د. لبيب قمحاوي 

الأردن مِلـْكٌ لشعبه وليس مِـلـْكاً لمن يحكمه فرداً كان أو مجموعة أو شريحة صغيرة من المجتمع. انطلاقاً من هذه الفرضية البسيطة، ولكن المصيرية، على جميع الأردنيين أن يعوا حقيقة أن وطنهم مستباح من قبل مجموعة صغيرة من المتنفذين الطفيليين الفاسدين الذين التصقوا بالنظام حتى كادوا أن يصبحوا هم النظام، وأعطوا أنفسهم حقوقاً وسلطات فاقت ما تسمح به مواقعهم المختلفة بمستوياتها المختلفة.

هؤلاء يشكلون في مجموعهم حزب النظام الذي تقوده مجموعة من المسؤولين معظمهم وَرِثَوا مناصبهم عن أبائهم وأجدادهم ويعتبرون أنفسهم القيمين على مصالح النظام الذي صنعهم وليس على مصالح الوطن الذي يحكمون. ومن هنا ننطلق في محاولة جادة لفهم واقع النظام الأردني وبنيته وأساليبه حتى نتمكن من أن نطل عليه من منظور شامل وأن نسبر غور تفكيره ومسيرته بغض النظر عن اتفاقنا أو خلافنا مع ذلك التفكير أو تلك المسيرة.

إن عملية تدجين أي شعب وتحويله إلى ما يشبه القطيع في خدمة إرادة الحاكم وفي انتظار إحسانه ومكرماته لا يمكن أن تتم إلا عبر مسيرة طويلة من التطويع والتجويع والترهيب والترغيب والحصار النفسي والمادي وكسر الإرادة وربط النجاح بالولاء وليس بالإنجاز. وعلى مر العقود كادت هذه الحالة أن تتحول إلى أسلوب حياة لها صفة القضاء الذي لا مفر منه..

هنالك نمطية واضحة في أساليب الأنظمة المستبدة وبنفس المقياس هنالك نمطية مشتركة بين الشعوب. والشعب الأردني كغيره من الشعوب العربية له بطولاته وتضحياته وآماله وأحلامه. ولعبة الأجيال تنطبق عليه كما انطبقت وتنطبق على غيره من الشعوب. فإذا كانت معظم الأجيال الأكبر سناً قد تم إحباطها وكسر إرادتها ، فإن الأجيال الشابة من الأردنيين لم ولن تقبل بذلك. وعندما انطلقت تلك الأجيال قبل أكثر من عام مطالبة بالإصلاح السياسي والتصدي للفساد كان واضحاً في حينه أن هذا الحراك انطلق من الشارع بشكل عفوي ودون أن يكون امتداداً لأي تنظيم سياسي أو حزبي وكان ذلك مصدر قوته. وقام العديدون في حينه بإسداء النصح للأحزاب بعدم السعي للسيطرة على ذلك الحراك وتجييره لصالحها ولصالح برامجها الحزبية. وللأسف لم تجد هذه النصيحة أي استجابة . وهذا بالطبع لا يعطي النظام براءة ذمة .

فالنظام عمل عبر مؤسساته ورجاله على التغلغل داخل صفوف الحراك الشبابي بهدف تفكيكه من الداخل وخلق حراكات مناوئة لاحتواء تلك الحراكات الشبابية أو إضعافها عوضاً عن محاولة تفهم مطالبها والحوار معها والاستجابة لمطالبها الوطنية برؤيا ايجابية ونوايا حسنة.

اتسم هذا السلوك للنظام وأركانه وحزبه بسلوك لا يخلو من التعسف من خلال ممارسة سياسة الإقصاء. اعتاد النظام وحزبه ومؤسساته خلال سنوات وصايته الكاملة التي فرضها على الوطن والشعب التعامل مع الشعب من خلال تصنيفه إلى ثلاث فئات. الفئة الأولى صاحبة الولاء الأعمى الكامل الشامل للنظام أولاً وأخيراً اعتبرت الوطن وما عليه هو أحد ممتلكات النظام وهذه الفئة هي التي حصدت الوطن وخيراته زوراً وبهتاناً ودون وجه حق. أما الفئة الثانية فهي التي تملك رأياً أو اجتهاداً أو موقفاً مختلفاً عن النظام وهي صاحبة إرادة وطنية حرة .

وهذه الفئة يتم التعامل معها في الغالب من خلال سياسة الإقصاء التي قد تكون في نتائجها بنفس قسوة استعمال العنف الدموي التي استعملتها نظم أخرى مجاورة مع العلم أن النظام الأردني مشهود له بعدم دمويته.

والإقصاء في هذه الحالة يأخذ أساليب متعددة منها التعامل مع تلك الفئة وكأنها آتية من المريخ، لا تنتمي للوطن، وآراؤها مرفوضة حتى قبل النطق بها، ومحاربتها في رزقها من خلال منع تعيينها في وظائف الدولة وعدم الاعتراف بأهمية دورها في الحياة السياسية.

أما الفئة الثالثة فهي الأغلبية الصامتة التي لا تريد شيئاً سوى الحياة المستورة. وهذه الفئة هي التي يحلو للنظام أن يعتقد أنها قاعدة الحكم والصخرة التي يرتكز إليها. وهذا كان صحيحاً بشكل عام إلى أن بدأت الأجيال الشابة تطفو إلى السطح وتكتشف أن الفئة الأولى قد أكلت الأخضر واليابس وباعت الوطن وثرواته في أسواق الفساد وأنه لم يعد للشعب شيء يستطيع الركون إليه سوى سواعده.

لهذا كان من الطبيعي أن تبدأ أعمال الاحتجاج انطلاقاً من الأماكن الأشد فقرأ والأكثر إهمالاً في جنوب الأردن وتلتها الحراكات الشبابية المطالبة بالإصلاح. وعندما استفحلت الأمور على مستوى العالم العربي وانطلقت الثورات المطالبة بالإصلاح، ابتدأ النظام في انتهاج سياسة الانحناء للعاصفة ولكن على مضض، وتقديم تنازلات شكلية في المضمون وإصلاحية في الشكل إلى أن تهدأ العاصفة وعندها يتم الانقلاب على كامل المسيرة بعد تجييرها على شكل مختصر باعتبارها برنامج عمل النظام الأردني نفسه.

النوايا السيئة كانت متوفرة والحكم كان يعد الأرضية للإجهاز على الحراك الشعبي عوضاً عن استيعاب الدروس والحوار والعمل على خلق إجماع وطني أردني على مسيرة إصلاح حقيقية. مرة أخرى لا أحد يريد تغيير النظام ولكن الأغلبية لا تريد بقاء الوضع كما هو بل تريد إعادة السلطة الحقيقية للشعب من خلال صندوق الاقتراع في ظل نظام ملكي عادل ومترفع عن ممارسة السلطة واحتكارها كون تلك الممارسة تحمل في طياتها مفهوم المساءلة وحق المحاسبة.

المشكلة والخراب يكمنان في رجال الحكم وحزب النظام الذين يعتبرون الأردن بمؤسساته وأرضه وسمائه وخيراته ومصادره الطبيعية ملكاً لهم يفعلون به ما يشاؤون. وانطلاقاً من هذه الرؤية الاستبدادية الظالمة نَصَّبَ رجال الحكم وحزب النظام أنفسهم حراساً للهيكل وحماة للنظام من أبناء الأردن أنفسهم ومن كل أردني حر تسول له نفسه أن يتكلم أو يكتب أو حتى يفكر بطريقة مغايرة لتفكيرهم، وهذا الوضع أدّى إلى بناء طبقة تتلوها طبقة من أجيال من أبناء شريحة ضيقة مستفيدة ابناً عن أب وأباً عن جد لا يميزها عن أقرانها شيء سوى أنها تنتمي إلى تلك الشريحة التي باعت نفسها ومن حولها من أجل مصالح شخصية ذاتية وأنانية.

ومما يثير السخرية أن أولئك المتنفذين يعتبرون إسداء المنصب العام إلى أي مواطن من خارج تلك الشريحة هو من أعمال المِنَّة والخير والإحسان والمكافآت يعطيها النظام وأركانه لمن يشاؤون وكأن الوطن ملكا خالصا لهم وحق التصرف به محصورٌ بهم وثرواته ملكٌ لهم.

إن مثل هذا الوضع يؤدي في العادة إلى أمراض عديدة منها الفساد والمحسوبية والنظر إلى الشعب باحتقار باعتباره كماً فارغاً لا قيمة له كونه محيّد وغير قادر على الفعل وغير مسموح له أن يضع أحداً في منصب أو أن يقيل أحداً من منصب، كون الأمور تسير بموجب مكرمات أساسها الأول والأخير الولاء المطلق والأعمى للحاكم وليس الوطن.

هذه الأمور ستؤدي، بحكم تراكمها، إلى نتائج سرطانية تفسد نسيج المجتمع وتدمره. فعندما نتكلم عن النظام وحزب النظام فإن ذلك لا ينحصر بأشخاص مدنيين، بل يشمل معظم أجهزة الدولة وعلى رأسها جهازٌ من أهم أجهزتها وأكثرها نفوذاً واحترافاً وهو الجهاز الأمني. إن مهام الأجهزة الأمنية تقليدياً تتركز في حماية أمن الوطن واستقراره بما في ذلك النظام. ولكن في الحالة الأردنية فإن ذلك أخذ منحاً إضافياً تجاوز الجهاز الأمني بموجبه الدور التقليدي المناط به من خلال تنصيب نفسه حامياً للنظام حتى من النظام نفسه. أي أنه أعطى لنفسه صلاحية تقرير ما هو المناسب وما هو غير المناسب لمصلحة النظام من إجراءات وسياسات يتم اتخاذها حتى ولو تم اتخاذها من قبل النظام نفسه. وقد أصبح هذا ممكناً بعد أن غرست تلك الأجهزة الأمنية أجيالاً من منتسبيها في مختلف أجهزة الدولة ومؤسسة الحكم إلى درجة اختلطت فيها الأمور ولم يعد واضحاً من يدير مَنْ؟ هل الحكم يدير الأجهزة الأمنية، أم هل الأجهزة الأمنية تدير الحكم؟ وبغض النظر عن هوية أو ماهية من يشغل منصب رئاسة الجهاز الأمني، فإن المراتب الأمنية بمستوياتها المختلفة وخلفياتها المهنية المتعددة منتشرة في كل مكان وزمان في الدولة الأردنية وهي في الواقع الحكومة الخفية التي تدير شؤون البلد حتى ولو بدا ذلك وكأنه من تحت أقدام رأس الدولة. كل هذا ناهيك عن الحكومة الموازية المقيمة في الديوان الملكي. وهكذا فإن دولة صغيرة مثل الأردن تديرها ثلاث حكومات، حكومة دستورية وحكومة موازية وحكومة خفية.

ما هذا الذي نحن بصدده؟ نظام وقع أسير نفسه. لا هو قادر على تغيير نفسه و لا هو قادر على الخلاص من الأجسام الطفيلية العالقة به. ويبدو أن اللعبة التي لعبها حزب النظام في إخافة وتخويف الناس من تبعات الإصلاح، قد تم لعبها أيضاً على مؤسسات النظام نفسه من خلال إخافة رأس النظام من تبعات أي إصلاح حقيقي على اعتبار أن ذلك سوف يضعف النظام أو قد يؤدي إلى الإطاحة به. في واقع الأمر ، فعل حزب النظام ذلك دفاعاً عن وجوده وعن مكاسبه ادراكاً من رجال النظام أنهم سوف يكونوا أول ضحايا عملية الإصلاح بسبب فسادهم المالي واستهتارهم السياسي وعدم احترامهم لمصالح الشعب ومستقبل الوطن الذي أصبح الآن على شفا الإفلاس نتيجة فسادهم وافتقارهم إلى الحس بالمسؤولية المناطة بهم. إن التخلص من رجال النظام لن يؤدي إلى إضعاف النظام بل على العكس إلى تقويته لأنه سوف يصبح أكثر رشاقة وفعالية بعد التخلص من تلك الحمولة الزائدة البائسة.

الشعب يريد من النظام أن يصبح رشيقاً قادراً على الحركة السريعة خالياً من الزوائد والعوالق. المطلوب من النظام أن ينقذ نفسه من رجالاته ومن حمولته الزائدة وأن يستند إلى الشعب كله وليس إلى فئة منه.


*نشر هذا المقال في جريدة القدس العربي اللندنية بتاريخ 27/ 5/ 2012