د.لبيب قمحاوي

هل وصل العرب إلى مرحلة الترّحم على الأنظمة الديكتاتورية البائدة؟ وهل فشل العرب في معركة الإصلاح والتغيير كما فشلوا في معاركهم الأخرى بما في ذلك الحرب والسلام؟.
من الواضح أن الحكام العرب المستبدين، البائدين منهم والباقين، قد وضعوا شعوبهم أمام خيارات مستحيلة: إما الاستقرار والأمن مع بقاء الاستبداد والفساد، أو التغيير مع كل المخاطر التي قد يحملها البديل المجهول، خصوصاً أن انهيار النظام الاستبدادي يحمل في طياته احتمالية انهيار مؤسسات الدولة التي تم ربطها بالنظام بشكل شبه كامل يفرغها من محتواها في حال انهار ذلك النظام. وفي المقابل، خلت الساحة السياسية العربية من قوى منظمة ومؤثرة باستثناء الإسلاميين. وتميز العمل السياسي بضعف واضح في بنية الحركة الوطنية. فالأحزاب والتنظيمات القومية واليسارية، وكمحصلة لعقود من الاضطهاد والملاحقة حيناً، والعمل في ظل الحاكم المستبد وكامتداد له حيناً آخر، أصبحت عبارة عن بقايا أحزاب وتنظيمات تفتقر إلى امتداد حقيقي ومؤثر في عمق المجتمع الذي تنتمي إليه.
وقد ترافق هذا الوضع مع تًمًكـُّن الإسلاميين من الارتقاء إلى سدة الحكم في مصر وتونس وتزايد حملات التخويف من احتمال وصولهم للحكم في أقطار عربية أخرى. وهذا هو المجهول الأكبر الذي يبدو أنه ساهم في عزوف العديد من القوى المدنية والعلمانية والقوى غير الإسلامية عن تأييد جهود التغيير والإصلاح في أكثر من بـلد عربي. وهذا الوضع يبدو واضحاً وجلياً في سوريا وإلى حد ما في الأردن.
ومع ملاحظة الفرق في أن الحركة الإسلامية والتي كانت العدو المُعلـَن للنظام السوري على مدى أربعة عقود لم تكن تحظى بأي وجود مؤثر أو فاعل عشية انطلاق الثورة في سوريا. في حين أن الحركة الإسلامية والتي كانت الحليف المُعلـَن للنظام الأردني على مدى ما يزيد عن ستة عقود لم تقد الثورة الاحتجاجية في الأردن بل التحقت بها بعد أن اكتسبت أرضية ودعما شعبيا.
وقد استعملت الأنظمة المعنية الخطر الإسلامي كفزَّاعة في محاولة منها لخلق حالة من التخوف من المجهول الإسلامي بين أوساط علمانية أو غير إسلامية وبالتالي خلق مزاج عام يفضل الاصطفاف مع الأمر الواقع كوسيلة للحد من خطر ذلك المجهول الإسلامي. فالنظام السوري عوضاً عن احترام مطالب شعبه في الإصلاح الديمقراطي، لجأ إلى تخويف شعبه والعالم الخارجي من خطر تنظيم القاعدة الذي، كما ادعى في حينه، قد نجح في اختراق صفوف الثوار والتغلغل فيها. والنظام الأردني في المقابل حرص على خلق نمطية ثنائية تنحصر في الخيار بين النظام ومؤسساته أو تولي الحركة الإسلامية مقاليد الحكومة وبالتالي احتمال أسلمة الدولة.
وقد اختار كل من النظامين السوري والأردني المسار الخاص به. فقد اخترع النظام السوري الخطر الإسلامي، في حين أن النظام الأردني قد بالغ فيه. وفي كلا الحالتين لم يكن الهدف منع خطر الإسلام السياسي بل منع التغيير والإصلاح الحقيقيين. وقد ساهم في تعزيز مقولة وجود هذا الخطر، السلوك الأناني الذي انتهجه نظام الحكم الإسلامي في مصر في محاولاته المتكررة لاحتكار السلطة وأسلمة الدولة وهي محاولات ما زالت مستمرة، مما أعطى مؤشراً على ما يمكن أن تصبح عليه الأمور وعزز مخاوف معظم القوى المدنية وغير الإسلامية في دول العالم العربي من عواقب تولي الإسلاميين الحكم.
إن استعمال النتائج السلبية لتولي الحركات الإسلامية الحكم في بعض بلاد الربيع العربي كعذر لمنع التغيير والإصلاح عوضاً عن العمل على إرساء دعائم التعددية السياسية الحقيقية ومدنية الدولة كوسيلة لمجابهة ذلك الخطر، إنما يعكس النوايا السيئة لتلك الأنظمة المعنية ورغبتها الدفينة في تضخيم خطر الإسلام السياسي واستعماله للالتفاف على المطالب الشعبية في الإصلاح والتغيير.
إن هذا النهج التخويفي يأتي منسجماً مع نهج إضعاف الدول العربية والذي يحظى بأولوية لدى دول الغرب وأمريكا. وكان على الإسلاميين أن يعوا ذلك وأن يتخلوا عن أنانيتهم وينظروا إلى دورهم في هذه الحقبة باعتباره مكملاً لإرادة الشعب ومطامحه وآماله وليس محتكراً لها. فالواجب الأول على الحركات الإسلامية هو أن تكون أحد أدوات حماية الاستقرار الوطني والوحدة الوطنية والتحول السلمي نحو الديمقراطية في الدول التي ينتمون إليها. ولكن طريقة إدارة الإسلاميين للحكم في مصر، وإلى حد ما في تونس، جاءت لتزيد من عدد المتخوفين من تداعيات استلام الإسلاميين للسلطة في الدول التي ينتمون إليها وأعطت بُعداً عملياً للمقولات النظرية التي تتبناها العديد من الأنظمة المعادية للتغيير والإصلاح باعتبار ذلك المسار طريقاً نحو الانفلات الأمني وانهيار اقتصاد الدولة ومؤسساتها .
ولو دققنا ملياً في الوضع السوري مثلاً لاتضح أن إمكانات الإسلاميين للتغلغل في صفوف الثورة السورية كانت ضعيفة لأسباب تاريخية وما كان يمكن أن تتم إلا بدعم خارجي سواء أكان ذلك الدعم قادماً من دول الجوار أو دول أخرى. فسوريا كانت قبل عامين تخلو من الإسلام السياسي وكانت دولة قومية علمانية في المنظور العام. ما الذي حصل وجعل تواجد الإسلاميين ضمن صفوف الثوار ممكناً وملحوظاً بل ويشكل خطورة على دول الجوار وعلى التوازن الإقليمي كما تدعي بعض دول الإقليم وبعض الدول الغربية؟ ولماذا الآن على الرغم من أن الحلف القوي والاستراتيجي الذي ربط سوريا بإيران الإسلامية وحزب الله الإسلامي ولعقود خلت لم ينعكس ايجابياً على وضع الإسلاميين في سوريا وبقيت سوريا خالية من الإسلام السياسي؟. يبدو من المنطقي إذاً الجزم بأن الدول والقوى التي ساعدت على دخول الأفراد والمعدات من خارج سوريا إلى داخلها هي نفس الدول والقوى التي سهلت دخول بعض العناصر الإسلامية، والهدف الواضح هو ضرب استقرار سوريا في حقبة ما بعد التغيير تماماً كما يحصل الآن في مصر.
العلويون خائفون والمسيحيون خائفون والعلمانيون خائفون وسوريا الآن على فوهة بركان تماماً كما يريد الكثيرون من أعداء سوريا والأمة العربية. وهذا ليس دفاعاً عن نظام الأسد بل عن سوريا نفسها. فإضعاف سوريا في حقبة ما بعد الأسد هو الهدف المنشود من قبل بعض الدول العربية والغربية. وهذا يأتي في سياق نهج الإضعاف والتشتيت الذي يجري العمل على تعميمه في دول الربيع العربي.
والأردن ليس بعيداً عن ما يجري. فبعد أن قام النظام الأردني بتخويف الناس من خطر الإسلام السياسي، قام بالالتفاف على عملية الإصلاح مستعملاً ذلك الخطر كعذر غير معلن لممارساته تلك. وواقع الأمور يحتم علينا الاعتراف بأن قلق العديد من الأردنيين من احتمال فوز الإسلاميين بالانتخابات النيابية هو قلق حقيقي ومتزايد. وقد استعمل النظام هذا القلق كعذر للخروج بقانون انتخابات إقصائي وغير ديمقراطي هو 'قانون الصوت الواحد' حتى يضمن عدم فوز الإسلاميين بعدد كبير من مقاعد المجلس النيابي. وأكثر من ذلك إضعاف فرص وصول أي حزب أو تجمع سياسي إلى مجلس النواب بأعداد ملحوظة بهدف إنتاج مجلس نواب مطيع ومسالم مكون من أفراد وليس من أحزاب أو تجمعات سياسية. وبذلك يكون تزوير نتائج الانتخابات النيابية في الأردن قد تم في الواقع قبل إجرائها وبقوة القانون.
لا بد من الاعتراف أن هنالك ارتياح مشوب بالقلق بين أوساط العديد من القوى المدنية والعلمانية والمسيحية في الأردن لمحاولات النظام إضعاف فرص الإسلاميين للسيطرة على مجلس النواب أو لتشكيل الحكومة. سبب الارتياح مفهوم أما القلق فيعود إلى خشية تلك القوى من نجاح النظام في استعمال ذلك العذر كوسيلة للانقضاض على مطالب الإصلاح والتحول الديمقراطي ومكافحة الفساد. وقد ساهمت أنانية وقصر نظر الحركات الإسلامية في الأردن في إيصال الأمور إلى هذه النقطة من خلال فشلهم في الخروج بضمانات مُقْنِعة لباقي قوى المجتمع المدني والالتزام المعلن بعدم تفردهم بالسلطة والتعهد بعدم أسلمة الدولة. وبالإضافة إلى ذلك، فإن سلوك الإسلاميين في الأردن وتعاملهم مع باقي الأحزاب والتنظيمات كان في صلبه سلوكاً احتوائياً انطلاقاُ من الفرضية القائلة بأن الحركة الإسلامية هي بيضة القبان في الحياة السياسية الأردنية وأن كل شيء مرده إليها في النهاية باعتبارها التنظيم الأكبر الذي يملك قاعدة عريضة من المؤيدين. ومحاولة الحركة الإسلامية في الأردن الاستقواء بالخارج، والحديث هنا تحديداً عن مصر وغـــــزة، لن يساعد في حسم الأمور لصالحها، بل سوف يؤدي إلى مزيد من الشـــكوك حول نوايــــاها وأهــــدافها ويرفع بالتالي من عامل التخوف منها بين الأوساط المدنية والعلمانية.
ورغم حملات النظام الأردني على الحركة الإسلامية والتخويف من نواياها، فإن هذا لا يعني أن حلفاء الأمس قد تحولوا إلى أعداء اليوم. فهم ما زالوا حلفاء، وبرنامج الحركة الإسلامية ما زال حتى الآن تحت سقف النظام. ولكن النظام أقوى، وأجهزته متغلغلة في صفوفهم وكنتيجة لذلك تمكن النظام الأردني من استعمالهم لتخويف قوى سياسية واقتصادية واجتماعية أخرى مؤثرة في المجتمع الأردني بهدف إبعاد تلك القوى عن معسكر الإصلاح والتغيير الديمقراطي الحقيقي.
إن مغالاة النظام في استغلال المخاوف من الحركة الإسلامية قد يؤدي بالنتيجة إلى انشقاق في صفوفها حيث سيكون من الصعب جداً على القيادات الإسلامية التقليدية السيطرة على العناصر الشابة في تلك الحركة والتي لن تقبل أن تبقى أداة في يد النظام. وهذا الانشقاق سوف يؤدي إلى مزيد من التطرف والتشدد بين صفوف العناصر الشابة الغاضبة والتي تنتمي إلى جيل لا يشعر أنه مدين بشيء لنظام الحكم مما سيؤدي تلقائياً إلى دفع الأمور نحو مزيد من التطرف والعمل السري بين الأوساط الشابة المنشقة عن التيار التقليدي داخل الحركة الإسلامية.
لقد كان النظامان السوري والأردني هما البادئين في خلق هذه البلبلة، وهما بالتالي يتحملان مسؤولية الخروج منها. والمعادلة البسيطة تفترض الامتثال لإرادة الشعب خصوصاً عندما تكون المطالب منطقية وعادلة. ولكن أنانية الحكم وغرور السلطة عادة ما تدفع الأمور في اتجاهات إما دموية كما في سوريا أو معقدة وأنانية كما في الأردن.


 

*نشر هذا المقال في جريدة القدس العربي اللندنية بتاريخ  14/ 1/ 2012