكذا، ابتدأ مسلسل تسخير مؤسسات الدولة ومواردها وإمكاناتها في معركة النظام ضد الشعب وضد التغيير. وكان تشكيل لجنة الحوار الوطني بأغلبية موالية للنظام وأهدافه بداية الطريق وتبعها تشكيل لجنة الحوار الاقتصادي ومن ثم اللجنة الملكية للإصلاح الدستوري بأغلبية ساحقة من أعضاء معادين أصلاً لأي تعديل دستوري. وهكذا، كان النظام يحاول أن يصنع المستقبل بأدوات الماضي وهذا أمر لا يجوز. وترافق ذلك مع تشكيل حكومة للإصلاح برئاسة رئيس وزراء تم في عهده تزوير الانتخابات البلدية والنيابية ،كما تمت في عهده الموافقة على أكثر صفقات الفساد جدلاً في تاريخ الأردن الحديث وهي المعروفة بصفقة ' الكازينو'. إن هذا المسلسل العجيب والذي لا يتعدى في عمره الخمسة أشهر يشكل الأرضيّة للمرحلة المقبلة ولسياسات النظام الأردني في تلك المرحلة. ما هي القصة، ولماذا هذا الإصرار من قبل النظام على اختيار مسؤولين يثيرون حفيظة الناس نظراً لماضيهم أو تورطهم في قضايا مشبوهة سواء سياسياً أو مالياً أو الإثنين معاً؟ لماذا هذا الإصرار على اختيار ذلك النمط من البشر مع العلم بأن عدد المرشحين لتولي مناصب المسؤولية في الأردن أكثر مما يجب وهم على استعداد للالتزام برغبات الحاكم وقراراته، فلماذا اختيار الأسوأ إذاً عوضاً عن الأفضل؟ هذا، بالتأكيد، يعكس نمطاً في تفكير النظام يقفز فوق الواقع متجاهلاً الشعب ومتشبثاً بنفسه باعتباره قادراً على أن يستمر فيما هو عليه في نرجسية واضحة المعالم وإن كانت وخيمة العواقب. إن انتماء الأردن إلى مجلس التعاون الخليجي (مجلس الملوك والأمراء العرب) قد يعطي النظام في الأردن بُعداً إقليمياً داعماً ومسانداً ضد موجة الإصلاح. إن مثل هذا الدعم من شأنه أن يخلق شعوراً زائفاً لدى النظام بالقوة والمنعة أمام جماهيره ومطالبها في الإصلاح الحقيقي وكأن الأردن قد أصبح محصناً ضد التفاعلات الداخلية ومدى تأثرها بالعواصف الإقليمية المتفاعلة والمحيطة به. مرة أخرى، لماذا يختار النظام الأردني هذا الطريق الوعر المليء بالألغام، عوضاً عن الاستجابة الصادقة والمخلصة لمطالب شعبه بالإصلاح؟ والإجابة لها شقين، الشق الأول يتعلق بتبلور قناعة لدى النظام بأنه أقوى من شعبه وأنه قادر على الاحتفاظ بما لديه من سلطات مطلقة كون مطالب شعبه تقف حتى الآن عند سقف الإصلاح ولم تتجاوزه إلى مطالب التغيير بكل ما في ذلك من أبعاد. وهذا الأمر قد يخلق انطباعاً خاطئاً لدى النظام بأنه محط إجماع وطني بأي ثمن، مع أن الإجماع على النظام لا يعني بالضرورة القبول بالأخطاء والتجاوزات، ومسيرات الاحتجاج الشعبي ومطالبها وشعاراتها تؤكد ذلك. إنّ للإجماع الوطني على النظام ثمن يريده الشعب، وعلى النظام، بالتالي، أن يفهم ذلك. أما الشق الثاني فيتعلق بعدم رغبة النظام في فتح ملفات الفساد حتى نهاياتها المطلوبة شعبياً لأن ذلك قد يطال أركان النظام وهو أمر يعتبره النظام خطاً أحمر لا يمكن السماح بالاقتراب منه. وهنا تكمن المعضلة، فمكافحة الفساد و الحساب والعقاب و رد المال العام المنهوب هو مطلب شعبي يحظى بإجماع وطني عام. والشعب يعتبر مكافحة الفساد والإصلاح شيئاً واحداً لا يمكن الفصل بينهما. وفي حين لا يوجد إجماع وطني على طبيعة وحدود مطالب الإصلاح السياسي مثلاً، يوجد إجماع وطني على مكافحة الفساد حتى النهاية ومحاسبة الفاسدين ورد المال العام. وهنا يبدو أن النظام قد وصل إلى قناعة بوجوب القفز فوق مطالب الإصلاح والالتفاف عليها والتملص منها من خلال إجراءات و قرارات تجميلية ظاهرها إصلاحي وجوهرها فارغ لا يحمل أي معنى. و يرافق هذا إجراءات وقرارات شكلية لمعالجة ملف الفساد من خلال فتح ملفات فساد ثانوية وتحميل أوزارها لأشخاص يمكن للنظام أن يضحي بهم باعتبارهم أكباش فداء له. أما ملفات الفساد الجائر فلم يتم التعرض لها بشكل حقيقي وفي معظم الأحيان لم يتم التعرض لها أبداً. هذا باختصار جوهر فلسفة النظام الأردني في التعامل الحالي مع مطالب الإصلاح وأهمها مكافحة الفساد والتحول الديمقراطي. إن موقع الأردن، بالرغم من فقر موارده، يعطيه أهمية سياسية تفوق حجمه وإمكاناته. واستقرار الحكم فيه يعتبر في نظر بعض الدول وأهمها أمريكا أمراً حيوياً لاستقرار المنطقة، وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بإسرائيل. وقد يؤيد البعض صحة ذلك المنطق وأهميته لمستقبل الأردن واستقراره. لكن هذا المنطق مرفوض لأنه يضع الأردن في مصاف الدول المدافعة عن استقرار إسرائيل وهذا أمر لا يقبله الشعب الأردني. فالأردن، وإن كان غير قادر أو غير راغب في خوض أي مواجهة مع إسرائيل، إلا أنه في الوقت نفسه لا يجوز أن يقبل بأن يعتمد وجوده على قدرته على القيام بدور الحارس على الحدود مع إسرائيل. و في المقياس ذاته، فإن استعمال هذا العذر كوسيلة للإستقواء على الشعب الأردني ومصادرة حقوقه السياسية بحجة الحفاظ على استقرار الحكم وبالتالي على دور الأردن في الدفاع عن استقرار المنطقة، هو أمر مرفوض أيضاً جملة وتفصيلاً. إن القول بأن تمتع الشعب الأردني بحقوقه السياسية سوف يؤدي إلى إضعاف النظام هو كلام مغلوط. فالعكس هو الصحيح لأن الحكم من خلال إرادة الشعب ودعمه هو أقوى ألف مرة من الحكم ضد إرادة الشعب وبالحديد والنار.


 

*نشر هذا المقال في جريدة القدس العربي اللندنية بتاريخ  11/ 7/ 2011