د. لبيب قمحاوي

صباح يوم الجمعة الماضي ورغبة في متابعة الأحوال الجوية العاصفة في البلد، قررت مشاهدة التلفزيون الأردني بعد انقطاع دام عدة سنوات. وليتني لم أشاهد ما شاهدت. وتذكرت فوراً المثل الشعبي القائل ' كأنك يا أبو زيد ما غزيت'. نفس لغة التخاطب المقيتة والمخجلة والتي تنتقص من كرامة الإنسان والتي سادت في العقود الماضية ما زالت هي نفسها سيدة الموقف. والمذيعة التي كانت منسجمة بوضوح مع نفسها دون أي تكلف كانت، في الواقع، تنتمي في منطقها وفي لغة تخاطبها إلى تلك الحقبة من الماضي بالرغم من صغر سنها. وتذكرت بعضاً من مفردات تلك الحقبة التي تراوحت بين 'معالي فلان'، 'عطوفة فلان'، 'سعادة علان'، 'هذا بفضل سيدنا'، 'سيد البلاد'، 'شكراً للمسؤولين'، 'واجب المواطن كذا'، 'وعلى المواطن أن يفعل كذا وأن لا يفعل كذا' ... إلى آخر ذلك من مفردات ومن لغة تخاطب تبعث على الحزن والأسى، وتعكس نازية في التفكير ورغبة دفينة في التعامل مع المواطن باعتباره أتفه ما نملك وليس أغلى ما نملك. لا يوجد أي مفردات في لغة ذلك الإعلام العجيب الغريب توجه أي لوم للمسؤولين، بل يقتصر اللوم على المواطن في حين ينحصر المديح بالمسؤول أو المسؤولين. كل المطلوب هو من الشعب وكل الممنوع هو على الشعب. وكل الفضل 'لسيدنا' إذا أمطرت، وإذا تساقطت الثلوج، وإذا ولد طفل، وإذا شفي مريض، وإذا نقصت الأسعار أو زادت الأجور والرواتب.... الخ. لا قيمة لأحد و لا دور للدولة سوى رعاية المكارم . كل شيء يتم بمكرمة وليس بقرار حكومي. الدولة دولة مكارم والشعب عبارة عن كم عاجز، واقعه ومستقبله مرهون بتلك المكارم. تلك هي لغة ذلك الإعلام الرسمي المشؤوم. إعلامٌ لا علاقة له بالوطن أو المواطن ويعتبر نفسه ممثلاً للسلطة والمسؤولين. وإعلام يتصرف وكأنه غسالة النظام واجبها أن تزيل كل ما علق به وأن تظهره ناصع البياض.

ما هو هذا الوطن الذي يدفع إعلامه الناس إلى نسيان أسمائهم بحيث لا يعودوا يتذكرون سوى ألقابهم متناسين أن الاسم جزء من الشخصية والبناء الذاتي للإنسان الفرد، في حين أن اللقب إضافة مصطنعة إلى شخصية الإنسان وواقعه الحقيقي. لقد أدت هذه السياسة الإعلامية إلى تبلور ثلاثة أنواع من المواطنين في الأردن، حامل اللقب، والطامح إلى حمل اللقب، والغير معني بهذا وذاك وهو الأغلبية والكم المهمل من قبل المسؤولين والدولة. لقد عمل النظام لعقود على خلق ثقافة سياسية ولغة إعلامية تحطان من قدر الإنسان وتفقداه كرامته واحترامه لذاته وتحولاه إلى قزم يخدم السيد وتمنعا تحوله إلى عملاق يخدم الوطن، وتبقياه ، ملتصقاً بالنظام يقتات على ما يقدمه له من فتات. إن أي مسؤول أردني لن يكون قادراً على تقديم أي شيء ذي قيمة للوطن إذا فقد كرامته. والنظام السياسي الأردني يعتبر أن الوصول إلى المنصب لا تحكمه الكفاءة أولاً ولكن يحكمه الولاء المطلق للحاكم والتسبيح بحمده وفضله، وكل شيء آخر يأتي بعد ذلك. والولاء المطلق في هذه الحالة يعني الاستسلام الكامل لرغبات الحاكم وقراراته وأوامره والاستعداد للانحناء أمامه كلما تطلب الأمر ذلك.
وهكذا تم تفصيل الوطن على مقاس النظام عوضاً عن تفصيل النظام على مقاس الوطن. ولأن الأمور تمت على هذا الشكل، فقد أصبح النظام هو الأصل والوطن هو الفرع. وأصبح الولاء للنظام هو المقياس وهو الطريق للوصول إلى أعلى المناصب وليس الولاء للوطن. وأصبحت لغة التخاطب السياسي وأحياناً الاجتماعي انعكاساً لذلك الوضع، لا أحد يسمع مثلاً كلمة 'مصلحة الوطن تتطلب كذا وكذا' ولكن تسمع عوضاً عن ذلك 'رغبة سيدنا أن نفعل كذا وكذا'. وانتقل هذا المسار وهذا السلوك من الأفراد إلى المؤسسات وأخيراً الحكومة. فالحكومة هي حكومة الملك وليس الوطن، والجيش هو جيش الملك وليس الوطن، والمخابرات هي مخابرات الملك وليس الوطن، إلى آخر ذلك، مما خلق ردود فعل شديدة لدى الشعب الأردني في محاولاته الأخيرة والمتكررة لتغيير لغة التخاطب تلك ورفض مبدأ المِنَّةِ والوصاية والمكرمات والتأكيد على أن الأردن للأردنيين وأن الأردنيين ليسوا حالة طارئة على وطنهم الأردن .

وبالتوازي مع ذلك كانت السياسات تختفي لصالح التوجيهات، وقفز الديوان الملكي على ظهر الحكومة، وأصبح وزير الخارجية ، مثلاً، وعلى ما يشاع ، نادراً ما يبحث مع رئيس الوزراء في السياسة الخارجية كون الخارجية قد سحبت تماماً من صلاحيات رئيس الحكومة ووضعت في كَنَفْ الملك وهو أمر مخالف للدستور. وهكذا تم مسخ الأفراد أولاً ثم المؤسسات وسُحِبَ الدم من عروق الحكومة التي أوكل لها قضايا الخدمات وأمور أخرى هامشية دون إعطائها الأدوات اللازمة لمعالجة الاختلالات في تلك القطاعات.

وهكذا، عشية انطلاق ثورات الإصلاح والتغيير، كان الوضع في الأردن مأساوياً. حكومة مسحوبة الولاية والإرادة والكرامة وديوان ملكي متخم بالمسؤوليات لا يعلم كيف يدير شؤون الدولة من خلف ظهر الحكومة، ومسؤولون يتولون مواقع متقدمة مع أن معظمهم لا يستحق أكثر من موقع متواضع في الصفوف الخلفية حيث أن كل همهم ينحصر في اكتساب رضا الحاكم وليس القيام بالمهام المناطة بهم بجدارة . وعكست لغة التخاطب السياسي الرسمي هذا الواقع وأصبحت مفردات مثل كلمة 'حاضر سيدي' هي الدارجة وهي المعبرة عن لغة الذل والخنوع التي تخرج من أفواه مسؤولين لا يملكون من أمرهم شيئاً.

وبالرغم من التطورات الأخيرة التي رافقت ثورات الربيع العربي، بقي الإعلام الأردني الرسمي سواء في التلفزيون أو الإذاعة في غيبوبة مطلقة لا يعلم ما يجري و لا يريد أن يعلم ما يجري. ما زال يسبح في ملكوت الماضي مصراً على الاستمرار في ولائه الأعمى مكللاً بغار الغباء على عدم قدرته على فهم الحاضر الجديد والتفاعلات المستقبلية ضمن إطار المجتمع الأردني الثائر لكرامته المهدورة والإهانات اليومية التي يتلقاها من وسائل الإعلام الأردني الرسمي من خلال لغة التخاطب التي تعامل المواطن بدونية واضحة، ضمن مسلسل محزن من تقديس المسؤول والاعتراف العلني بأفضاله ومكرماته حصراً. وفي هذا السياق، يعتبر الإعلام الرسمي الأردني مسؤولاً مسؤولية مباشرة على تطوير لغة تخاطب وثقافة سياسية سلبية صبغت العقود الخمسة الأخيرة من حياة الأردن، بل وتجاوزت في تأثيرها لغة التخاطب والحياة السياسية لتدخل إلى صلب الحياة اليومية والثقافية والاجتماعية خصوصاً بين أوساط الشريحة العليا من المجتمع أو الشريحة الطامحة للوصول إلى المناصب العليا والمثول بين يدي النظام. أمر عجيب ووضع أعجب ورؤيا إعلامية في غاية الغرابة.

يتطلب هذا الوضع الإعلامي المريض جراحة جذرية يتم من خلالها التخلص من هذه المدرسة الإعلامية ورموزها وإعادة النظر في مجمل الجهاز الإعلامي من تلفزيون وإذاعة وصحافة رسمية علماً بأن هذا الجهاز يمول من أموال الشعب وبالتالي عليه مسؤولية الانحناء أمام هذا الشعب وأن يكون المرآة لآماله وتطلعاته وليس عصا المسؤول لتأديب وتوبيخ المواطنين وحجب وسائل التعبير عن الرأي الآخر من خلال الإعلام الرسمي وتسخيره لخدمة مواقف النظام فقط.

إن إلغاء الآثار السلبية للسياسة الإعلامية تلك وما تمخض عنها من لغة تخاطب سياسية تـُحَقـِّرْ المواطن أصبح أولوية هامة. إن إعادة الكرامة للمنصب العام أصبح أمراً في غاية الأهمية كونه يشكل نقطة الانطلاق نحو إعادة تنظيم الدولة والمجتمع على أسس واضحة من الشفافية وتكافؤ الفرص وعلانيتها، وبحيث يدين المنصب العام وشاغله للوطن وللمصلحة العامة وليس لشخص الحاكم فقط وعلى أساس واضح من تلازم السلطة والمسؤولية ضمن إطار كامل من الشفافية.


*نشر هذا المقال في جريدة القدس العربي اللندنية بتاريخ  6/ 3/ 2012