القدس العربي-يقوم النظام الأردني هذه الأيام بالدوران حول نفسه في حلقة مفرغة بهدف تحويل الحراك الإصلاحي إلى حركة تدور في فراغ ووهم ، تبدأ بشيء وتنتهي إلى لا شيء. فالنظام الأردني يمارس الآن ببراعة مفهوم الحركة الفارغة التي تهدف إلى الإيهام بأن هنالك شيء ما قد حصل أو قيد الحصول حتى يظن الجميع أننا قد وصلنا إلى نقطة النهاية أو ما يقارب ذلك ، في حين أننا في الواقع ما زلنا في نقطة البداية . وفي حين أن تراثنا يؤكد أن في الحركة بركة ، إلا أن واقعنا المؤلم ينفي ذلك، بل وأكثر. فإن الحركة شيء والإيهام بأن هنالك حركة شيء آخر.
الواقع يهمس في الأذن بأن هنالك أمراً ما يجري التخطيط له والعمل عليه ، من منطلق أن ما هو مطلوب خارجياً من الأردن يختلف عن ما يريده الأردنيون. ومن هنا فإنّ الأردنيين يعيشون في هذا الوطن الصغير هموماً كبيرة و مخاطر داهمة دون أن يشعر الكثيرون بذلك . فالآخرون يريدون شيئاً ما من الأردن- وفي ذلك يلتقي بعض العرب وإسرائيل بإيقاع أمريكي واضح ، وحنجلة داخلية لا نـُبَرئْ منها إلا القليل من القوى السياسية الفاعلة . وهكذا أصبحنا نسمع مؤخراً نغمات تـَدَّعي الوطنية المتشددة الكاذبة من جهة، أو الإسلامية الواقعية المتعاونة من جهة أخرى، سيان إذا كان ذلك عن علم أو جهل. ترى ماذا يريد ذلك المحفل الشيطاني الكبير من هذا الوطن الصغير؟
لقد عمل النظام الأردني لأكثر من ستة عقود على خلق وهم كبير لدى الشعب الأردني بأن وجود الدولة الأردنية واستمرارها يتوقف على بقاء مؤسسة العرش بسلطاتها اللا محدودة. لم يجادل أحد في ذلك لأكثر من أربعة عقود ثم ابتدأ التململ حيناً والتذمر أحياناً . وشَكَّل تفاقم الفساد والتسيب وقسوة الحياة وغياب الشفافية والعدالة وتكافؤ الفرصة التربة الخصبة لتزايد حالات الغضب والتململ ، خصوصاً وأن كل تلك المشاكل ترافقت وتلازمت مع طرح مكثف للشعارات التي تؤكد أن الملك هو صاحب القرار وهو صاحب الولاية وهو صاحب الشأن وهو البداية وهو النهاية ، مما جعل أجيال الشباب من أبناء الشعب، التي لم تسنح للنظام الفرصة لتدجينها وكسر إرادتها، تتساءل عمَّن هو المسؤول الفعلي عن كل تلك المآسي التي يعاني منها الوطن؟.
وجاءت سيول الربيع العربي لتروي تلك التساؤلات وأخذت مطالب الإصلاح تتوالى وتتصاعد وإن كان عن استحياء ، وحافظ الشعب على شعرة معاوية و لم يتجاوز سقف المطالبة بالإصلاح إلى المطالبة بالتغيير إلا نادراً . ولكن هل كان ذلك كافياً كي يتعامل الحكم مع هذا الموقف الشعبي الكريم بموقف أكرم أو حتى مماثلٍ في كرمه؟ من الواضح أن الإجابة هي بالنفي . فالنظام الأردني أخذ يستثمر الوقت والإمكانات لخلق مسارات التفافية تمكنه من تجاوز الأزمة بأقل الخسائر الممكنة عوضاً عن بذل جهود مخلصة للتجاوب مع مطالب الشعب والإبحار معه في قارب واحد. وابتدأت مسرحية الإصلاح بفصولها المتعددة ابتداء من لجنة الحوار الوطني ومخرجاتها ولجنة تعديل الدستور ومخرجاتها وحكومة البخيت العجيبة ومخرجاتها مروراً بعدالة مجلس النواب المنقوصة في قضية الكازينو ومن ثم التعدي الحكومي على استقلالية وكرامة البنك المركزي الأردني وطمس ملفات الفساد الحقيقي بل والدفع بقانون يجعل من التصدي للفساد وخلق رأي عام ضد الفساد والفاسدين جريمة، وانتهاء بالمسلسل الجديد الذي ابتدأ بسلق الموافقة النيابية على التعديلات الدستورية وما سيتمخض عنها من فصول جديدة في مسرحية بائسة قادمة. ترى ما الذي نحن بصدده؟
يسير الوطن الأردني الآن ضمن أجندة أخذت معالمها تتضح تدريجياً وشيئاً فشيئاً. فشعار استقرار الأردن قد طـُرح كوسيلة للتصدي لمطالب الإصلاح بإيحاء كاذب أن الإصلاح سيؤدي إلى عدم الاستقرار . وهكذا يتم تفسير الاستقرار بضرورة المحافظة على الأمر الواقع بكل ظلمه ومآسيه. هل هذا ما يريده الشعب؟ أم ما يريده النظام؟ أم ما يريده الآخرون ومنهم أمريكا و إسرائيل؟ أم ماذا؟
تَعْتَبِر إسرائيل أن مستقبل الأردن وما يجري له وفيه مرتبط بالبرنامج الإسرائيلي انطلاقاً من المفهوم الإسرائيلي بأنّ الأردن هو جزء من الأمن القومي الإسرائيلي. وهنالك دلائل كثيرة على أنّ الإملاءات الأمريكية والإسرائيلية هي في ضمير المستتر لمعظم السياسات الأردنية الداخلية والخارجية خصوصاً تلك التي تمس الرؤيا الأمريكية والإسرائيلية لمنظومة العلاقات الإقليمية ومدى ارتباطها بالمصالح الأمريكية والإسرائيلية. واستطراداً فإنّ معظم الأعراض السلبية التي ترافق مسيرة التعامل الرسمي الأردني مع مطالب الإصلاح الشعبية في الأردن هي محصلة لتلك العلاقة غير المتكافئة والغامضة في العديد من جوانبها وأهدافها . إنّ الاستسلام الرسمي الأردني لهذا المنظور الإسرائيلي الأمريكي قد خلق واقعاً سياسياً استعملته مراكز القوى والفساد المالي والسياسي في الأردن للعمل على حماية مكاسبها وقهر مطالب الإصلاح. وانطلاقاً من مظلة الحماية والدعم التي توفرها تلك العلاقة للنظام الأردني ، فقد تبلور هنالك جهد رسمي أردني واضح في اتجاه إنهاك عملية المطالبة بالإصلاح من خلال جولات كر و فر يساهم فيها الحكم عن وعي وإدراك و تساهم فيها بعض الأوساط الشعبية دون وعي أو إدراك . والمحصلة بالطبع ليست في مصلحة الشعب. فما يعطى باليمين يؤخذ بالشمال. وما يتم التنازل عنه شكلاً ، يتم تطويقه موضوعاً . وهذا هو حال الإصلاحات الدستورية مثلاً والتي لو تم فحصها بعناية لاكتشفنا أنها جزءٌ من هذا المخطط الذي يستند إلى فلسفة النظام كما عَبَّر عنها أحد المسؤولين مؤخراً بقوله ' نحن نخدم الملك أولاً ورب العالمين ثانياً '، ولكن أين الوطن؟ ومن يخدم هذا الوطن؟
يسعى النظام الأردني إلى استباق مطالب الإصلاح الحقيقية بسياسات وقرارات تهدف إلى تنفيس الاحتقان الوطني دون المساس بمراكز القوى وبؤر الفساد السياسي والمالي التي سيطرت على مقدرات الوطن منذ عقود. وهذا التناغم بين مؤسسة الحكم وتلك المراكز يلتقي في مصالحه مع أهداف القوى الإقليمية والدولية في تصنيفها وتحديدها لدور الأردن الإقليمي وأثر ذلك التصنيف على السياسات الداخلية والأمنية لمؤسسة الحكم في الأردن كون مراكز القوى تلك على استعداد لإعطاء القوى الخارجية المعنية كل ما تريد من تنازلات من الأردن. وهكذا يتوجب تطوير مطالب الإصلاح بحيث يتم ربطها مع الدور الإقليمي للأردن وما هو مطلوب منه باعتبار كل هذا وذاك قضية واحدة لا يمكن تجزئتها . وهكذا أيضاً يجب العمل على اعتبار العلاقة الخاصة التي تربط الأردن الرسمي مع قوى إقليمية ودولية مثل إسرائيل وأمريكا جزءاً من التحدي القائم للأماني والأهداف الوطنية. فالمطالبة بالإصلاح الديمقراطي الحقيقي والشفافية ومكافحة الفساد يجب أن ترتبط ارتباطاً عضوياً بالمطالبة بفك العلاقة الخاصة مع إسرائيل وأمريكا ، والإقرار بأن مصلحة الوطن الأردني والشعب الأردني وانتماءه لعروبته يجب أن تأتي في المقدمة وعلى حساب تلك العلاقة الخاصة المشؤومة التي يبدو أنها تحظى بأولويات اهتمام الحكم في الأردن رغم وجود تعارض حقيقي واستراتيجي بين ما يريده الشعب الأردني وما تريده إسرائيل وأمريكا، ناهيك عن أن الحكم يستمد قوته وجبروته في الداخل من دعم تلك القوى الخارجية له. وفي هذا السياق ، فإن أي محاولة لتشتيت جهود القوى الإصلاحية وإشغالها بقضايا جانبية مفتعلة كجزء من مخطط مؤسسات النظام يجب أن تـُجابه من قبل كافة القوى الوطنية والإصلاحية بحزم ووعي وطني يتجاوز الحساسيات المصطنعة ، سواء أكانت اجتماعية أم جهوية أم دينية؟
إن الشعب والحُكْم ليسا في مركب واحد، ولو كان الأمر كذلك لما كانت هناك حاجة لمطالب الإصلاح ولما كانت لدينا انتخابات مزورة ولما كانت لدينا حكومة مأزومة تحكم فوق إرادة الشعب، ولما كان لدينا مجلس نواب يدين وزيراً واحداً في حكومة ويبرئ رئيس وزرائها على نفس الجريمة بالرغم من أن المسؤولية الجماعية هي أساس عمل كافة الحكومات. المبدأ بسيط، فكما أننا لا نستطيع أن نحارب الظلم بالظالمين، فإننا وبنفس المقدار لا نستطيع أن نحارب الفساد بالفاسدين.
محاربة الفساد هي مطلب غير سياسي ولكنها مطلب إجماع وطني. وقد تم العمل بهمة على تجاوزه من خلال استغلال المعادلة السياسية المعقدة التي تحكم مستقبل الأردن وشبكة الآمان التي توفرها تلك المعادلة للنظام من أجل الاستخفاف بمطالب الشعب والتحالف مع أهل الفساد وبالتالي تجاهل المطالب الشعبية بتصفية الفساد. إن محاولة الحكم الإدعاء بمحاربة الفساد من خلال فتح ملفات ثانوية من أجل طمس ملفات أساسية و كبرى في الفساد العام هي أمر مخجل . الدعوة لكل الأردنيين هي للتصدي لكافة أنواع الفساد العامة منها والمتعلقة بالقطاع الخاص، الصغيرة والكبيرة . أما التصدي للفساد بشكل انتقائي فهذا هو الفساد بعينه. ولا عزاء للأردنيين الشرفاء.


*نشر هذا المقال في جريدة القدس العربي اللندنية بتاريخ  3/ 10/ 2011