د. لبيب قمحاوي

السؤال الذي يشكل التحدي الأكبر للأردنيين يتمحور حول الحلول الممكنة للوضع الضاغط الذي يعيشه الأردن والأردنيون.

الكثير يمكن ان يقال في وصف أو تحليل الأسباب والمسببات لما وصل إليه الحال في الأردن. ولكن الحديث عما يمكن فعله للخروج من هذا المأزق يشكّل الهم الأكبر والتحدي المستمر للعديد من الأردنيين خصوصاً بعد أن تم قهر أجيال منهم، وتدجين أجيال أخرى وخلق طبقة من المستفيدين من بقاء الوضع على ما هو عليه. وقد أصبحت هذه الطبقة بالنتيجة ركيزة للحكم وجهوده في مقاومة أي عملية إصلاح حقيقية باعتبارها ستشكل خطراً على مكاسبها إن لم يكن على وجودها.

وهكذا يرى الشعب الأردني الآن نفسه في وضع لا يجابه فيه الحكم فقط باعتباره الطرف المُسْتَهدَف من عملية الإصلاح، ولكنه يجابه تحالفاً يضم مؤسسة الحكم مع طبقة طفيلية مستفيدة منفصلة عن آمال المجتمع ومصالحه تعتبر نفسها مَلَكيّة أكثر من الملك وتتصرف على هذا الأساس. وهي بذلك أشد عداء لمطالب الإصلاح ناهيك عن كونها في الأصل أشد نفاقاً، مما يعني أن إمكانية توفر وازع أو رادع لديها تكاد تكون شبه معدومة.

يبحر الأردنيون في بحر عميق غَدَّار في سعيهم للخروج بخطة عمل أو رؤيا مستقبلية ولا أقول “خارطة طريق” لأن هذا الإصطلاح الذي استعمله المصريون بحصافة أصبح مثل “ممسحة الزفر” يستعمله العديدون لخداع العديدين.

من الخطأ حصر اللوم في فشل برنامج الإصلاح بالنظام أو في القوى الملتفة حوله والمنتفعة منه. هنالك قوى أخرى داخل المجتمع الأردني تتحمل مسؤولية الفشل بشكل يكاد يكون مساوياً للمسؤولية التي يتحملها النظام والقوى المتحالفة معه، وإن كان من منطلقات تختلف جذرياً عن تلك التي تُحَفّز طبقة المستفيدين المحيطة بالحكم.

إنّ قوى المعارضة، ومنها الأحزاب وقوى الحراك المطالبة بالإصلاح وبعض مؤسسات المجتمع المدني، مسؤولة مسؤولية مباشرة عن فشل التحرك الإصلاحي، وعليها أن تمتلك الشجاعة الكافية للنظر إلى داخلها بواقعية، وتشخيص وضعها ودورها في تحمل المسؤولية لما آلت إليه الأوضاع في الأردن. علينا أن نعترف أن المعارضة في الأردن فشلت في الارتقاء إلى مستوى المسؤوليات المناطة بها من أجل الوصول إلى هدف الإصلاح الحقيقي.

المعارضة في الأردن مكونة بشكل عام من مستقلين ومؤسسات مجتمع مدني، مثل النقابات والاتحادات وكذلك الأحزاب العقائدية التقليدية والأحزاب الإسلامية وبعض الأحزاب الليبرالية الجديدة. وهي في مجموعها تشكل تجمعاً ائْتلافياً قـَلـِقاً يخلو من الانسجام ولا يوحدها إلا رابط المعارضة أو مطالب الإصلاح بدرجات ورؤى متفاوتة.

التراث المتهالك للأحزاب العقائدية وضمورها الشديد الناتج عن انغلاقها الفكري وتحجر رؤيتها السياسية، وارتباطها بقوى وأنظمة عفى عليها الزمن، وإصرارها العجيب مع ذلك على تولي الصدارة في حركة المعارضة الأردنية دون أي جهد لتطوير نفسها أو أساليب عملها أو برنامجها السياسي ، قد أضعف المعارضة وغَلَّ يدها.

بالإضافة إلى ذلك فإن باطنية الأحزاب الإسلامية، وانغلاقها وارتباطها بمخططات وأهداف تتجاوز الوطنية والوطن ومصالحه، إلى ترتيبات إقليمية وعالمية لا تعترف بما يؤمن به معظم الشعب الأردني والأمة العربية، قد ساهم أيضاً في تفتيت المعارضة وإعطاء التناحر على البرامج الحزبية وأهدافها الأولوية على برنامج إصلاح وطني حقيقي وفعّال وشامل. والنقابات المهنية التي قادت الحركة الوطنية في الأردن لعقود كواجهة وطنية، أصبحت الآن في معظمها، ونتيجة للتناحر الحزبي، واجهات حزبية.

        من الطبيعي أن يكون النظام ، وهو المستهدف من عملية الاصلاح ، معادياً للحركة المطالبة للإصلاح . أما المعارضة وقوى الإصلاح فإنّ وضعها المهلهل والإصرار الأناني لأطرافها المختلفة على الانفراد والتفرد بالقيادة ، ومحاولة احتكار الفضل في أي نجاح باعتبارها أهداف أهم من وحدة حركة المعارضة، قد أضعف حركة الإصلاح وعكس نفسه مباشرة على تمزيق الحراك الشعبي الشبابي أو بعثرة جهوده، حيث حاول كل حزب خلق التيار الشبابي التابع له عوضاً عن العمل على توحيد الحراك الشبابي بشكل عام. لقد ساهمت الأحزاب التقليدية بما في ذلك الحركة الاسلامية في إفشال كافة الجهود التي قامت بها الجبهة الوطنية للإصلاح، وهي الإطار السياسي العام لمعظم قوى الإصلاح في حينه، لتوحيد الحراك الشبابي وجعله قوة منظمة مؤثرة لدفع عملية الإصلاح ولتوفير أرضية النجاح لها.

وهكذا فإن فشل برنامج الإصلاح في الأردن كان أمراً محتوماً بحكم عداء النظام وأنصاره من جهة، ومن جهة أخرى ضعف حركة المعارضة وتشتتها وفقرها التنظيمي،  وافتقار قياداتها إلى الرؤيا والعزيمة اللازمين للسمو فوق الأنانيات الفردية والحزبية لصالح عصبيات وايديولوجيات عفى عليها الزمن أو كاد. ما سبق قوله لا يهدف إلى تبرئة ساحة النظام ومن التف حوله من مسؤولية إفشال حركة الإصلاح الأردنية، بقدر ما يهدف إلى تأكيد تلك المسؤولية والإشارة إلى مسؤولية قوى المعارضة بالمشاركة في ذلك الإفشال.

الأهداف والطموحات للحركة الإصلاحية وللحراك الشبابي في الأردن كانت منذ البداية أكبر وأقوى من الواقع التنظيمي لهما. وفي حين أن النظام وطبقة المنتفعين والمحافظين الملتفة حول سياساته كانوا يفتقرون أيضاً إلى إطار تنظيمي شعبي يدعمها أو جذور شعبية حقيقية يستندون إليها، إلا أنهم كانوا يتمتعون بالقدرة على استعمال مؤسسات وموارد الدولة واستغلال سطوتها الأمنية لمجابهة قوى الإصلاح ومطالبها. منذ البداية لم يكن هنالك أي تكافؤ بين واقع قوى الاصلاح وواقع القوى المحافظة المناهضة للاصلاح، والتي افترضت وتصرفت على اعتبار أن مؤسسات الدولة ومواردها هي ملك خالص لها وليس للشعب، وأنها بالتالي تمتلك الحق في استعمالها واستغلالها ضد الآخرين من أبناء الشعب، حتى ولو كانوا يمثلون في مطالبهم أغلبية واضحة من الأردنين.

إذا كان هذا هو واقع الحال ، فما العمل؟

إن أي خطة ذكية وعملية لإعادة تفعيل النهج الإصلاحي بهدف تحويله إلى قضية وطنية تتطلب الابتعاد عن القضايا الخلافية والتركيز على القضايا التي يمكن أن تشكل الأرضية لبرنامج إصلاحي يحظى بقبول شعبي عام. وهذا يعني الخروج ببرنامج إصلاحي ينطلق من واقع البلد ويبتعد ما أمكن عن السياسة والايديولوجيا والأمور العقائدية سواء الدينية أو المدنية، إذ من المستحيل أن يشكل أي برنامج عمل سياسي قاعدة لإجماع وطني في بلد مثل الأردن يعاني من انقسامات مختلفة طولية وعرضية.

البرنامج الإصلاحي الأردني الأمثل يجب أن يركز أولاً على مطالب محاربة الفساد وتفعيل مبدأ الشفافية والمساءلة والمحاسبة واستقلال القضاء استقلالاً حقيقياً من خلال القاعدة الدستورية التي تكرس الفصل بين السلطات.

إن ما جرى من تلاعب وتهاون في تنفيذ موضوع فتح ملفات الفساد ومحاسبة الفاسدين واسترجاع المال العام المسروق والمهدور هو أكبر كارثة أصابت برنامج الإصلاح في الأردن، وهو الدليل الأهم والأكبر على غياب أي نية رسمية لتطبيق الإصلاحات المنشودة بصدق وشفافية. ما جرى كان كارثياً من زاوية الانتقائية في فتح ملفات الفساد من جهة، والاستهتار في محاسبة الفاسدين والفشل المتعمد في استرجاع المال العام المسروق من جهة أخرى. كل ذلك عزز من صلابة الموقف الشعبي الأردني في التصدي لمعالجة هذا الموضوع، خصوصاً وأن الاستهتار في استعادة المال العام من قبل الدولة قابله تصميم حكومي على رفع الأسعار والغاء الدعم وإرغام الشعب الأردني على دفع ثمن الفساد مكرراً، عوضاً عن إرغام الفاسدين على دفع ذلك مع العلم أن معظمهم من المتنفذين وأصحاب المراكز. إن ربط موضوع زيادة الأسعار بمحاربة الفساد واسترجاع المال العام هو مبدأ أساسي يجب أن يكون في صلب برنامج الإصلاح الجديد. بل إن هذا الموضوع  يصلح منفرداً لأن يكون القاعدة الأساسية لثورة إصلاحية جديدة، خصوصاً أن الاستخفاف بقدرة الشعب على التصدي له ومعالجة ذيوله قد سمح للبعض بالتمادي، وللحكومة بالتغول إلى الحد الذي مكّنها أن تمد يدها إلى مدخرات الشعب الأردني في مؤسسة الضمان الاجتماعي، واستعمالها كحصالة للدولة تغرف منها متى شاءت لتمويل مشاريعها وعجزها المتراكم. إن هذا لا يعني أنّ الحكومة تسرق أموال الضمان، بقدر ما يشير إلى سوء استعمالها لتلك الأموال إلى حد التفريط الذي يقترب من شبهة الفساد في التعامل مع أموال ومدخرات الشعب الأردني دون وجه حق.

انربط موضوع زيادة الأسعار باسترجاع المال المنهوب أولاً، وقطع دابر الفساد يجب أن يكون البوصلة الهادية لبرنامج الإصلاح الجديد. بمعنى آخر عدم السماح للحكومة بزيادة الأسعار ورفع الدعم إلا بعد أن تسترجع المال العام المنهوب. واذا كانت الحكومة تتبجج بالتزامها بمسؤولياتها تجاه برنامج التصحيح الاقتصادي كمبرر لزيادة الأسعار، فإنّ جوهر ذلك البرنامج هو الشفافية والمساءلة والمحاسبة. ولا يجب السماح للحكم أن يتهرب ويتنصل من مسؤولياته، لأنه غير قادر أو غير راغب في التصدي لملفات الفساد واسترجاع مئات الملايين من المال العام المنهوب جهاراً.

موضوع الفساد ومحاكمة الفاسدين، واسترجاع المال العام، وكف يد الدولة عن مؤسسة الضمان الاجتماعي وأموالها، وإعطائها استقلالية كاملة تعادل استقلالية البنك المركزي الأردني أو تزيد، كل هذا يجب أن يكون عماد البرنامج الإصلاحي الجديد.

أما فيما يتعلق بالقضايا الإصلاحية الأخرى فيمكن تلخيصها تحت بند واحد وهو إعادة تفعيل دستور عام 1952 نصاً وروحاً، وإلغاء التعديلات التي طرأت عليه وغيرت من طبيعته وسببت خللاً واضحاً في التوازن والفصل بين السلطات. والواقع أن الخلل الذي يعاني منه الأردن الآن هو في الممارسة وليس في النصوص الدستورية. والتعديلات الدستورية بذلك، وهي قضية خلافية داخل المجتمع الأردني، يمكن تأجيلها الى حقبة لاحقة بعد أن تستتب الأمور ويتم تفعيل دستور عام 1952 في القول والفعل. ولعل من الجدير التذكير بأنّ معظم التجاوزات على الصلاحيات الدستورية والخلط فيها جاء بناءً على تشجيع ومبادرة من بعض رؤساء الحكومات، الذين شغلوا هذا المنصب في غفلة من الزمن وهم بذلك كانوا مستعدين للتضحية بأي شيء حتى ولو كان دستورياً للبقاء في مناصبهم . فهذه الحكومات الضعيفة كان همها الأكبر كسب رضى المسؤول وليس حماية الولاية العامة للحكومة والمبدأ الدستوري القاضي بالفصل بين السلطات.

إن العودة إلى الأصول يجب أن لا تكون موضع خلاف. ومطلب تفعيل دستور عام 1952 يجب أن يشكل نقطة اجماع ، كون هذا الدستور هو الذي أرسى دعائم النظام الملكي في الأردن ، وهو صناعة ملكية بامتياز، ولا يمكن اتهام المطالبين بهذا المطلب بأنهم يسعون الى تقويض النظام الملكي الأردني، بل على العكس فهو يكرس مبدأ “أعطي ما لقيصر لقيصر وما للشعب للشعب” من خلال العودة إلى الأصول وإلى الدستور المُؤَسِس للملكية الدستورية في الأردن.

وعلى هامش خطة العمل هذه، هنالك بعض القضايا التي قد يعتبرها البعض إجرائية أو تفصيلية ، ولكنها تحظى بأهمية خاصة. والالتزام بها قد يشكل بادرة حسن نية من الحكم تجاه جميع الأطراف في المعادلة الوطنية. وهذه القضايا تتلخص في مجالات ثلاثة: الأول الالتزام بحق أي مواطن في التعبير السلمي عن آرائة ووجهات نظره، دون التعرض للمنع أو الملاحقة القانونية. أما الثاني فهو الابتعاد عن التخوين والتجريم للقوى الشبابية المطالبة بالإصلاح ، والامتناع عن تقييد حقها بالتعبير السلمي أو زج قادتها في السجون تحت تهم مفبركة أو زائفة أو مبالغ بها لغايات تأديبهم وتخويف الآخرين. والثالث هو رفع الحصانة عن كافة المسؤولين باستثناء الملك فيما يتعلق بحق المواطن في توجيه أي انتقاد إلى أي من المسؤولين. فمنذ متى يسجن من ينتقد رئيس الحكومة أو الحكومة أو يحول إلى المحاكمة؟ رئيس الحكومة أو الوزير أو أي مسؤول هو شخصية عامة تخضع للنقد والانتقاد ، والقضاء المدني هو الحكم في أي انتهاك للقانون.

وأخيراً، وبغض النظر عن ما يشعر به البعض، هنالك أسس علينا القبول بها باعتبارها أمراً واقعاً دون أن تكون بالضرورة قريبة مما تنشده قوى الإصلاح أو تقبل به. وهذا يعني ضرورة توفر قدر من الواقعية في طرح مطالب الإصلاح دون أن يعني ذلك تفريغها من مضمونها. ولكن ما دام برنامج الإصلاح الأردني يطالب بالإصلاح ضمن إطار النظام وليس بتغيير النظام، فإن هذه المعادلة تفترض توفر قدر كافٍ من المرونة لدى كل الأطراف يجعل الاتفاق على برنامج إصلاحي أو خطوات إصلاحية ممكناً. وإذا امتنع أي طرف عن إبداء المرونة اللازمة أو التجاوب ضمن هذه المعادلة فإن النتيجة قد تؤدي إلى سقوط خيار الإصلاح لصالح خيارات أخرى لا أحد يريدها أو يسعى إليها.


*نشر هذا المقال في جريدة رأي اليوم اللندنية بتاريخ  20/ 11/ 2013