د.لبيب قمحاوي
  عودة الروح إلى الجسم العربي لا تعني شفاءه مما يعانيه من أمراض أصابته بحكم ظروف الاستبداد والفساد التي عانى منها لمدة طويلة. ما يجري الآن في سوريا ستكون له آثار عميقة على مستقبل المنطقة العربية عموماً ودول الجوار خصوصاً. 
والتطورات الأخيرة المتلاحقة والخطيرة تدفع المرء إلى التساؤل ما إذا كان ما يجري في سوريا هو من صنع السوريين، أم أن هنالك عوامل أخرى تحدد مجريات الأمور؟ إذا كان ما يجري في مصر مشكلة، فإن ما يجري في سوريا معضلة. وبين المعضلة السورية والمشكلة المصرية يقف القلب العربي خائفاً وجـِلاً مشفقاً على نفسه وعلى مستقبل أجياله. المعضلة السورية تتلخص في غياب ميزان قوى داخلي في المرحلة الحالية. فلا النظام قادر على الحسم ولا المعارضة الداخلية قادرة على الحسم، وكلاهما مُصِرٌ على المضي حتى النهاية. وهذا يعني أن الحل يتطلب تدخل أطراف أخرى لها بالطبع مصالحها الخاصة.  وهكذا، فإن ما يجري الآن في سوريا في أبعاده ونتائجه أكبر من سوريا، وأكبر من رغبة الشعب السوري في الحرية والديمقراطية، وأكبر من تمسك النظام السوري بالحكم بأي ثمن. وما يزيد من مأساوية هذا الوضع هو أن الضحايا هم سوريا والشعب السوري في حين أن اللاعبين وأصحاب القرار النهائي هم من خارج سوريا. إن الوضع في سوريا أصبح الآن جزءاً من معادلة دولية معقدة لها أبعاد إقليمية، وأضعف عامل فيها هو الأنظمة العربية لأن موقفها في جذوره انتقامي أناني وبالتأكيد تَبَعي لآخرين.

سوريا تقترب بسرعة نحو حرب أهلية أساسها تعنت النظام ودمويته واستهتاره بمطالب الشعب السوري وطموحاته. وفهم أبعاد المعضلة السورية يتطلب استشراف العوامل الداخلية والخارجية الفاعلة والمؤثرة فيها. داخلياً، إن ما يجري في سوريا يأخذ صفة المعضلة نتيجة ضعف وتشتت بنية المعارضة الداخلية وهي معارضة وطنية أصيلة عانت لما يزيد عن أربعين عاماً من القمع والاستبداد والظلم والفساد والإفساد. إلا أن نجاح المعارضة السورية الداخلية في الاستمرار في ثورتها ونضالها قد يساهم في تقوية بنيتها ونموها وانتشارها. وفي هذا الخضم نرى تحولات عديدة داخل المجتمع السوري ساهمت في تقوية عضد المعارضة الداخلية وأهمها على الإطلاق الانحياز التدريجي نحو المعارضة في موقف طبقة التجار الهامة تاريخياً في إدارة الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية داخل المجتمع السوري. هذه الطبقة التي عانت من فساد عائلة الأسد الحاكمة وهيمنتها على الاقتصاد السوري في السنوات الأخيرة ابتدأت مؤخراً في التخلي عن تحالفها التقليدي مع النظام لصالح الثوار في الداخل بل وأكثر من ذلك، حيث يقوم الآن أفراد من طبقة التجار بتقديم الدعم المالي لتمويل أولئك الثوار.

وهذا تطور هام كونه يضفي على المعارضة الداخلية الصبغة الوطنية السورية شكلاً وموضوعاً وتمويلاً. وعلى صعيد النظام، فإن دمويته وشراسته وتماسكه الشديد أمام الثورة الشعبية المتفاقمة أخذت تجسد أكثر فأكثر حقيقة كونه نظاماً يمثل طائفة بعينها صادرت وطناً بأكمله وبَنَتْ من حولها طبقة من المستفيدين وأبدت استعداداً وقدرة فائقة على استعمال وسائل العنف الوحشي مع شعبها دون رحمة أو هوادة، خصوصاً وأن الجيش في سوريا هو جيش النظام وليس جيش سوريا، والمؤسسة العسكرية هي عبارة عن مجموعة من الأجهزة الأمنية المناط بها الحفاظ على النظام قبل الدولة.

وهذا ما يُنذِر بجعل الصراع في سوريا صراعاً دموياً حتى الموت لا ينتهي إلا بالحسم لصالح طرف ضد الطرف الآخر، وهذه وصفة مضمونة للحرب الأهلية.

أما خارجياً، فهناك المحور الغربي بقيادة أمريكا والمحور الروسي الصيني بقيادة روسيا والتناقض الواضح في مصالحهم وبالتالي مواقفهم بالنسبة للموضوع السوري. وهناك المعارضة السورية في الخارج وهي في غالبيتها مشكوك في ارتباطها بدول وأجهزة أجنبية. ولأنه لا يوجد حتى الآن حل للمعضلة السورية من داخل سوريا حصراً، فالحل يجب أن يأتي أيضاً من الخارج بحكم التوازنات والتحالفات التي خلقها النظام السوري، ليس دفاعاً عن سوريا ، ولكن دفاعاً عن وجوده واستمراريته. الحديث إذاً ليس عن سوريا وعن مصالح سوريا، والحل في هذه الحالة لن يعكس المصلحة السورية، بل ما تريده أمريكا أو ما تريده روسيا.

الموضوع لم يعد يتعلق إذاً بما يريده الشعب السوري، بل بما تريده تلك القوى الدولية. أين النظام المقاوم وأين النظام الوطني من كل ذلك؟ هناك البعض ممن تقوده سذاجة التفكير للاعتقاد بأن موقف روسيا من سوريا تحكمه مبادئ ما أو راديكالية ما. كلام فارغ، فأساس الموقف الروسي هو المصالح الروسية فقط، تماماً كما هو الموقف الأمريكي. مرة أخرى، أنانية النظام سوف ترغم الشعب السوري وسوريا بالنتيجة على دفع الثمن للآخرين. أما الأنظمة العربية فليست بحال أفضل من النظام السوري حتى تتآمر عليه وتشن حرباً إعلامية شرسة وضروس لا يخفى على أحد منبعها وأسبابها وأهدافها.

تتعرض سوريا الآن لحملة إعلامية شرسة لم يشهد العالم العربي مثيلاً لها منذ العدوان على العراق. وفي الوقت الذي لا يستطيع فيه أي عربي يملك ضميراً إنسانياً وحساً وطنياً أن يقبل بالمذابح التي يتعرض لها الشعب السوري وأن الواجب يتطلب إدانتها جملة وتفصيلاً، إلا أن الحقيقة يجب أن تطفو إلى السطح بما لها وما عليها. فالهجمة الإعلامية الرسمية العربية من الفضائيات كثيراً ما تلجأ إلى المبالغة بهدف خلق استقطاب عاطفي يؤدي إلى تشكيل الرأي العام العربي والعالمي في اتجاهات معينة.

هذا لا يشكل إبراءً للنظام السوري من دم شعبه، ولكن الحقيقة يجب أن تُعلن حتى تستطيع جميع الأطراف الإلمام بكافة أوجه هذه المعضلة وأن تتسامح مع نفسها ومع غيرها إن أردنا التوصل إلى حلٍ لها.

إن استمرارية وتنامي أعمال العنف والقتل التي يقوم بها النظام السوري ضد المعارضة الداخلية قد تؤدي إلى تمترس واضح في المواقف وخلق مناطق عازلة وتكريس بؤر طائفية أو عرقية قد تضع الأساس فيما لو طالت فترة النزاع في سوريا إلى تقسيمها على أسس طائفية وعرقية. فتلك البؤر قد تشكل ملاذاً آمناً لبعض الطوائف مثل الطائفة العلوية وهي الطائفة الحاكمة أو لمجموعات عرقية مثل الأكراد يتحول كل منها بحكم طول المدة وقوة الأمر الواقع إلى نواة لكيان سياسي انفصالي أو شبه انفصالي. وفي هذا السياق يجب العمل على منع تكرار الحالة العراقية في سوريا وعدم السماح بإضعاف الدولة المركزية لصالح كانتونات طائفية أو عرقية، خصوصاً إذا ما تمكنت أمريكا من ممارسة نفوذ مؤثر على الوضع النهائي في سوريا سواء مباشرة أو من خلال بعض الأنظمة العربية.

إن العمل على تلافي هذا الاحتمال يتطلب تجليات إبداعية في التوصل إلى حل عربي سريع لهذه المعضلة ودوراً عربياً نظيفاً وفاعلاً يرنو إلى المحافظة على وحدة وسلامة سوريا عوضاً عن الاكتفاء بالانتقام من النظام السوري وتسليم سوريا إلى أمريكا.

وهذا يتطلب من النظام نفسه أن يسمو فوق أنانيته ودمويته وأن يضع مصلحة سوريا ووحدة أراضيها أولاً. إن محاولة البعض تسويق النظام السوري وتبرير ضرورة بقائه بالرغم من وحشيته باعتباره ‘نظاماً مقاوماً’ أو بالأحرى النظام الوحيد المقاوم إنما هو تجسيد لمعادلة إقليمية معقدة تشمل دولاً ومنظمات وتدخل في صميم المشاعر والآمال العربية في صراعها الدائم مع العدو الصهيوني.

وبالمقابل هنالك الكثيرون ممن يعتبرون أن النظام السوري قد كذب من خلال سرقته الشعار الأهم وهو ‘المقاومة’ بالإدعاء بأنه هو ‘النظام المقاوم’ والتلاعب بالتالي بعواطف الشعوب، في حين أن هذا النظام وعلى مدى أربعين عاماً، كان الحارس الأمين على هدوء جبهة الجولان المحتل وجَعْل الحياة في المستعمرات الإسرائيلية هناك حياة طبيعية وآمنة. إن شعار ‘النظام المقاوم’ يعكس ترابط الملف السوري والإيراني وحزب الله.

فالنظام السوري في الحقيقة ليس نظاماً مقاوماً، ولكنه يحاول أن يستمد تلك الصفة من خلال تحالفه مع حزب الله وهو الحزب المقاوم. والدعم لحزب الله يأتي من إيران أكثر مما يأتي من سوريا، ولكن إيران لم تحاول مع ذلك أن تستغل تلك العلاقة للإدعاء بأن النظام الإيراني هو ‘نظام مقاوم’ . ومن ناحية أخرى، فإن إدعاء النظام السوري بأن إسقاطه سيؤدي إلى تولي الحركات الإسلامية الحكم في سوريا هو فزّاعة عفا عليها الزمن. فالمجتمع السوري هو أكثر علمانية من المجتمعات المحيطة به بحكم تكوينه الذي يعكس تعددية طائفية وأثنية ذات انتماء قومي واضح يعتبر سوريا الحاضنة القومية لما يحيط بها من دول. وهو بذلك أقل استعداداً للقبول، مرة أخرى، بنظام حكم ذي صبغة طائفية حتى ولو كان ذلك من خلال صناديق الاقتراع.

الفزّاعة الإسلامية هي محاولة بائسة تستهدف بقاء النظام الحالي من منطلق أن البديل سيكون كارثياً على سوريا وعلى المنطقة. والحركات الإسلامية في سوريا لن تكون قادرة على وراثة النظام المترنح كونها لا تنسجم مع الرؤيا السياسية لغالبية الشعب السوري وهو شعب قومي النزعة بالإضافة إلى افتقار التيار الإسلامي السياسي في سوريا إلى واقع تنظيمي مؤثر يُمَّكِنَه من الوثوب إلى الحكم في اللحظة المناسبة، كما هو الحال في أقطار عربية أخرى مثل مصر والأردن.

وانطلاقاً من حقيقة أن النظام السوري قد فقد شرعيته بعد أن تلطخت أياديه بدماء شعبه وأن سقوطه بالتالي قد أصبح قضية وقت، فقد بات من الضروري استنباط الحلول الممكنة والقابلة للتنفيذ بسرعة لتفادي المزيد من إراقة دماء الشعب السوري. إن الحديث عن حل للمعضلة السورية يجب أن ينطلق من الاعتراف بأن المشكلة الحقيقية بالنسبة لسوريا تكمن في بقاء النظام وليس في تغييره.

وإذا ما تم الاتفاق على هذا، تصبح القضية إجرائية ويصبح التعامل معها أسهل في ظل هذه الرؤيا التي تسمح بالحل الحاسم عوضاً عن الحل بالحسم و القوة. والأساس في هذا الموقف هو عدم السماح بتدويل الحل في سوريا بعد أن تم العمل وبمساعدة عربية واضحة ومبكرة على تدويل الصراع.

استحضار التجربة اليمنية قد يعطي مؤشراً على حل ممكن يبتدئ بالتخلص من الرموز الأساسية للنظام ، بما في ذلك رموز عائلة الأسد من خلال نفيهم إلى دولة مثل روسيا، واتفاق كافة الأطراف السورية الفاعلة في الداخل على مرحلة انتقالية يتم من خلالها العمل على تفكيك النظام ومؤسساته الأمنية بشكل سلمي وتدريجي قد يزيل مخاوف الطائفة العلوية من ردة فعل انتقامية في حال ما تم إزالة النظام بشكل كامل وعنيف ودفعة واحدة. المطلوب من الطائفة العلوية ابتداءً أن تأخذ مواقف علنية تؤكد من خلالها سمو مواطنتها السورية على طائفيتها الضيقة.

وهذا سوف يساهم في تقوية عزيمة الطائفة على ممارسة الضغوط على رموز النظام للتنحي منعاً لتفاقم الأمور بشكل عنيف ودموي وانتقامي ضد الطائفة العلوية. المعضلة ليست في تغيير النظام، وإنما في مستقبل سوريا وموقعها من المصالح الوطنية لهذا الطرف أو ذاك.

وهنا تكمن نقطة الخلاف الرئيسية بين أمريكا وروسيا. ويبقى الموضوع الأهم بالنسبة للسوريين والعرب متمثلاً في الحفاظ على وحدة أراضي سوريا الحرة الديمقراطية القادرة على لعب دورها التاريخي ضمن محيطها العربي باعتبارها قطباً جاذباً جامعاً وقائداً. هذا هو مطلب الشعب السوري ومعه الشعب العربي وهو بالتأكيد يختلف عن المطلب الأمريكي والمطلب الروسي.


*نشر هذا المقال في جريدة القدس العربي اللندنية بتاريخ  10/ 6/ 2012