يكاد المرء هذه الأيام أن يسمع صوت الغليان في المرجل السياسي الأردني. ومن المتفق عليه أن كثرة الطباخين تحرق الطبخة. وفي الأردن الآن العديد من الطباخين. هناك القصر وهناك الحكومة وهناك مجلس النواب، وكل طرف يغني على ليلاه. وفي الجهة الأخرى هناك الحركات الإسلامية وهناك الأحزاب القومية واليسارية وهناك قوى الشد العكسي بمكوناتها المختلفة وهناك حراك الشباب وهناك حراك بعض العشائر وهناك وهناك. ما الذي يجري في هذه الدولة الصغيرة والفقيرة بمواردها؟ هل هو إصلاح سياسي أقل مما يرغب به الشعب؟ أم فساد مالي وإداري أكثر مما يمكن أن يقبل به الشعب؟ أم كليهما معاً؟ أم ماذا؟

ما نحن بصدده الآن هو مجموعة من السياسات والقرارات المعلنة وغير المعلنة يتبناها النظام بمؤسساته وأزلامه وأعوانه والمستفيدين منه بهدف وضع نهاية للحراك الشعبي وحركة الإصلاح في الأردن ومطالب مكافحة الفساد. ويتم تقديم ذلك وكأنه استجابة من النظام لرغبة شعبية في وضع حد لمسيرات و اعتصامات واحتجاجات أصبحت، كما يدَّعي، مدخلاً للفوضى والانهيار الاقتصادي والتوتر الاجتماعي . كلام عجيب غريب وقبل ذلك غير صحيح. علينا هنا الانتباه لأمرين: أولهما عدم السماح للنظام بأن يخوض معركته الخاصة ضد الحراك الشعبي والإصلاحي بإسم الشعب. وثانيهما الاحتراس من قبول الشعب بمزاعم النظام وبالتالي هزيمة نفسه طوعاً وتجنيب النظام مخاطر محاولة هزيمة الشعب بالعنف و القهر.

الشعب المقهور يكون في العادة أمام خيارين لا ثالث لهما، إما الاستسلام لواقع القهر والظلم وإما الثورة عليه. إلا أن الصورة الآن ليست بهذه البساطة. إنها صورة اختلط فيها الحابل بالنابل و لا تعطي الناظر إليها فكرة واضحة عن ما تحتويه. فواقع الحال في الأردن هذه الأيام يشير إلى الاقتراب من خط النهاية حيث تسعى جميع الأطراف إلى اقتناص أكبر حصة ممكنة من المكاسب قبل الوصول إلى مربع النهاية وحسم الأمور.

وفي هذا السياق، فإن ما يجري في مصر وسوريا وليبيا يوفر الأرضية للمدعين بأن الديمقراطية في الأردن ستؤدي إلى تسليم الحكم للإخوان المسلمين وبالتالي تدمير السلم الأهلي. وهذا يعطي بعضاً من الدعم لمزاعم أولئك الهادفين إلى وقف مسيرة الإصلاح، ويفتح الباب أمام شرائح اجتماعية وطائفية أوسع لقبول هذه المزاعم والمطالبة بوقف مسيرة الإصلاح خوفاً من المجهول. والوسيلة الأمثل للتصدي لهذه المخاوف تقع في معظمها على كاهل الحركات الإسلامية وهي مطالبةٌ الآن أكثر من أي وقت مضى باتخاذ مواقف علنية وإصدار ضمانات مقنعة بأنها سوف تبتعد عن احتكار الحقيقة وبنفس المقدار احتكار السلطة وأن هدفها هو المشاركة في السلطة والحكم وليس الانفراد بالسلطة والحكم وخصوصاً أن ما يجري في مصر الآن يعزز مثل هذه المخاوف.

إن اختلاط الحابل بالنابل قد يجعل الرؤيا صعبة ولكن لن يجعلها مستحيلة . ولو تمعنا قليلاً في مواقف جميع الأطراف المؤثرة في الحياة السياسية على الساحة الأردنية لاتضحت الرؤيا.

فالنظام، مثلاً، يريد أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه. النظام يريد وقف الحراك الشعبي وقبل حلول فصل الصيف إذا أمكن، وبأي وسيلة متاحة، حتى لو أدى ذلك إلى اللجوء إلى الأساليب القديمة من عنف جسدي إلى تلفيق التهم والزج في السجون. وهذا المسار لا يتعارض من وجهة نظر النظام مع بقاء العناوين الإصلاحية شرط أن تخلو من أي محتوى استراتيجي أو مطالب جديدة أو قدرة على قلب الموازين القائمة في مؤسسة الحكم. والنظام يريد بالتالي قانوناً انتخابياً يتوافق ورؤيته في الحد من قدرة أي حزب سياسي، وخصوصاً تلك التي تنتمي للحركات الإسلامية، من الحصول على أغلبية مطلقة في أي انتخابات نيابية. والنظام على استعداد في سبيل ذلك للضغط على الحكومة أو مجلس النواب أو التضحية بأي عدد من المسؤولين أو استخدام أي من مؤسسات الدولة، خصوصاً الأمنية منها . صحيح أن النظام في الأردن بقي بعيداً في مساره، حتى الآن، عن أسلوب الأنظمة المجاورة الذي اعتمد العنف الدموي وسيلة للحوار أو أسلوباً للتعامل مع مطالب الإصلاح وهذا يسجل له، وإن كان ذلك لا يعني أنه لن يلجأ إلى أساليب مماثلة إذا ما تطلّب الأمر ذلك. . نقول ذلك ونؤكد في الوقت نفسه أن لا شكر لأي جهة على قيامها بواجبها بأسلوب يخلو من العنف ضمن إطار القانون والحق.

أما الحكومة الأردنية الحالية والمستهدفة من قبل الكبير قبل الصغار، فإنها ما زالت تلهث في محاولاتها التوفيق بين استعادة صلاحياتها الدستورية وولايتها العامة المفقودة، والمضي قدماً في إنهاء التشريعات اللازمة لتطبيق إصلاحات سياسية كسيحة. وقد اكتسبت هذه الحكومة العداء الصامت ولكن الفعال للنظام وأركان النظام كونها اقتربت بأكثر مما ينبغي مما يعتبره النظام خطوطاً حمراءً من خلال إصرارها على متابعة موضوع الولاية العامة للحكومة وعلى محاولة التعامل مع ملفات الفساد إلى النهاية.

هذه الحكومة التي تشهد أواخر أيامها تفتقد بحكم تكليفها وواقع تشكيلها إلى ما يؤهلها لأن تكون حكومة شعبية ذات قاعدة جماهيرية. وهي بذلك أصبحت كالبطة العرجاء، تجابه المؤامرات وإطلاق النار من كل جهة دون أن تملك الوسائل الفعالة للدفاع عن نفسها. فالنظام يتآمر على الحكومة والمعارضة لا تستطيع الدفاع عنها. وهكذا فإن الحكومة الأردنية الحالية ستكون أول الضحايا في حرب النكوث المقبلة، وهي حرب يبدو أنها قد ابتدأت.

أما مجلس النواب المطعون في شرعيته والقابع تحت قبة البرلمان على عرش من التزوير، فإنه يريد اغتنام فرصة العمر والحصول على أقصى المكاسب لأعضائه وبأثر رجعي وامتداد مستقبلي- كالمطالبة بتقاعد غير محق وبجواز سفر دبلوماسي مدى الحياة – . ومع أن بعض النواب يرفضون هذا المسار، إلا أن المعظم هم في ذلك السياق بالرغم من أن ذلك يخالف الأعراف التي لا تقبل بسن قوانين تعود بالنفع المباشر على من يسنَّها. ومن سخريات القدر، أن هذا البرلمان المطعون في شرعيته هو المناط به سن قوانين الإصلاح السياسي والتي يعني انجازها نهاية عمر هذا البرلمان. وقد دفعت هذه المعادلة ذلك البرلمان إلى ممارسة الابتزاز بأبشع صورة وذلك ثمناً لتمريره لتلك القوانين، ضمن رؤيا كيدية، حيناً ضد الحكومة وأحياناً أخرى ضد ديمقراطية وفعالية التشريعات نفسها.

أما الأجهزة الأمنية، وعلى رأسها جهاز المخابرات العامة، فهي في مأزق حقيقي. فهي ممزقة بين الرغبة في استعادة نفوذها السابق وهيمنتها المطلقة على الحياة السياسية والعامة للشعب الأردني، وبين استعادة سمعتها المهدورة على مذبح الفساد المعلن لكبار مسؤوليها منذ ما يزيد على عقد من الزمن. والفساد الذي أصاب جهاز المخابرات العامة لا ينحصر في الفساد المالي فقط، ولكن أيضاً في الفساد السياسي والأخلاقي الذي أصاب ذلك الجهاز عبر عمليات تزوير متتالية وشبه معلنة للانتخابات النيابية والبلدية. المعضلة صعبة ومعقدة خصوصاً إذا كان المطلوب من هذا الجهاز في الحقبة المقبلة سيعيده إلى المربع الأول. المطلوب أن يحصر هذا الجهاز نشاطاته في الحفاظ على أمن الدولة والابتعاد عن التدخل في الحياة السياسية والعامة للشعب الأردني. كما أن المطلوب هو العمل على إقناع رأس النظام بأهمية المحافظة على حِرَفِيَّة هذا الجهاز ونزاهته وحياده السياسي لكي يستعيد احترامه المفقود لدى أوساط الشعب. الوقت يمر بسرعة حيث تقوم قوى الشد العكسي للنظام بالركض بالاتجاه المعاكس نحو خط النهاية الذي تريد وتنشد. وفي المقابل، فإن القوى الفاعلة في الشارع الأردني تمر بأزمات ليست أقل تعقيداً، وإن كانت هذه القوى تقع على الطرف النقيض لقوى الشد العكسي في المعادلة الوطنية.

فالحركة الإسلامية تريد الحصول على أقصى ما أمكن من المكاسب الشعبية والتنازلات الرسمية قبل حسم معركة الإصلاح. وباقي الأحزاب تقاتل من أجل فتات هنا وفتات هناك، في وقت بات فيه واضحاً أن سياسة الحكم في النكوث عن العهد والوعود قد عززت شعبية الحركات الإسلامية ودورها كجزء هام من الجدار الواقي الذي توفره حالياً الجبهة الوطنية للإصلاح في الدفاع عن مصالح الشعب ومكاسبه ضد الهجمة الرسمية المنتظره على الحراك الشعبي وحركة الإصلاح. أما قوى الشد العكسي، وهي جزء من النظام أو محسوبة عليه، فقد بدأت في إعادة تجميع نفسها بشكل شبه منظم انطلقت شرارته مؤخراً من خلال مجموعات بعضها قائم والبعض الآخر قيد التشكيل وذلك استعداداً ليوم الحسم ويوم الانتقام السياسي العظيم. بعد هذا الاستعراض الموجز لواقع معظم القوى الفاعلة داخل الدولة الأردنية يبقى السؤال الكبير: وماذا عن الشعب؟ وأين يقف هذا الشعب المقهور والمظلوم أولاً والمظلوم أخيراً، المظلوم بدايةً والمظلوم نهايةً؟

هناك قضايا توحد الشعب الأردني وهنالك قضايا أخرى خلافية تـُجزئه. ففي حين لا تتفق كل فئات الأردنيين مثلاً على طبيعة الإصلاح السياسي ومداه، فإن مكافحة الفساد ومحاكمة الفاسدين تعتبر أهم هدف يجمع الأردنيين. وهذا الهدف هو بالضبط ما يوحد قوى الشد العكسي ويرص صفوفها خلف النظام. فالفساد الكبير لا يقدر عليه إلا المسؤول الكبير أي ‘الواصل’. والفساد يحمي نفسه ويحمي القائمين عليه. وهو ككتلة متراصة إذا سقطت بعض لبناتها يبدأ البنيان بالانهيار. إن ما يسمى الانتقاد المتزايد للفساد والفاسدين والمطالبة الشعبية بمحاكمتهم واسترجاع أموال الدولة المنهوبة قد يكون أحد أهم أسباب الهجمة المضادة الصامتة والجبارة التي يقودها النظام ومن ورائه قوى الشد العكسي حماية للنفس وانطلاقاً من الحكمة القائلة ‘ أُكِلْتُ يوم أُكل الثور الأبيض’. وهذا، من وجهة نظر هذه القوى، يتطلب العمل على إعادة تكبيل الأفواه وإعادة سجن العقول كون العقل الحر واللسان الطليق يشكلان خطورة على النظام وملفاته السوداء خصوصاً ملف الفساد.

إن ما دفع الأمور للوصول إلى هذا الحد ليس الإصلاح السياسي بقدر ما هو التصدي الشعبي للفساد وانكسار حاجز الخوف لدى المواطنين، ذلك الحاجز الذي عمل النظام على بنائه ورفع قامته فوق قامة الشعب لمدة تزيد عن نصف قرن. ولأن الفساد في الأردن ينبع من قاعدة الحكم المتنفذة ويرتفع إلى أعلى، فإن السماح بالتصدي للفساد يكاد يرقى إلى السماح بمحاكمة النظام كون القائمين على الفساد هم في أغلبيتهم من أعمدة النظام والمحسوبين عليه. ويبدو أن النظام يعتبر أن مثل هذا التطور والسماح به وباستمراره يرقى إلى السماح بالتطاول على النظام نفسه.

إذاً، العملية انتقلت من إصلاح سياسي إلى لعبة لوي الذراع وإثبات من هو صاحب القرار النهائي، الشعب أم الحُكْم؟ ولو كان الأمر محصوراً بالإصلاح السياسي لكان الوضع قد بقي في خانة الممكن والمقدور عليه. أما محاربة الفساد فهو أكبر وأخطر في نتائجه من الإصلاح السياسي. هذه هي الحقيقة التي تقبع قي ضمير المستتر لمسار وسياسات وخطط النظام الأردني في هذه الأيام، وما عداها يبقى تفاصيل.


*نشر هذا المقال في جريدة القدس العربي اللندنية بتاريخ 8/ 4/ 2012