تجري الأمور الآن في عالمنا العربي وسط دوامة من التساؤلات والمخاوف يتم التعبير عنها بشكل مبهم. والتخوفات من نتائج هذا الوضع تبعث على القلق لدى الكثيرين. فالمعظم يتساءل عما يجري سواء أكان ذلك في مصر أو سوريا أو اليمن أو ما هي نهاية المطاف في ليبيا وتونس، أو ما هو وضع الأردن وما هو مستقبل السعودية، وهل حزب الله مثلاً في منأى عن العواصف، إلى غير ذلك من الأسئلة القلقة والمقلقة. وغموض الوضع فتح الباب أمام الكثير من التساؤلات والتكهنات التي هي أقرب ما تكون إلى الشائعات أو عملية جلد الذات. وأصبح الشك في جدوى الربيع العربي والتشكيك في نتائجه أمراً يتداوله الكثيرون سواء أكان ذلك عن خوف أو جهل أو قناعة. وامتلأت الساحة العربية بما يمكن أن يسمى طوفاناً من الهمهمة التي لا تعني شيئاً وإن كانت تصدر ضجيجاً هامساً. ما هي حقيقة ما جرى ويجري؟ وإلى أين نحن متجهون؟ سؤالان بسيطان وواضحان جداً وإن كانت الإجابة عليهما أبعد ما تكون عن البساطة والوضوح. دعونا نتلمس الطريق بجدية وإخلاص وطني دون انحياز مع أحد أو ضد أحد بهدف الوصول إلى الحقيقة، وبحيث نقترب من الضوء في نهاية النفق المظلم بأقرب ما تسمح به المسافة الجدلية التي تبعدنا عنه. المشكلة ابتدأت تاريخياً مع القضية الفلسطينية حيث أصبح من الضروري السيطرة على سياسات ومقدرات الدول العربية، خصوصاً، المحورية منها مثل مصر والعراق وسوريا وذلك حفاظاً على أمن إسرائيل. وفي ذلك الحين كانت وسيلة السيطرة تلك من خلال انقلابات عسكرية متلاحقة أدت إلى تدمير الديمقراطية الوليدة في دول العالم العربي وطرح مبدأ الديكتاتورية العسكرية كبديل أساسي لمواجهة الخطر الإسرائيلي خصوصاً وأن النموذج القائد لهذا الخيار كان نموذجاً وطنياً ملهماً تمثل في حقبة الرئيس جمال عبد الناصر في مصر. وأصبح هذا النموذج الرائد منارة لباقي الدول العربية وانهمرت الأنظمة العسكرية الديكتاتورية على المنطقة، وفي نهاية المطاف، مات عبد الناصر ومعه الناصرية وبقيت تلك الأنظمة وأخذت تتطور وتطور نفسها لتنتهي بإبداع دكتاتوري فريد في تاريخ العالم الحديث، باستثناء كوريا الشمالية، وهي الأنظمة الجمهورية الوراثية كما تجسدت في ليبيا وسوريا واليمن ومصر وتونس وغيرها. أنظمة دكتاتورية جمهورية تريد أن تصبح وراثية مع أنها ليست ملكية. انفصام واضح في هوية الحكم بين الجمهورية الثورية والحكم الوراثي أعقبه شذوذ أوضح في السلوك السياسي والأخلاقي لتلك الأنظمة.
أما ما تبقى من الأنظمة الملكية في دول العالم العربي، فكانت تبحر في بحر الثورات المتلاطم طالبة النجاة من خطر الانقلابات، وفي سبيل ذلك ارتمت في أحضان أمريكا والغرب طالبة الحماية والنجاة. وبالطبع فإن لكل شيء ثمن، خصوصاً في السياسة. فبينما دفعت الشعوب الرازحة تحت نير الديكتاتوريات العسكرية الثمن من حريتها وكرامتها وحقوقها، دفعت الدول التي تحكمها الأنظمة الملكية الثمن من خلال تبني سياسات التبعية لأمريكا والغرب مقابل الحماية والاستمرارية على العروش. معادلة عجيبة غريبة، دفعت ثمنها الشعوب في كلا الحالتين. وكان من الطبيعي أن ترافق هذه الحالة المتقدمة من العهر السياسي حالة مماثلة من الفساد المالي تفاقمت إلى أن أوصلت المنطقة إلى بداية الطوفان حيث انفجرت الأوضاع في تونس وتلتها مصر ومن ثم دول أخرى في المنطقة.
إذن عملية التوصيف واضحة، أنظمة جمهورية استبدادية ذات أصول عسكرية وانقلابية تريد أن تصبح أنظمة جمهورية وراثية. وأنظمة ملكية مطلقة تريد أن تـُجَمِّل نفسها و أن تواكب العصر وتصلح من وضعها الاستبدادي المطلق انطلاقاً من أنها تملك شرعية التوريث. والمغرب وعُمان وإلى حد ما السعودية والأردن هي أمثلة واقعية على هذا المسار. الضربات الاستباقية الملكية، وإن كانت متواضعة نسبياً وبدرجات مختلفة، هي ما يميز تحركات تلك الأنظمة الملكية. وفيما تتلو الأنظمة الملكية دعاء النجاة والسلامة وتحاول شراء الوقت بالتنازلات السياسية حيناً والرشوة أو القمع أحياناً، تقوم الأنظمة الجمهورية المستبدة بذبح شعوبها على قرع طبول شعارات الوطنية والمقاومة والحق الأزلي للزعيم الخالد في الحكم مدى الحياة ومن بعده أولاده. وعلى أي حال، فإن لكل من النظامين الجمهوري والملكي صفة مشتركة تتمثل في الاعتماد في سيطرتهما على شعوبها على جهاز أمني قمعي متطور أصبح يشكل عماد النظام السياسي بل والدولة نفسها.
إذا كان هذا هو التوصيف عشية انطلاق ثورات الإصلاح والتغيير العربية والتي اصطلح على تسميتها بالربيع العربي، فما هو مدى ترابط هذا التوصيف بتطور الأمور كما نراها الآن؟
لقد ارتفعت مؤخراً أصواتٌ كانت هامسة تشكك في وطنية الحراك الشعبي أو جدواه وتحاول الإيحاء بأن هنالك أصابع أجنبية وراء هذا الحراك. من الخطأ، بل من الإجرام، الإدعاء بأن انطلاقة الثورات الشعبية في تونس ومصر وما تلاها من ثورات هي من صناعة أجنبية، وبالتحديد أمريكية. والوصف الأدق لما حصل هو أن ما جرى قد صَدَمَ صُنَّاع القرار الأمريكيين والغربيين وأجبرهم على البدء بإعادة تقييم سياساتهم في المنطقة. وهذا أمر طبيعي في سلوك الدول الكبرى في حماية مصالحها أولاً.
وكان من النتائج الفورية لما جرى محاولة أمريكا والغرب ركوب موجات الإصلاح والتغيير واستغلالها والاستفادة منها بأقصى درجة ممكنة. وكانت الذرائع للوصول إلى ذلك الهدف متعددة وإن كان أهمها الحكام الفاسدون أنفسهم أو مؤسسات الحكم الهالكة والمستهلكة والتابعة لتلك الأنظمة. وقد تم استعمال أنانية أولئك الحكام ودمويتهم للوصول إلى تلك الأهداف. فمثلاً لولا غباء ودموية القذافي وعائلته ونظامه لما وجد الغرب ذريعة تسمح له بالتدخل العسكري والسياسي المباشر تحت غطاء حماية المدنيين الليبيين، مما أدى إلى تأسيس دور جديد للغرب في ليبيا كصديق للثورة الناشئة. وبنفس المقياس لولا أنانية ودموية نظام الحكم السوري لما وجدت تركيا وأمريكا والغرب عذراً لفعل ما تفعله الآن تحت شعار حماية الشعب السوري من بطش نظام الأسد. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فقد تم العمل في بعض الحالات على تسهيل سقوط الحاكم فقط. وبحديث آخر تم العمل على استبدال الحاكم وبقاء النظام ومؤسساته. وتم استعمال مؤسسات الحكم المُختـَرَقة، خصوصاً المؤسسة العسكرية والأمنية، لتسهيل ذلك تماماً كما حصل في تونس ومصر. وهذا بدوره فَرَضَ مبدأ ضرورة استمرارية الثورة منعاً لإعادة تسلل النظام البائد وأصدقائه من خلال مؤسساته التي بقيت قائمة، وبمعنى آخر فإن الثورة متعددة المراحل (Protracted Revolution) أصبحت ضرورة لازمة لاستكمال أهداف الثورة، وأكبر مثال على ذلك ما يجري في مصر وتونس والآن اليمن على الطريق. وفي حين تم اقتلاع مؤسسات النظام اقتلاعاً من جذورها في ليبيا، فإن نفس الشيء لا يمكن أن يُقال عن مصر أو تونس أو اليمن. إذاً الأسلوب الثاني اعتمد إعادة تسلل النفوذ الأمريكي من شباك النظام بعد أن تم إغلاق بابه من قبل الحراك الشعبي.
وفي كلا الحالتين الليبية والسورية تم استعمال الجامعة العربية كحصان طرواده لتبرير التدخل الخارجي في الشأن العربي وإعطاءه غطاء من الشرعية العربية. ولكن هذا لا يعني و لا يجب أن يعني أن الثوار في ليبيا أو سوريا مثلاً هم عملاء لأمريكا والغرب، بل على العكس، هم في كل الأحوال الضحية. والشعب، صاحب الولاية الحقيقية، لا يمكن لأحد أن يتهمه بالخيانة أو العمالة. و الاتهام يجب أن يوجه إلى الأنظمة التي جعلت ذلك التدخل ممكناً إما من خلال تبعيتها لأمريكا والغرب، أو من خلال دمويتها وأنانيتها ورعونتها واستهتارها بمطالب شعوبها في الحرية وتداول السلطة، وبطشها بشعبها ذلك البطش الذي فاق كل حدود.
يدور الحديث الآن عن إعادة إنتاج العلاقات العربية- الأمريكية التي كانت قائمة بين معظم الأنظمة العربية البائدة وأمريكا والغرب وبشكل يعكس المتغيرات التي واكبت ثورات الربيع العربي سواء الإصلاحية منها أو التغييرية. إن علاقة التبعية التي كانت سائدة بين تلك الأنظمة البائدة وأمريكا يجب أن تستبدل بعلاقة الندية المبنية على المصالح المشتركة وحماية الحقوق العربية واحترام ثوابتها. أما اختصار الدولة بأكملها في شخص الحاكم المستبد فهذه حقبة قد انتهت، وإذا لم تفهم أمريكا ذلك، فإنها أمام مفاجأة يُعْتَدُّ بها. ونفس الكلام ينطبق على الغرب بشكل عام. والفرضيات التي كان معمول بها في حقبة العهود البائدة والتي كانت من المسلمات لم تعد كذلك الآن، حتى بالنسبة للأنظمة التي ما زالت قائمة. وإذا لم تقرأ هذه الأنظمة حركة التاريخ، فإنها أيضاً سوف تصطدم بحائط كبير.
وقد نشاهد هجوماً معاكساً للالتفاف على هذا الوضع الجديد، تقوم بموجبه أمريكا، ومن ورائها الغرب والأنظمة العربية المتعاملة معها، بمحاولة التسلل إلى الأنظمة الجديدة بكل الطرق الممكنة. وقد يكون المدخل لذلك من خلال إعادة دراسة موازين القوى الجديدة داخل المجتمعات العربية، ومحاولة خلق تفاهم ما أو تحالف ما مع ممثلي القوى الجديدة الصاعدة في تلك الدول والمقدر لها الإمساك بزمام السلطة أو ببعض منه وأهم هذه القوى بالطبع هي التنظيمات والحركات الإسلامية. وفي حين أن ثورات التغيير تهدف إلى السعي للحفاظ على المصلحة العامة للوطن والمواطن، فإنه لمن المؤكد أن تتعارض المصالح الأمريكية والغربية مع هذه الرؤية مما يتطلب من هذه التنظيمات والحركات المقدر لها الإمساك بزمام السلطة الارتفاع إلى مستوى مسؤولياتها الوطنية والقومية، والابتعاد عن المنطلقات التي تستند إلى المصالح الضيقة، خصوصاً وأن قوى الحراك الشعبي داخل كل مجتمع عربي سوف تكون بالمرصاد، عاجلاً أم آجلاً، لأي محاولات التفافية على المصلحة العامة من قبل أي تنظيم أو حركة، إسلامية كانت أم غير إسلامية. واستطراداً، فإن تطور الأمور يشير إلى أن مستقبل باقي الأنظمة العربية هو في الميزان. لا يوجد هنالك نظام عربي في مأمن من حركة الإصلاح والتغيير. فما جرى حتى الآن قد أدى إلى إطلاق قوى الإصلاح والتغيير الكامنة داخل كل مجتمع عربي. وهذا بحد ذاته ابتدأ يسري كالنار في الهشيم في سائر أرجاء العالم العربي وعكس نفسه بوضوح في إعادة بعث وتأكيد الرابطة العربية القومية من منبعها وهو القاعدة الجماهيرية. ومع أن الأنظمة العربية، البائدة منها أو الباقية، قد عملت جاهدةً على تدمير هذه الرابطة منذ ما يزيد على أربعة عقود، إلا أن عودة اللحمة القومية إلى جماهير الأمة العربية المطالبة بالإصلاح والتغيير قد ساهم في تعزيز وتأكيد الرابطة القومية العربية وأن هذه الأمة لها مصالح مشتركة وأهداف متكاملة وأعداء مشتركين. وأصبح ما يصيب الثورة في تونس، مثلاً، أو مصر أو ليبيا أو اليمن أو سوريا محط اهتمام باقي الجماهير العربية. وتولد هنالك قناعة عامة لدى الشعوب العربية بوحدة المصير وأن نجاح ثورة التغيير في بلد ما سوف ينعكس ايجابياً على باقي البلاد العربية والعكس صحيح. إن هذا التطور لم ينحصر بالجماهير فقط، بل أيضاً في أهم تيار سياسي في العالم العربي هذه الأيام. لقد أدى الربيع العربي إلى إعادة ربط التيار الإسلامي في العالم العربي بمحيطه العربي على حساب بعده الإسلامي الإقليمي والدولي. ومع أن ثورات التغيير والإصلاح العربية قد ابتدأت ونجحت بمعزل عن جهود الحركة الإسلامية، إلا أن أهم المستفيدين من نجاح تلك الثورات والديمقراطية التي تمخضت عنها كانت هي الحركات الإسلامية. وهذه الحركات بذلك لا تدين بالفضل في الوصول إلى ما وصلت إليه إلى صفتها الإسلامية أو إلى دعم يأتيها من دول العالم الإسلامي، ولكنها تدين بالفضل بالدرجة الأولى إلى كونها حركة عربية (سواء أكانت تونسية أو مصرية أو مغربية أو ليبية... الخ) تحمل إيديولوجيا ذات طبيعة إسلامية، وليس لكونها حركة إسلامية تحمل هوية عربية. الفرق واضح بين الاثنين وهذا من شأنه أن يغير الموازين ويدفع الحركات الإسلامية إلى التصرف ضمن متطلبات ومستلزمات محيطها العربي. وهي بذلك عليها أن تلتفت إلى الداخل وتتأقلم معه عوضاً عن النظر إلى الخارج بهدف تغيير الداخل وتطويعه.
ومع أنّ الخلفية التاريخية للحركات الإسلامية متناقضة سياسياً مع الحركات القومية، إلا أن الحركات الإسلامية لم تر النجاح السياسي إلا في رحم الربيع العربي الذي أدى إلى إعادة انبعاث الرابطة القومية العربية وما تمخض عنها من ديمقراطية سمحت لتلك الحركات، ومن خلال ممارسة حقها المواطني في ظل نظام ديمقراطي، بالصعود إلى دفة القيادة السياسية في العديد من الدول العربية. إن إعادة العروبة إلى الحركات الإسلامية في العالم العربي وجعل الوطن العربي، وليس دولاً مثل إيران أو تركيا، هو عمقها الاستراتيجي ومرجعيتها السياسية، قد يكون من أعظم انجازات الربيع العربي.
الربيع العربي ابتدأ بداية وطنية شريفة وسيؤدي إلى نهاية وطنية شريفة، وما بينهما مخاض مرعب يتطلب من الجميع الحذر والانتباه لأن من يريد إفشال الربيع العربي وأهدافه الوطنية كثيرون وهم الطرف الأقوى. وهذا الطرف هو عبارة عن حلف غير مقدس من القوى الخارجية الأجنبية والداخلية العربية التي تنتمي إلى الماضي الأسود، وعلى الشعب أن يحمي نفسه بنفسه.


 

 

*نشر هذا المقال في جريدة القدس العربي اللندنية بتاريخ  4/ 12/ 2011