من أصعب الأشياء في الحياة أن تتعرض أعصاب المرء وعواطفه لامتحان كل صباح، شاء ذلك أم أبى. وفي الأردن يتعرض كل مواطن يقرأ جريدة الصباح أو يتابع الأخبار لمثل هذا الاختبار. هل هي لعبة القط والفار؟ أم عذاب القبر في الحياة؟ لماذا كل هذا؟ هل قَتْل المواطن يتم فقط بإنهاء حياته؟ اعتقد أن المواطن الأردني الحر يتعرض للقتل كل صباح لدى قراءته لأخبار وطنه أو سماعها عبر وسائل الإعلام المختلفة. ما يجري الآن في الأردن هو أمثولة نأمل أن لا تتكرر وأن لا يحتذي بها الآخرون في معاملة شعوبهم ومطالب شعوبهم. فما يجري الآن هو أقرب ما يكون إلى مسرحية حزينة ومحزنة في معظمها وإن كانت في بعض أجزائها كوميدية إلى درجة مأساوية .يشهد الأردن الآن انقلاباً هادئاً بقيادة النظام على حركة الإصلاح والحراك الشعبي ومطالبها. وخلافاً للعادة، فإن هذا الانقلاب لا ينحصر في الأبعاد العسكرية والأمنية التقليدية، بل يمتد في وسائله وآثاره ليشمل كافة مؤسسات الدولة ومعظم القوى الاجتماعية خصوصاً التقليدية والعشائرية.وانسجاماً مع حساسية النظام لتبعات سياساته الداخلية على سمعته وعلاقاته الخارجية، فإن هذا الانقلاب يجري بهدوء وتحت ستار الدستورية وبأسلوب ناعم جداً وضمن غطاء الإصلاح الذي قام النظام باختطافه وإعادة تعريفه ليناسب مقاسه.الانقلاب الهادئ لم يكن مفاجئاً بل سبقته إعدادات وتحضيرات شملت وضع مسيرة الإصلاح ضمن حقل ألغام إما أن يفجرها بنفسه أو أن يرغم المنادين بها والقائمين عليها على السير بحذر شديد خوفاً من الانفجار.الأرضية المطلوبة واللازمة لتجهيز ذلك الانقلاب كانت تتطلب العمل على شق الصفوف والإطاحة بأي إجماع وطني على مطالب إصلاحية. وكان من أهم الخطوات التي تبناها النظام على هذا المسار زرع بذور الشك بين أبناء الوطن الواحد وخلق حالة من الخوف من أن يؤدي نجاح مسيرة الإصلاح في الوصول إلى أهدافها إلى الإخلال بموازين حساسة وسيطرة فئة على فئة في محاولة لتجييش نصف الشعب ضد النصف الآخر. وهكذا خلق النظام انطباعاً لدى الأردنيين من أصول فلسطينية بأن إضعاف الملكية من خلال الإصلاحات الدستورية سيؤدي إلى تقوية يد بعض العناصر المتشددة من الشرق أردنيين ضد إخوتهم من أصول فلسطينية، كما عمل على إخافة المواطنين من أصول شرق أردنية من أن تطبيق الديمقراطية سيؤدي بالإطاحة بمكاسبهم السياسية لصالح المواطنين من أصول فلسطينية، وأن مصلحتهم تفترض بالتالي بقاء الأمور على ما هي عليه مع تحسينات طفيفة وإجراءات إصلاحية تجميلية. سياسة في غاية الخطورة كونها تسمح، بل وتشجع، على تمزيق الوطن من أجل المحافظة على مكاسب فردية سلطوية.ولم تقف الأمور عند هذا الحد، بل عملت أجهزة النظام على نشر إشاعات مفادها أن الديمقراطية قد تؤدي إلى استلام الإسلاميين للحكم كما جرى في أقطار عربية أخرى، وأن هذا سيؤدي إلى أسلمة المجتمع والدولة مما أثار خوف وقلق العديد من المواطنين العلمانيين وغير المسلمين. ومن الملاحظ أن الإسلاميين قد فشلوا في اتخاذ ما يلزم من خطوات لتهدئة النفوس وإزالة تلك المخاوف.وعلى هذه الخلفية قام الحكم بعدة خطوات أدت وتؤدي إلى الانقلاب الذي نشهده الآن والذي كان من أولى نتائجه تقوية يد النظام وإضعاف مسيرة الإصلاح والالتفاف عليها تمهيداً لتفريغها من أي مضمون ومن ثم إجهاضها.ما الذي يدور في رأس النظام وماذا يريد والأهم من ذلك ما لا يريد؟ ما لم ينطق به النظام صراحة قد يكون هو الأهم وهو المحرك الحقيقي الخفي لسياساته ومواقفه. النظام لا يريد المساس بسلطات الملك المطلقة، والنظام لا يريد بقاء ملفات الفساد الكبير مفتوحة كما لا يريد محاكمة المتهمين بها. ومن أجل ذلك تم اتخاذ بعض الخطوات مؤخراً في سبيل وضع الأمور في هذا السياق.الخطوة الأولى كانت في استبدال حكومة تؤمن بالإصلاح وتضعه على أجندة أعمالها بحكومة أخرى لا تؤمن بالإصلاح ولا تريده ولا تعترف به ولا تضعه على أجندتها. وهكذا تم دفع عون الخصاونة إلى الاستقالة واستبداله بفايز الطراونة المعادي للإصلاح.الخطوة الثانية كانت في تعيين شخصية قوية متمرسة ولا تؤمن بالإصلاح على رأس الجهاز القضائي وبإشارات واضحة أن الجهاز القضائي هو الجهاز المسؤول عن معالجة ملفات الفساد. وهذا يعني أنه إما سيتم التخلص من هيئة مكافحة الفساد على اعتبار أن مهامها هي من اختصاص القضاء أو سيتم تقليص دورها تمهيداً لتجميدها من ناحية عملية. وفي كلا الحالتين فإن الهدف هو إغلاق كل ملفات الفساد الكبير وتحت كل المبررات الممكنة. وكتمهيد للسير في هذا الاتجاه، قام النظام بالإيحاء لهذا البرلمان العجيب الغريب المطعون في شرعيته بالتصويت على إغلاق ملفات الفساد الكبير، ومن ثم تم استخراج فتوى أعجب وأغرب من قبل المجلس العالي لتفسير الدستور بمنع البرلمان من إعادة فتح أي ملف يتم التصويت على إغلاقه. وهذا ما يسمى بالضبط استغلال مؤسسات الدولة لخدمة أهداف تخالف القانون، وحماية الفساد والفاسدين الكبار وبالتالي دفن ملفات الفساد الكبير 'وكأنك يا أبو زيد ما غزيت'.الخطوة الثالثة هي العمل على السيطرة، من الداخل، على المؤسسات التي أفرزتها عملية الإصلاح. وقد جاء تشكيل الهيئة المستقلة للانتخاب من شخصيات تقليدية وقريبة جداً من الحكم ليعكس نوايا الحكم في تهميش دور هذه المؤسسات، بغض النظر عن المهام المناطة بها نظرياً. كما أن فعالية هذه الهيئة تصبح منقوصة إذا كان عملها تحت مظلة قانون انتخاب منزوع الدسم. ونفس المصير قد ينتظر المحكمة الدستورية بعد إقرار قانونها، والهدف واضح. مؤسسات نابعة عن مطالب الإصلاح ولكنها بدون مخالب إصلاحية.أما الخطوة الرابعة فتتمثل بنشاط ملكي محموم وشبه يومي لإعادة التواصل مع العشائر والمخيمات والتجمعات السكانية الأخرى لتجديد الولاء للعرش وتجنيده في مجابهة الدعوات للإصلاح ومكافحة الفساد وإعادة صياغة الرأي العام كي ينسجم مع جهود إعادة تفسير الإصلاح الدستوري على الطريقة الملكية. وقد رافق هذه الحملة التركيز على مفاهيم مثل الولاء للحكم أولاً مع أن الولاء للوطن هو الأساس وهو الأشمل، وكذلك التركيز على 'الأمن والاستقرار أولاً'، وكأن هنالك تناقضاً بين الإصلاح ومكافحة الفساد وبين الأمن والاستقرار. إن خلط المفاهيم والتلاعب بها هو أحد سمات هذه الخطوة والتي تهدف إلى ضمان تجنيد أكبر عدد من المواطنين وراء النهج الجديد للإصلاح كما يراه الحكم.الآن وبعد أن استعرضنا ملامح وأهداف الخطة الانقلابية القادمة من أعلى هرم الحكم، يبقى التساؤل الكبير عن أثر العامل الاقتصادي على إمكانية نجاح هذه الخطة.يعوم الأردن على بحيرة من المشاكل الاقتصادية أساسها سوء التخطيط الاقتصادي والفساد الكبير الذي أكل الأخضر واليابس، بالإضافة إلى ضعف السلطة التنفيذية ممثلة بالحكومات المتتالية والتي كانت عاجزة عن التصدي لرغبات عليا في إنفاق غير متوازن بين مخصصات التنمية والإنفاق المدني ومخصصات المؤسسة العسكرية والتي تجاوزت حدود كل معقول، مما جعل العجز تراكمياً وبالتالي تفاقمت المديونية العامة. ولم تملك السلطة التنفيذية الشجاعة أو القدرة على التصدي لتلك الرغبات أو حتى على إثارة الموضوع. وحتى الآن يوضع اللوم على كل شيء ما عدا الأسباب الحقيقية المتعلقة بالفساد والإنفاق الغير متوازن. والشعب الآن مطالب بدفع الثمن من لحمه ومن قوت يومه ولا أحد في الحكومة أو مجلس النواب يملك الشجاعة لوضع النقاط على الحروف. ولكن الشعب يعلم الأسباب ويعلم حقيقة الأمور ولا يمكن أن يسمح باستمرار ذلك. وهنالك قناعة عامة لدى معظم المواطنين بأن الحكومة التي تعجز عن مكافحة الفساد الكبير واسترداد مليارات الدنانير من المال العام والتي تبخرت بحكم ذلك الفساد، لا يحق لها في المقابل فرض أي زيادات في الأسعار على المواطنين. والشعار المطروح يدور حول استرداد الأموال المنهوبة من الفساد الكبير أولاً ثم يتم الحديث عن رفع الأسعار وأساليب وكيفية معالجة العجز في الميزانية من منطلق أن آخر جهة يجب أن يُطلب منها التضحية هو الشعب الذي لا يملك من أمره شيئاً وليس له علاقة بالدين العام التراكمي والعجز في الموازنة. وفي نهاية المطاف فإن تلازم السلطة والمسؤولية هي المبدأ الأساسي. من أراد أن يملك الولاية العامة فعليه الإجابة على أسئلة المواطنين.يبدو أن هذا الصيف سيكون حاراً وملتهباً. فالانقلاب على الإصلاحات السياسية، مهما كان هادئاً،عواقبه خطيرة. ومطالب الإصلاح ليست نزوةً أو ترفاً، بل هي الضمانة لمستقبل الوطن والأجيال. وهذا الانقلاب إذا ما اكتمل لا يمكن أن يمر بسلام خصوصاً إذا رافقه وضع اقتصادي متفاقم في ظل نهج حكم لا يقبل بالمساءلة ولا يريد محاكمة الفساد الكبير أو استرجاع المال العام المنهوب.

*نشر هذا المقال في جريدة القدس العربي اللندنية بتاريخ  20/ 5/ 2012