يمر العالم العربي الآن بحقبة من الفوضى والدمار والقلاقل التي لا تعكس الرغبة الشعبية في الإصلاح والتغيير بقدر ما تعود إلى الرغبة الرسمية في منع الإصلاح والتغيير. والأردن الدولة الفقيرة الصغيرة تمكنت من تجاوز محن وكوارث عديدة أصابت بعض دول الجوار منها نكبتين في فلسطين، والحرب الأهلية في لبنان، واحتلال وتدمير الدولة العراقية القوية والغنية، وما يجري الآن في سوريا، الدولة المحورية، من تدمير وقتل وتشريد. بل وأكثر من ذلك تمكن الأردن من الاستفادة من كل تلك الكوراث سواء ذهبت تلك الفوائد إلى الأردن كدولة أو إلى جيوب البعض، فإن النتيجة تبقى واحدة. ولكن ما السر وراء كل ذلك؟ وهل يقع هذا تحت تصنيف الإبداع والقيادة الحكيمة أم أنه محصلة لشيء غير معلن وقد لا يكون فيه، بالنتيجة، الخير للأردن.
من المهم أن نعترف منذ البداية أن معظم القوى الخارجية الداعمة للأردن، سواء أكان ذلك الدعم علنياً أو مستتراً، إنما تفعل ذلك من منطلق الحفاظ على أمن واستقرار إسرائيل. والأردن واستقراره يعتبران، وباعتراف المسؤولين الإسرائيليين، بالتالي جزءاً من الأمن القومي الإسرائيلي وأحد تجلياته، وهو بصفته تلك يدور في الفلك الإسرائيلي لا أكثر ولا أقل. وهكذا يصبح العمل على الحفاظ على أمن واستقرار الأردن أمراً مفهوماً ومحصلة طبيعية لذلك الدور. ونظام الحكم في الأردن، بكل مؤسساته، سوف يُكتب له البقاء والاستمرار والاستقرار طالما فهم تلك المعادلة ولم يحاول الالتفاف عليها أو التفريط بها، وبخلاف ذلك سوف يتم العمل على استبداله. ولكن أين موقع الشعب الأردني في هذه المعادلة؟
الأردن في ذهن من خططوا لإنشائه في عشرينيات القرن الماضي هو دولة وظيفية بمعنى أن وجوده واستمراره مرهونان بقدرته على القيام بالمهام المناطة به. والبديل هو احتمالية تمزيقه وتحويله إلى خرق بالية حيث لن يكون هذا بالأمر الصعب في ظل حالة التفتييت والشرذمة المتفاقمة والسائدة فيه والتي أخذت مؤخراً أشكالاً متعددة من العصبيات التي صدم وجودها الكثير من الأردنيين. فما يجري الآن في بعض مناطق الأردن مثل معان والطفيلة وكذلك في معظم الجامعات الأردنية تطورات تبعث على القلق الشديد وتؤكد وجود أشياء ما يتم غرسها ورعايتها وتنميتها من قبل أطراف خفية ولأهداف خفية.
من الصعب التصور أن مثل هذه التطورات السلبية هي أمر طبيعي. والأقرب إلى الصحة الافتراض أن هنالك قوى خفية مدعومة من أجهزة متنفذة تشجع مثل هذا السلوك وتعمل على تنميته بهدف إضعاف تماسك المجتمع وقدرته على فرض التغيير أو مقاومة سياسات موحى بها من الخارج. وما نراه من عجز واضح، بل فاضح، في قيام الحكم الأردني بمسؤولياته في الحفاظ على الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي يجافي المنطق ويصعب تفسيره اللهم إلا إذا كان ما يجري منسجماً مع أهداف خفية لإضعاف لُحمة المجتمع الأردني تحظى بالقبول الصامت من مراكز قوى عديدة داخل مؤسسة الحكم.
ولكن كيف يتصرف الحكم الأردني مع الأردنيين في مسعاه الواضح للانفراد بالسلطة وتكميم أفواه المعارضة كوسيلة للانفراد بالقرار وتنفيذ ما هو مطلوب؟
يتصرف المسؤولون ورجال الحكم في الأردن بشكل أقرب ما يكون إلى سلوك حركة باطنية تحتكر الحقيقة وتقرر منفردة ما هو الصحيح وما هو الخطأ. فهم يتصرفون وكأن الأردن ملكاً خالصاً لهم ولمؤسسة الحكم وليس ملكاً لأبنائه. والأساس في هذا التصنيف هو الولاء الأعمى والمطلق للنظام والذي يُعتبر الوسيلة الوحيدة للوصول إلى المنصب والمساهمة في صنع القرار وحتى حصد الفوائد. وهكذا، فإن حرص رجال الحكم في الأردن على المحافظة على الأمر الواقع إنما هو في واقعه حرص على الحفاظ على المنافع والمكتسبات التي يتمتعون بها.
إن الاستماع إلى أعضاء مؤسسة الحكم في الأردن والمسؤولين فيه وهم يناقشون الأمور فيما بينهم أو يتجادلون مع من يصنفونهم بالمعارضة أمر يبعث على الحزن والأسى. وهنالك صفات يطلقونها على من يعارض أفكارهم وسياساتهم أهمها ‘المشاغبون’ وهو اصطلاح مخابراتي جرى تعميمه في محاولة لإفراغ الجدية من طروحات المعارضين والاستخفاف بهم وبآرائهم . والحديث دائماً ما يتم على أساس أن الدولة ملكاً لهم وهم أدرى بمصلحتها وهي مِنْ حَقهم فقط وأن المعارضين هم حالة طارئة على الوطن لا حقوق سياسية لهم ولاحق لهم في الوصول إلى أي منصب أو السعي لاستلام دفة الحكم بالوسائل الديمقراطية أو غير الديمقراطية.
إن استقرار الحكم والدولة لم يعودا إذاً محصلة للعوامل الداخلية وترابطها مع التطورات الإقليمية، بل أصبح مرتبطاً ارتباطاً كاملاً بالقدرة على تلبية متطلبات وأهداف مرسومة من قبل قوى من خارج الوطن وهي في الغالب معادية لمصالح الوطن وأهداف وطموحات المواطنين. وهكذا أصبح ارتباط الحكم بالخارج أهم من ارتباطه بالداخل وأصبحت، بالتالي، قدرة الداخل على التأثير على نظام الحكم وسياساته ضعيفة جداً إن لم تكن شبه معدومة. وأصبح الاستثمار في القوى الأمنية وتعزيز قدراتها، وبدعم خارجي ملحوظ، هو الاستثمار الأول والأهم بالنسبة للنظام لأنه الأداة المباشرة للتصدي لأي ردود فعل داخلية إن لم يكن تطويعها والسيطرة عليها. وأصبحت الحكومة حكومة بالإسم لا سيطرة لها على السياسة الخارجية أو الأمن أو الجيش وأصبحت تقوم بدور مجلس بلدي للوطن عوضاً عن كونها حكومة للوطن.
الأردن لن يجابه، في المدى المنظور، أي مخاطر في أن يتحول وضعه إلى وضع مماثل لما هو عليه الحال في العديد من دول المنطقة مثل مصر وليبيا وتونس وسوريا والعراق. فبينما تتزايد المؤشرات مثلاً على قرب انفجار الأوضاع في العراق ولبنان واستمرار الأوضاع المتفجرة في سوريا، فإن الأردن سيبقى في منأى عن ذلك، اللهم إلا من احتمال قيام بعض العمليات الانتحارية أو الانتقامية المتفرقة هنا وهناك. والفضل في ذلك لا يعود إلى حكمة القيادة كما يحلو للبعض أن يدعي، ولكن إلى الأدوار المناطة بالأردن والتقدير الأمريكي – الغربي بأن قدرته على تنفيذها يتطلب درجة من الاستقرار المستند إلى وضع اقتصادي ضعيف يستنزف وقت وجهد المواطن الأردني ويجعل من الأمور السياسية بالنسبة له أولوية ثانوية مقارنة بالحالة الاقتصادية والقدرة على مجابهة مستلزمات الحياة. فالكرامة ترتبط ارتباطاً عكسياً بحالة الفقر والحرمان. ومن هنا يستغرب بعض ممن لا يعلمون ببواطن الأمور امتناع بعض الدول الشقيقة على التقدم لانقاذ الأردن من ضائقته الاقتصادية. ومع أن الفساد المستشري قد استعمل كعذر على الامتناع عن المساعدة، إلا أن الأسباب الحقيقية تبقى مرتبطة بسياسات غير معلنة تضعها أمريكا وإسرائيل للتسهيل على النظام الأردني للسير فيما هو مطلوب من الأردن القيام به.
إن هذا الوضع لا يبشر بالخير ولا يجب أن يبعث على التفاؤل لأن ما هو مطلوب من الأردن قد يكون جائراً بحق الآخرين ومدخلاً لانتهاك العالم العربي بشكل علني ولصالح الصهيونية وحلفائها. وهذا يتطلب قدرة واضحة من قبل النظام على الإمساك بزمام الأمور والانفراد بناصية القرار السياسي والأمني حتى يتمكن من تنفيذ ما هو مطلوب منه بالرغم من أي معارضة داخلية.
إذاً استقرار الأردن المضمون حالياً هو أمر قد يدفع ثمنه الآخرون وإن كان سيؤدي بالنتيجة إلى تكريس وضع الأردن كدولة تابعة تقوم بتصريف احتقانات المنطقة ورغبات الآخرين من خلال عروقها الضعيفة الواهنة. فالأردن مرتهن اقتصادياً لمساعدات الآخرين، ومرتهن مائياً للعدو الإسرائيلي ومرتهن في الطاقة لمزاج الآخرين والأسعار التي تحكمها البورصة الدولية ومن يقف وراءها. إن ترابط المصالح وتشابكها أمر معترف به وقائم بين معظم دول العالم ولكن الدولة التابعة من خلال ارتهان معظم مقدراتها للآخرين ومن خلال تفريطها بإنجازات الوطن وحمايتها للفساد الكبير هي في النتيجة دولة في خدمة الآخرين وليست في خدمة أبنائها.
فمن يريد ذلك؟ وما هو البديل؟
لا أحد يريد ذلك ولكن لا تجري الرياح دائماً بما تشتهي السفن. والأمور قد تكون في هذا السياق إذا كانت انعكاساً لسياسة الاستسلام الكامل للأمر الواقع، وفي هذا الاستسلام نسبة عالية من انكسار الإرادة الوطنية والخنوع للأوامر والسياسات المفروضة من الآخرين. ولكن القفز فوق هذا الواقع الأليم هو ما يريده معظم أبناء الوطن وهذا لن يتوفر إلا بتوفر الإرادة الوطنية والنزاهة السياسية التي يجب أن ترافق السعي نحو التصدي للواقع بتبني سياسات تهدف إلى التخفيف من حتمية التبعية للآخرين من خلال الإصلاح السياسي وبناء مقدرات الوطن الذاتية عوضاً عن استنزافها أو سرقتها أو التفريط بها. والبديل لا يكون باستحضار أرواح الشياطين وتدمير الاستقرار وتحطيم الذات، ولكن من خلال الحد من انفلات الحكم وتحجيم صلاحياته المطلقة ووضع ما أمكن من ضوابط تمنع الحكم من تقديم التنازلات السهلة والمجانية مقابل ضمانات خارجية لبقائه واستمراره. ومجمل الإصلاحات التي يطالب بها الأردنيون هي في هذا السياق.


 

*نشر هذا المقال في جريدة القدس العربي اللندنية بتاريخ  4/ 6/ 2013