د. لبيب قمحاوي

من النادر أن يشارك أي شخص غير أردني في مجلس أردني دون أن يصاب بالدهشة من لغة التخاطب السائدة بين الحضور. إذ من النادر أن يخاطب شخصٌ ما شخصاً آخر باستعمال إسمه، حتى ولو كانوا أقارب . فالجميع يلجأ إلى استعمال اللقب، مهما كان ذلك اللقب هامشياً أو يخلو من أي مدلول حقيقي. وإذا كان المشارك في ذلك المجلس شخصاً غريباً أو لا يملك معلومات عن باقي الأشخاص المشاركين، فإنه قد يدخل ويخرج من الجلسة دون أن يعلم اسم الشخص أو معظم الأشخاص الذين كان برفقتهم . وضع عجيب غريب يستحق أن نسبر غوره بهدف فهم هذه الظاهرة المؤلمة.

إن سَعْي الأردنيين نحو اللقب قد استفحل إلى الحد الذي لم يعد من الممكن اعتباره ظاهرة فقط، بل تطور الأمر إلى مرض اجتماعي ساهم إلى درجة ما في خلق نَمَطِية تُوحد الأردنيين بالرغم عن أي خلافات فيما بينهم . الجميع يريدون الحصول على اللقب . واللقب في هذه الحالة لا يعني دكتور أو أستاذ أو مهندس أو ما شابه ذلك من ألقاب مهنية، ولكنه يعني ألقاباً مثل سعادة / عطوفة / معالي / دولة / بيك / باشا…. الخ. وهي في معظمها ألقاب عثمانية تخلو من أي معنى لإنجاز حقيقي سوى رضى الحاكم أو التسلسل الوظيفي. وهي بذلك تزين لحاملها أن يفترض لنفسه مَنْزِلَةً معينة في المجتمع بغض النظر إذا ما كان يستحقها أم لا.

لقد وعى النظام الأردني لأهمية اللقب بالنسبة للعديد من الأردنيين . وقد ساهمت هذه الرغبة في تحويل معظم أولئك الطامحين في اللقب إلى رهائن في يد النظام الأردني الذي فهم هذه الظاهرة جيداً وساهم في إذكائها حتى يتمكن من استغلالها كوسيلة للسيطرة على أولئك الطامحين.

النظام الأردني يعلم أن اللهفة للوصول إلى المنصب والحصول على اللقب سوف تدفع الكثيرين إلى الولاء للنظام بشكل طوعي لغاية تحقيق هدفهم المنشود، ومن ثم يزداد ذلك الولاء ويتنامى إلى حدود الاستسلام الكامل بهدف الاحتفاظ بذلك المنصب أو السعي للوصول إلى ما هو أعلى وأفضل منه. عملية الولاء إذاً متواصلة مثل الحلقة الجهنمية المفرغة ما إن يدخلها الفرد حتى يدور في فلكها بلا نهاية، تحفزه طموحات وأطماع سطحية أو واهمة. وبالطبع فإن مستوى الولاء والاستسلام يزداد باضطراد اذا كان الشخص المعني قد حاز على منصب لا يستحقه . وهكذا ابتدأت هذه الظاهرة في الاستفحال في المجتمع الأردني، وأصبح كل طامح ينتظر اليوم الذي يحصل فيه على هذا اللقب أو ذاك، وعندما يتم له ذلك يشعر الشخص المعني بأنه قد حقق هدفه الأهم في الحياة.

ولكن من يقف حقيقة  وراء هذا الجنوح الأردني العجيب نحو الألقاب وكيف كانت البداية؟ من الصعب إلقاء اللوم كاملاً على طرف واحد دون الآخر. فالمجتمع الأردني في بدايات نشأة إمارة شرق الأردن كان مجتمعاً بسيطاً يخلو من كثير من العقد التي تصيب في العادة المجتمعات الأكثر تقدماً كنتيجة حتمية لتبعات التطور. وكان نظام الحكم في حينه فقيراً يعتمد بشكل أساسي على المساعدات البريطانية وكذلك على الهبات التي تأتيه من أغنياء المجتمع المحلي. ونظراً لفقر النظام فإن الوسيلة الوحيدة التي كانت متوفرة لديه كأسلوب للشكر أو لتسديد الديون، أو للاسترضاء السياسي لبعض الزعماء المحليين كانت من خلال منح الألقاب. هكذا كانت البداية التي أدت إلى بزوغ طبقة الباشوات الأردنيين. ولم تقف الأمور عند هذا الحد، فقد تطور هذا الوضع ليصبح مؤشراً على التميز الفردي والعائلي إلى الحد الذي أصبحت فيه الأجيال اللاحقة من الأردنيين حريصة على ذكر لقب “الباشا” في تسلسل العائلة حتى في نعي الموتى، للدلالة على عراقة أو أهمية العائلة المعنية من خلال ذكر الجَد أو الوالد أو العَمّ المرحوم “الباشا”.

وسيطرت هذه العقدة على الأردنيين إلى حد الهَوَسْ وأصبح الحصول على اللقب هو مقياس النجاح في الحياة وله أولوية على أي نجاح آخر حتى ولو كان نجاحاً اقتصادياً أو علمياً. وأصبحت أحلام الشباب الأردني أسيرة لهذا الهدف في الحصول على اللقب كعلامة على النجاح, حتى ولو كان ذلك النجاح وهمياً.

ومع مرور الوقت واقتصار استعمال لقب “الباشوية” على منصب “رئيس الوزراء” أو رتبة “لواء” فما فوق في المؤسسة العسكرية، أصبح لقب “معالي” المرتبط بمنصب الوزير اللقب الأكثر شعبية وأصبح السعي للحصول عليه محط أنظار معظم الطامحين لذلك من الأردنيين، وامتلئت أروقة الحياة السياسية والمجتمع الأردني بأصحاب المعالي وأدى هذا الوضع الى رسم الابتسامة على فم الأردنيين، وهم قليلو الابتسام، من خلال المقولة التهكمية “معالي الشعب الأردني”، للدلالة على سقوط المجتمع الأردني في مستنقع الألقاب. مجتمع محزن مضحك يعيش على الفضلات العثمانية ويقتات من الهبات والأعطيات ويسبح في فضاء ألقاب فارغة لا تعني شيئاً، ولا تسمن من جوع، اللهم إلا الأوهام الفارغة و النفخة الكاذبة.

إن الفساد الذي استشرى على مستوى مؤسسات الحكم والقطاع العام قد جعل المنصب العام وبالتالي “اللقب” مرتبطاً بالفساد، وأصبح على شاغل المنصب وحامل اللقب تَحَمُل تبعات ومسؤولية الفساد الذي عَمﱠ وطَمﱠ من خلال ارتباطه بمؤسسة الحكم. إن غياب الديمقراطية الحقيقية جعل النظام هو المحتكر الوحيد لتعيين الوزراء وموظفو الدرجات العليا وضباط القوات المسلحة, وبالتالي فإنه يحتكر حق اعطاء اللقب، هذا بالإضافة إلى احتكار قرار من يُعَاقَبْ على الفساد ومن لا يُعَاَقَبْ. وإذا كان هذا هو واقع الحال يبقى السؤال الكبير هل حُبّ الأردنيين للألقاب هو السبب في انتشار الفساد وتدهور الأوضاع في الأردن، أم أن الفاسدين استغلوا حب الأردنيين للألقاب لنشر مزيد من الفساد؟

الواقع أن البحث عن الألقاب لم يُؤدِ الى وقوع الأردنيين في مستنقع الفساد فقط، بل أدى إلى استسلامهم غير المشروط للحكم ونزواته. وأصبح المسؤول الأردني حتى بمستوى رئيس الوزراء، وهو دستورياً صاحب الولاية على السلطة التنفيذية، عبارة عن موظف ينتظر الأوامر لتنفيذ التعليمات، وابتدأت طبقة السياسيين بالانحسار لصالح مجموعة من الأفراد المتملقين والمتزلفين. وأصبح انكسار طبقة السياسيين الذين ساهموا في بناء الدولة وعزلهم عن الحياة العامة قضية وقت أمام استعداد الكثيرين للانحناء بل والانصياع لرغبات الحكم ونزواته مقابل المنصب واللقب الذي يرافقه. وقد عكس هذا نفسه في لغة التخاطب بين القصر والحكومة.

وبرزت اصطلاحات جديدة أخذت تُعَبّر عن تفاقم هذه الحالة واستسلام الجهاز الحكومي بأكمله لإرادة القصر بما في ذلك مجلس الوزراء ومجلس النواب ومجلس الأعيان… الخ. وتم استنباط مصطلح “صاحب القرار” مثلاً والعمل به إمعاناً في التذلل والاستسلام والاعتراف بأن القصر هو مركز القرار التنفيذي وليس الحكومة، والقصر هو مركز القرار التشريعي وليس مجلس النواب أو الأعيان .

ومع مرور الوقت برز المزيد من المفردات الاستسلامية بل والمهينة وتم استبدال مصطلحات متعارف عليها مثل “صاحب الجلالة” أو “جلالة الملك” بأخرى تعكس عقلية الذل والهوان والاستسلام والعبودية السياسية مثل الاصطلاح الذي يستعمله الآن رئيس الحكومة والإعلام الرسمي الأردني عند الحديث عن اجراء تعديل وزاري، بأن رئيس الحكومة سيقوم “باستئذان صاحب القرار”، وكذلك توقيع رئيس الوزراء على الرسائل الموجهة للملك باللقب الطوعي “خادمكم المطيع″. واذا كان هذا هو واقع الحال، وما دام رئيس الحكومة يصر على أنه ليس صاحب القرار مع أن الدستور الأردني ينص على أن السلطة التنفيذية هي من مسؤولية الحكومة حصراً، فماذا يفعل إذاً في مبنى الرئاسة؟

إن تفاقم هذا الوضع قد دفع إلى مواقع المسؤولية الوزارية والوظائف العليا بأعداد هائلة من المسؤولين الذين لا يتمتعون بالكفاءآت المطلوبة بل بالأستعداد الطوعي لتنفيذ الأوامر والتعليمات. وخلا المنصب الوزاري من أي طَعْم أو حتى نكهة سياسية. وقد أدى تراكم هذا الوضع إلى هبوط حاد وملحوظ في مستوى الأداء الحكومي والإداري للدولة وارتفاع مضطرد في مستوى التسيب والفساد بأنواعه إلى الحد الذي وضع الأردن وعافيته وسلامه الاجتماعي على المحك.

إن التهافت على الألقاب قد دفع بالعديد من الأردنيين إلى تأكيد نهج المحاصصة سواء العشائرية أو الجغرافية لتأمين حصتهم من تلك الألقاب. وقد أدى ذلك إلى إضعاف النسيج الاجتماعي والولاء الوطني الشامل لصالح ولاءات فرعية تضمن تلك المكاسب. وقد ساهم ذلك في إضعاف الروح الوطنية وانحسار الولاء للدولة والانتماء للوطن لصالح الانتماء والولاء العشائري. وما يجري في الجامعات الأردنية مؤخراً من اقتتال بين الطلبة لخلافات تافهة تُتَرجم نفسها من خلال انتماءات عشائرية انما هو انعكاس لذلك النهج .

من المعروف أن الهدم أسهل من البناء. وعملية هدم المجتمع والدولة تتم في العادة من خلال إذكاء العوامل السلبية داخل المجتمع مثل إحياء العصبيات القبلية والعشائرية والانتماءات العرقية والطائفية على حساب الولاء الوطني الشامل للدولة وأولوية الانتماء لها. ومؤسسة الحكم وأجهزته لها دور واضح في تنمية تلك العصبيات وتغذيتها على حساب المواطنة. الأردني يبقى أردنياً حسب الدستور بغض النظر عن مكان ولادته أو ديانته أو انتماءه العشائري أو العرقي . ولكن ما يجري هو عكس ذلك وهو يهدف إلى تفكيك المجتمع الأردني من الداخل وخلق عصبيات وولاءات تؤدي إلى العنف في التعامل وهو ظاهره جديده في المجتمع الأردني. وهذا الأمر إذا ما استمر فإنه يصبح كالسرطان قد تختفي معالمه ولكن شروره تبقى مختبئة إلى أن يقضي على حاضنه .

هذا الوضع هو النتيجة الطبيعية والحتمية لغياب النهج الديمقراطي ومبدأ الشفافية والمحاسبة وتكافؤ الفرصة وعلنيتها. إن إلغاء الألقاب جميعها، بل وسن القوانين اللازمة لمنع استعمالها تحت طائلة العقوبة، هي البداية في تحرير المواطن من نفسه ومن مَوَاطِنِ ضَعفِهِ وما يترتب على ذلك الضعف من استسلام لإرادة الحاكم. إن مثل هذه القوانين والإجراءات قد تكون المؤشر لنهضة جديدة، وهذا ما يجب أن يسعى إليه كل من يرغب في إعادة بناء الأردن على أسس سليمة وبوسائل سلمية. ولكن يبقى السؤال هل يريد الحكم ذلك؟


 

*نشر هذا المقال في جريدة رأي اليوم اللندنية بتاريخ  16/ 6/ 2014