د. لبيب قمحاوي

هَمَسَ الديبلوماسي الأوروبي المخضرم برأيه عندما كان يجيب على سؤال عن مستقبل الأردن، مؤكداً أن هذا البلد مقبل على أحداث جسام وأن النظام قد تجاوز حدود المعقول في تعامله مع مجريات الأمور داخلياً وبلغت به الجرأة إلى حد الاستئثار بكل مفاتيح السلطة علناً وبشكل فاق ما كان عليه الوضع في الأردن في أي وقت مضى. كلام صريح وخطير صادر عن دبلوماسي مخضرم، ولكن لماذا الآن؟

تعَرﱠض الأردن في الشهر الأخير لعاصفتين سياسيتين لم تكونا في الحسبان، وكان لهما  أثراً صادماً على المجتمع الأردني . الأول يتعلق بالتعديلات الدستورية الأخيرة التي شَرﱠعَت صلاحيات جديدة للملك، والثاني يتعلق بدور أردني علني في التحالف العالمي الجديد بقيادة أمريكا وحلف الناتو ضد ما يسمى “إرهاب” داعش أو ما أصبح يدعى “الدولة الإسلامية”!  كلا الأمرين جاءا كمفاجئة، إن لم يكن صدمة، للأردنيـين. ماهي حقيقة ما جرى ويجري؟  دعونا نقترب من كلا الموضوعين بهدوء وصراحة كافية لسبر الحقيقة ومعرفة الأسباب وراء كلا القرارين

جاءت التعديلات الدستورية الأخيرة في الأردن لتصب مزيداً من الإسمنت على قبر الإصلاح والديمقراطية إلى الحد الذي جعل المتنفذين من أتباع النظام أكثر اطمئناناً على مستقبلهم وبالتالي أكثر استفحالاً في فسادهم وتغولهم، ومؤيدي الإصلاح الديمقراطي أكثر يأساً من إمكانية الإصلاح الحقيقي وبالتالي أكثر سخطاً وغضباً وقلقاً على الوطن وعلى مستقبلهم ومستقبل أبنائهم. والنظام الأردني فشل في أن يكون عادلاً حتى في ظلمه، بل تعدى ذلك إلى أن يكون ظالماً في ظلمه لدرجة سمحت له بأن يكون انتقائياً في تطبيق العدالة على مواطنيه وفي حجبها عنهم أيضـاً. وهكذا فشل النظام في الأردن حتى في تطبيق مفهوم “العدالة السلبية” التي يُظلم من خلالها الجميع بدرجة متساوية .

بعد أن تم انتهاك جميع السلطات في الأردن، والتعدي على معظم النصوص الدستورية الناظمة للحياة السياسية، فإن مزيداً من الانتهاك لن يغير في واقع الأمر شيئاً. فالتعديلات الدستورية الأخيرة هي أقرب ما يكون إلى سلخ جلد الميت. وهي تعكس اصراراً عجيباً من النظام على التمادي في الانفراد بالسلطة بل وتحويلها من تجاوز على الدستور إلى جزء من الدستور. إن التلاعب بإرادة الشعب من خلال مجلس نواب ضعيف هو أمر مؤسف خصوصاً وأنه يهدف إلى إضفاء مسحة كاذبة من الديمقراطية على قرارات هي في أصولها غير ديمقراطية بل وتهدف إلى القضاء على الديمقراطية

بَرَعَ النظام الأردني في السنوات الأخيرة في استغلال حالة الفوضى وانهيار الأمن في العديد من الدول العربية للتأكيد أن نعمة الأمن و الاستقرار في الأردن هي من صنع النظام الذي يجب أن يُحْمَدْ ويُشكر عليهما ليلاً نهاراً باعتبارهما أعظم انجاز يمكن أن تحلم به أي دولة في المنطقة في ظل الأوضاع السائدة. ولكن الواقع مختلف عن  ذلك. فالأمن والاستقرار في الأردن ليسا من صنع النظام الأردني بقدر ما هما قراران من خارج الأردن تدعمهما أمريكا وإسرائيل والسعودية ودول أخرى والهدف بالطبع هو استقرار وأمن الحدود المشتركة بين الأردن وإسرائيل من جهة، وبقاء الأردن، كمنطقة عازلة بين اسرائيل والسعودية، هادئة ومستقرة من جهة أخرى.

إن ما تم في الأردن من تعديلات دستورية إنما جاء في حقيقته استجابة لمطالب وشروط دول خارجية مانحة وليست كما ادّعى أركان النظام بأنه قرار داخلي جاء لتدشين حقبة التحول الديمقراطي نحو الحكومات البرلمانية. لقد أصرَّت تلك الدول المانحة بعد استفحال واستمرار الفساد في الأردن على أن تكون ميزانية الجيش والأجهزة الأمنية شفافة وخاضعة لرقابة السلطات الحكومية المدنية ومؤسسات الدولة بحيث يطلع عليها البرلمان بالتفصيل ويراقب أوجه الصرف. وكان من الواضح أن ذلك لا يمكن أن يتم إلا من خلال إعادة الحياة إلى وزارة الدفاع المدنية والتي كانت موجودة منذ تأسيس الدولة وتم تجميدها لاحقاً مع اغتيال الديمقراطية في الأردن في ستينيات القرن الماضي. وهكذا، كان الحل أمام جهابذة النظام للالتفاف على ذلك المطلب الذي أصبح شرطاً لاستمرار المساعدات العسكرية هو إعادة تفعيل وزارة الدفاع بعد نزع الدسم منها وجعلها بدون سلطات حقيقية وحصر سلطات تعيين قائد الجيش ومدير جهاز المخابرات أو إحالتهم على التقاعد أو قبول استقالتهم بالملك شخصياً دون انتظار أي تنسيب من الحكومة، مع كل ما يترتب على ذلك من هيمنة مطلقة على كافة الصلاحيات التي يتمتع بها كلا المنصبين. وبحديث آخر، فإن النظام الأردني قد أخذ باليمين أضعاف ما أعطاه باليسار .

إن مثل هذا الأجراء لا علاقة له بالإصلاح أو الديمقراطية، والتعديلات الدستورية الأخيرة قد حَوَّلَتْ الأردن عملياً من نظام برلماني ملكي إلى نظام رئاسي ملكي. ودائرة الإفتاء السياسي الموجودة ضمن أوساط النظام قد أخطأت خطأ كبيراً بإلصاق تهمة الإصلاح على تلك التعديلات الدستورية. إن مستلزمات الحكومة البرلمانية الموعودة والتي استُعمِلَتْ كغطاء لتبرير تلك التعديلات غير متوفرة حالياً في الأردن سواء من ناحية الحياة السياسية أو الحزبية أو من ناحية توفر قوانين ديمقراطية ناظمة للانتخابات وتأسيس الأحزاب، بالإضافة إلى غياب أية ضمانة لرفع سطوة الأجهزة الأمنية عن الحياة السياسية في الأردن. إذاً الحديث الرسمي الأردني الذي يربط تلك التعديلات بنهج الإصلاح هو استهتار بعقل المواطن الأردني. إذ لا يوجد إصلاح أصلاً كما لا توجد نية للإصلاح كما أثبتت مجريات الأمور .

تكتمل الحلقة حول عنق الأردنيين بسرعة الضوء وبهدوء قاتل بعد أن تم تدجين المواطن تحت طائلة الخوف من المجهول إضافة إلى الخوف من الواقع السيء وتبعاته. وقد ساهم في تعزيز هذا الوضع القاتم بروز طبقة متوحشة من أصحاب المصالح والمتنفذين الذين ارتبطوا ارتباطاً عضوياً وعقائدياً بالأجهزة الأمنية والمخابراتية واعتبروا أنفسهم أوصياء على النظام وحُمَاتُـه في الوقت نفسه، ويتصرفون بطريقة استعلائية واقصائية لا تعتبر أن للمواطن الأردني العادي أي قيمة مضافة أو دور في إدارة شؤون الدولة وتوجيه سياساتها.

يتساءل الأردنيون عما يجري لبلدهم خصوصاً وأنهم يستمعون لأخبارها أو يقرؤنها في الصحف ووسائل الإعلام غير الأردنية، وفي أحيان قليلة تبث وسائل اعلام الكترونية أردنية تلك الأخبار وهي تحمل كفنها على كتفها خشية قوانين تم وضعها للحد من قدرة ذلك الإعلام على القيام بدوره بشكل كامل ومستقل. وهكذا استيقظ الأردنيون ذات صباح ليسمعوا ويقرؤا أن الأردن مقبل على دور نشط في الحملة الأمريكية – الأوروبية القادمة ضد تنظيم داعش أو ما أصبح يدعى “الدولة الإسلامية”. لقد بدأ الكثيرون بالتساؤل عن مصلحة الأردن في الدخول كطرف في حرب من نوع جديد تحت شعار مكافحة الإرهاب وهي في حقيقتها تهدف إلى خدمة أهـداف أمريكية غير معلنة في المنطقة تحت ذريعة الهجوم على إرهاب “داعش” في العراق وسـوريا . فهذه الحرب لن تكون سريعة بل ستأخذ مداها لأن الأهداف المنشودة منها تحتاج إلى وقت لخلق واقع جديد على الأرض. وأهداف العمليات العسكرية لأمريكا سوف تركز على تحجيم قدرات داعش وكبح شهيتها وفي نفس الوقت الحفاظ عليها بما يمكنها من تحقيق الأهداف المنشودة منها .

هنالك أغلبية واضحة من الأردنيين ضد داعش وما يمثله هذا التنظيم من ارهاب ورعب ومخططات مشبوهة بإسم الدين . ولكن من يضمن أن العدوان الذي يُخـَطـِط له ذلك التحالف الدولي لن يؤدي بالنتيجة إلى تقسيم العراق وسوريا، خصوصاً وأن داعش هي في أصولها صناعة أمريكية قام على تدريبها وتمويلها أصدقاء أمريكا من العرب؟

من المشكوك به أن الحقبة السياسية المقبلة وعنوانها “التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب”، وبالتحديد إرهاب “الدولة الاسلامية” أي “داعش” سوف تكون محصورة بهذا الهدف أي مكافحة الإرهاب . والأرجح أن هذه الحقبة سوف تكون المدخل لإعادة تشكيل دول المنطقة بإشراف أمريكي ومساهمة عربية واسلامية واضحة .

يبدوا أن الحملة  الأمريكيـة –  الأوروبيـة الأخيرة هي في سياق استكمال هدف تقسيم العراق بالإضافة إلى تقسيم سوريا والذي قد يكون حلاً وسطاً بعد فشل كل المحاولات للقضـاء على النظام السوري. لمصلحة من يريد الأردن إذاً أن يلعب دوراً إقليمياً يفوق حجـمه وإمكاناتـه؟ وما هي مصلحة الأردن في المساهمة في مزيد من التفكيك والتدمير لدولتين عربيتين محوريتين؟

القرار في الأردن، مثل معظم الدول العربية، فردي ولا يشعر المسؤول بأي واجب لأن يستشير مؤسسات الدولة قبل الإقدام على اتخاذ قراره، بل على العكس هو يشعر أن واجب مسؤولي الدولة تبرير قراراته وتحويلها من قرار فردي إلى خيار وطني. والنفي الحكومي للدور الأردني في المخطط الأمريكي للعدوان على العراق وسوريا تحت عنوان محاربة “داعش” جاء باهتاً وغير مقنعٍ مقارنة بمشاركة الأردن النشطة والملحوظة في مؤتمر الناتو الذي عقد مؤخراً في بريطانيا لهذه الغاية وكذلك الاتصالات الدولية الجارية حالياً والمؤتمر الذي سيعقد في السعودية لوضع الختم النهائي على المشاركة العربية – الإسلامية

إن المسار الذي اتخذه تنظيم “داعش” في التركيز على منطقة الأنبار السنية في العراق ومن ثم منطقة دير الزور السورية الملاصقة للأنبار يعطي مؤشراً على المخطط المرسوم لذلك التنظيم . فهذا المسار، على ما يبدو، كان هو المسموح به والمخطط له ولم يتعرض بالتالي لأي اعتراض أمريكي أو غربي. ولكن الاندفاع السريع نحو المنطقة الكردية في شمال العراق كان خارج حدود ما هو مسموح به ولذلك سارعت أمريكا بضرب قوات “داعش” ولكن ضرباً تكتيكياً، أو كما أوضحت وسائل الإعلام الأمريكية ضرباً ناعماً (soft bombing  ) وبشكل يوقف “داعش” دون أن يؤذيها، ولكنه يمنعها في الوقت نفسه من السيطرة على مواقع استراتيجية غير مسموح لهم بالسيطرة عليها مثل السدود المائية ومصافي النفط وكردستان العراق .

وحتى تكتمل الرؤيا لما هو مخطط له، وبالتالي مسموح به، فقد قامت داعش بالإعلان عن إنشاء محافظة جديدة تضم مناطق الأنبار السنية العراقية، والبوكمال ودير الزور السنية السورية تحت إسم “محافظة الفرات”. وفي هذا السياق، فإن الهدف هو تحويل المكون السني العراقي إلى فصيل في الحرب المذهبية الدائرة الآن في العراق . هذه الحرب التي أشعلها برنامج حكومة نوري المالكي على مدى ثمانية سنوات والذي كان يهدف إلى تحويل سنة العراق من مواطنين عراقيين إلى طائفة مذهبية واستبدال هويتهم الوطنية العراقية بهوية مذهبية سنية لتسهيل هدف تقسيم العراق إلى دويلات مذهبية أو عرقية. “محافظة الفرات” الداعشية هي مربط الفـَرَسْ . فهي تتخطى حدود سايكس –  بيكو وتعزز تقسيم العراق وتؤسس لتقسيم سوريا تحت راية “الدولة الإسلامية” على حساب دولة سورية العربية ودولة العراق العربية والخروج بالتالي بنواة دولة جديدة على أشلاء العراق وسوريا. وهذا يعني أن تهمة التقسيم سوف تلصق في النهاية بالمسلمين والعرب وليس أمريكا،  وفي هذه الحالة لا يلوم المسلمين والعرب إلا أنفسهم

إن الموقع الجيوسياسي الأردني يجعل منه ممراً وقاعدة إمـﱠا أمامية أو خلفية للاعتداءات والسياسات التي تستهدف كلاً من العراق وسوريا. فموقع الأردن المتوسط بين العراق وسوريا والسعودية وأسرائيل يعطيه أهمية كبرى سواء كمعبر للآخرين لتنفيذ اعتداءات ومخططات، أو كنقطة جذب لأشلاء من الدول المحيطة به والمرشحة للتقسيم والشرذمة. وفي هذا السياق يدور حديث هامس عن احتمال توسيع رقعة الأردن على حساب دولة أو أكثر من دول الجوار العربي فيما لو تم تطبيق مخطط إعادة رسم حدود دول المنطقة وبالتالي توسيع رقعة الأردن وتعزيز موارده المائية والنفطية وتخفيف الدسم الأردني فيه مقابل استيعاب الفلسطينيين من هنا وهناك ضمن لاجئين عرب آخرين عراقيين وسوريين وليبيين وغيرهم، وتحويل مجمل كوكتيل اللاجئين المتواجدين في الأردن إلى مواطنين عوضاً عن لاجئين .  نأمل أن لا يكون هذا في ذهن صانع القرار الأردني لأنه يصب في مصلحة اسرائيل أولاً وأخيراً.

ومع كل هذا وذاك فإن الأردن في مأمن من “داعش” الأمريكية ولكن ليس من دواعش أخرى يحفزها القهر والظلم والجوع والبطالة والفساد.


*نشر هذا المقال في جريدة رأي اليوم اللندنية بتاريخ  11/ 9/ 2014