د.لبيب قمحاوي

من المؤلم أن نرى الفرحة والسعادة ورقصات القلوب التي رافقت نجاح الثورة في تونس ومصر تلطخها دماء الشعوب نتيجة قرارات موتورة اتخذها بعض الحكام المستبدين الفاسدين في لحظات جنون سَولَت لهم بأنهم الأعز والأبقى وأنّ الله قد خلق الشعب ليخدم الحاكم. ولكن هل ما يشهده الوطن العربي الآن نتيجة لذلك الفعل الآثم وما تمخض عنه من نتائج سمحت لقوى دولية وإقليمية بأن تتدخل في الشأن العربي هو نهاية لتلك الثورات أم بداية لثورات مضادة، أم ماذا؟ هل انتهى الحلم الجميل وابتدأ الكابوس البشع؟ هل تم استبدال ثورة الشعوب على الحكام بثورة الحكام على الشعوب؟ وهل أصبحت ثورة الشعب في ضمير المستتر؟

أسئلة هامة ومشروعة تدور في ذهن المواطن العربي دون أن يجد لها جواباً شافياً ، خصوصاً وأن واقع الأمور والمؤشرات الإقليمية والدولية تشير إلى تزايد الدور الإقليمي والدولي في إدارة شؤون ومسار الثورات في دول عربية مثل ليبيا واليمن وسوريا وبعض دول الخليج، وانحسار عوامل التغيير المؤثرة داخل بعض الدول العربية الأخرى مثل مصر وتونس والأردن وعُمان والبحرين بحكم تدخلات إقليمية ودولية علنية أو من وراء الستار ولكن دائماً من خلال رموز ومؤسسات محلية داخلية أهمها بالطبع تلك المتصلة مباشرة برأس الحكم في كل من تلك الدول.

المقلق في الموضوع هو افتقار ثورات الإصلاح والتغيير إلى العمل المؤسسي الجماهيري . فالحشد والتعبئة الجماهيرية قد ينجحان في الإطاحة برموز الحكم القائم في دولة ما، ولكن قيادة التغيير وتحويله إلى ثورة لا يمكن أن يتم بالحشد والتعبئة فقط . هنالك حاجة واضحة إلى قيادة سياسية وعمل مؤسسي وبرنامج إصلاح وتغيير يطال كافة مؤسسات الحكم. وقد التقطت أمريكا ومن ورائها الغرب هذه النقطة بسرعة وتحركوا في اتجاه الالتفاف على تلك الثورات من خلال دعم مطالب تغيير السلطان الحاكم وبطانته فقط . بمعنى آخر، الحديث هنا عن تغيير رموز النظام وليس النظام نفسه . وقد كان وعي الجماهير المبكر بذلك وخصوصاً في تونس ومصر أمر يدعو إلى الإعجاب، ولكن الوعي لا يكفي و الإعجاب لا يصنع التغيير. وقد شاهدنا، مثلاً ، الجماهير في مصر تحاول التصدي لمحاولات المجلس العسكري الحاكم لتجاهل بعض مطالب الثورة، وقد نجحت شكلاً دون أن تنجح موضوعاً. فالسلطات الانتقالية هي في أصولها تعبير عن نظافة اليد والموقف السياسي مقابل فساد الأنظمة السابقة، ولكنها قد لا تكون قادرة أو راغبة في إحداث التغيير الثوري المطلوب في مؤسسات الحكم وسياساته. وهنا قد تكون تونس مثالاً على نظافة اليد والموقف وفقدان القدرة على مـأسـسـة التغيير، ومصر قد تكون مثالاً على فقدان الرغبة في إحداث التغيير الحقيقي إلا من خلال ضغط الشارع الذي أخذ يضعف تدريجياً تحت وطأة عوامل مختلفة أهمها الضائقة الاقتصادية والحياتية، وضعف أو غياب التنظيمات السياسية القادرة على توجيه الشارع وقيادته.

من الواضح أنّ أمريكا و الغرب الذين فوجئوا بثورة تونس و مصر ونجاحهما المدوي قد توصلوا إلى قرار ذو حدين: الأول يتلخص بضرورة نجاح الثورات العربية ضد جميع الأنظمة الجمهورية الاستبدادية تحديداً والتغاضي عن الأنظمة الملكية حتى لو كانت فاسدة أو مستبدة باعتبارها عنواناً للشرعية الدستورية والاستمرارية والاستقرار في المنطقة، والثاني يتلخص بضرورة احتواء نتائج تلك الثورات و السيطرة عليها بحيث لا يؤدي ذلك إلى المساس بالسياسات والتحالفات مع أمريكا والغرب. إن تدخل أمريكا والغرب في مسيرة ثورات الإصلاح والتغيير في الوطن العربي أصبح ممكناً من خلال سلوك بعض الحكام العرب. وقد تم من خلال ذلك إعادة تسلل الدور الأمريكي مرتدياً ثوب المؤيد والداعم للإصلاح والتغيير بهدف احتواء الثورات العربية والالتفاف على أهدافها. فالعملية بالنسبة لأمريكا والغرب كانت ، وما تزال، عملية تجديد شباب الأنظمة الهالكة و ليس تغييرها ، والاكتفاء بتغيير الوجوه مع المحافظة على مؤسسات و سياسات الحكم و إلباسها أقنعة جديدة . وأخذت ملامح المرحلة المقبلة وتحالفاتها الجديدة تتضح خصوصاً بعد الشلل الجزئي الذي بدأ يصيب نتائج وطموحات الثورة في مصر و ملامح الفشل الكلوي الذي ابتدأ يصيب الثورة في تونس وأثَرَ ذلك في انحسار خطر الإصلاح والتغيير تدريجياً عن باقي الأنظمة في المنطقة . وبدأ فرز الأنظمة العربية، دولياً، على قاعدة نوع النظام، ملكي أم جمهوري ، وليس ، كما يجب أن يكون عليه الحال، على قاعدة ديمقراطية النظام وشفافيته واحترامه لحقوق الإنسان.

إنّ ربيع العرب، كما يسمى الآن ، وفي التسمية ما يوحي بالكثير ، حيث أن فصل الربيع هو أقصر فصول السنة وهو مخترق في بداياته من فصل الشتاء وفي نهاياته من فصل الصيف، هذا الربيع يشهد هجمة كبيرة مختلطة من معظم القوى الدولية الفاعلة ، وبشكل يوحي و كأن المشكلة كانت دائماً محصورة بأولئك الحكام العرب المستبدين و الفاسدين . إنّ أولئك الحكام ما كان لهم أن يستمروا لعقود طويلة دون دعم بعض القوى الدولية ، و أهمها أمريكا، خدمة لمصالح تلك الدول على حساب الشعوب العربية . والتباكي الآن من دول العالم على المذابح التي تتعرض لها الشعوب إنما هي دموع التماسيح . فدول أمريكا وأوروبا و روسيا وحتى الصين هي في نفس موقع الملامة و الاتهام وإنْ كان بدرجات متفاوتة . و لكن في حين كانت دول العالم تعمل لخدمة مصالحها و شعوبها ، كانت الأنظمة العربية تلك تعمل ضد مصالح أوطانها وشعوبها و في خدمة استمرار وجودها الذاتي فقط.

وفي خضم هذه التطورات و التساؤلات التي ترافقها ، يبرز التساؤل الكبير و المتعلق بنمط التحالفات العربية الجديدة في حقبة التغيير هذه وما تمخض عنها من غياب أنظمة عربية كانت تتحكم بمقاليد دول مؤثرة مثل مصر و ضعف أنظمة أخرى قد تكون آيلة للسقوط كما في سوريا . و ما هي علاقة المصالح التي تربط هذه الأنظمة بعضها ببعض وتجعل من أعداء الأمس حلفاء اليوم ؟ المعادلة الجديدة تبدو واضحة . فحلاوة الروح جعلت الجميع يعيدون النظر في حساباتهم وتحالفاتهم . ويجيء هذا التحول تحت ضغط المتغيرات التي تعصف بالمنطقة منذ ثورة تونس وما تزال، وما تبعها من أحداث في الأردن والبحرين والمغرب وعُمان لتعطي مؤشراً سريعاً على أن الأنظمة الملكية ليست في مأمن من عواصف التغيير. وكان واضحاً أن الاستبداد والقهر والفساد هي أمور لا تنحصر، من منظور الشعب، بالأنظمة الاستبدادية الجمهورية، بل تشمل أيضاً كافة الأنظمة العربية بما فيها الأنظمة الملكية. و دق ناقوس الخطر وابتدأ الرعب يسري في عروق الأنظمة الملكية التي اعتبرت أن فساد وبطش الأنظمة الجمهورية وحبها للسلطة وتوريث الحكم لأبنائها قد فتح باب الثورات والتغيير . وكأن الأنظمة الملكية وصلت إلى قناعة بأن تقديم الأنظمة الجمهورية المستبدة ككبش فداء قد يؤدي إلى تنفيس الاحتقان وجعل التغيير مقتصراً على تلك الأنظمة من منطلق أنها هي الدموية والفاسدة والفاقدة للشرعية والمستبدة وأن الأنظمة الملكية شرعية وهي علامة الاستقرار والاستمرارية . وحتى تنجح هذه الإستراتيجية كان لزاماً أن لا يسقط أي نظام ملكي تحت ضربات التغيير. وهكذا تم انقاد البحرين من خلال التدخل العسكري المباشر المعلن والمخفي ، وتمت مساعدة عُمان والأردن في محاولاتها للتغلب على تململ شعوبها . ومن ناحية أخرى، كان يجب العمل على ضم كل الأنظمة الملكية في نادي واحد أو حلف من نوع ما يوطد هذه الرابطة ويجعل من الممكن الولوج في خطط تعاون ودفاع مشترك مع بعضها البعض تحت مظلة ذلك الحلف أو تلك الرابطة وبشكل لا يجعل هنالك أي داع ٍ لتبرير ذلك التدخل ، إن حصل ، باعتباره انعكاساً للعلاقة الأمنية بين دول الحلف . وكان الخيار بالطبع هو مظلة مجلس التعاون الخليجي والذي أصبح أسمه لا ينسجم مع واقعه الجديد.

فالأنظمة الملكية أرادت أن تستبق مطالب الإصلاح والتغيير الشعبية بتنازلات وقرارات ورشوات تكون ضمن السقف المقبول لتلك الأنظمة . وأخذ الوضع يسير في هذا الاتجاه ، خصوصاً وأن الرعاية الأمريكية و الغربية لاحتواء موجة التغيير والسيطرة عليها كانت سريعة في استجابتها و في تحركها في اتجاه التضحية بالأنظمة الاستبدادية الجمهورية ودعم الأنظمة الملكية . وبدأ حلف الأنظمة الملكية في البروز، وكان من الطبيعي أن يبحث هذا الحلف عن نقطة ارتكاز، وكان من المنطقي أن يكون مجلس التعاون الخليجي هو تلك النقطة . فهذا المجلس المتجانس جغرافيـّاً وثقافياً وسياسياً ومالياً هو أيضاً حلف يحتوي في عضويته على أنظمة ملكية حصراً ويحظى في الوقت نفسه بدعم أمريكا والغرب. وكان من المتوقع أن يتم استدعاء الدولتين العربيتين الوحيدتين المتبقيتين خارج هذا المجلس وتحكمهما أنظمة ملكية، وهما تحديداً الأردن والمغرب. وانتهت بذلك علاقة الجغرافيا والمال التي صبغت مجلس التعاون الخليجي . ورسالة الحلف الجديد واضحة جداً على المستوى العربي وهي أن الشيطان هو في الأنظمة الجمهورية الديكتاتورية المستبدة وأن الأنظمة الملكية هي عنوان الاستقرار والرحمة والتعاطف، وابتدأت وسائل الإعلام والفضائيات الممثلة لتلك الأنظمة تعكس هذا المنحى الجديد وساهمت بالتالي في فضح الوسائل الدموية للأنظمة الجمهورية المستبدة في التعامل مع شعوبها، وفي إخفاء أي اضطرابات قد تكون في الدول المحكومة بأنظمة ملكية. وهذا النهج الإعلامي لا علاقة له، بالتالي، بالوطنية أو عدمها، كما يحلو للبعض أن يعتقد. أما على المستوى الدولي فهذه المجموعة من الدول هي تاريخياً تحت الحماية والرعاية الأمريكية ولن تسمح أمريكا بالتالي بسقوط أي نظام ملكي عربي خوفاً من انتقال العدوى وخسارة حلفاء تاريخيين لا يمكن تعويضهم خصوصاً وأن أيديهم على منابع النفط في منطقة إستراتيجية ثبت أن محاولات تمزيقها إلى دويلات سوف يؤدي إلى تدمير استقرارها وجعلها نقطة ارتكاز لأعمال ما يسمى بالإرهاب الدولي و النشاطات المضادة لإسرائيل وأمريكا. ومن هذا المنطلق كان حرص أمريكا والغرب على توسيع الإطار السياسي لهذه الدول الصغيره في حجمها وجمعها في هيكلية تضم كافة الأنظمة الملكية في المنطقة . ويستطيع أي مدقق لطبيعة هذه العلاقة ضمن إطار مجلس الملوك والأمراء العرب أن يرى وراء الأكمة الفلسفة التي تقود هذا المجلس العتيد والمتمثلة بشعارين قديمين، الأول: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً" ، والثاني: "أُكِلـْتُ يوم أُكِلَ الثورُ الأبيض". وأصبح بالتالي تفسير العلاقة الجديدة داخل مجلس الملوك و الأمراء العرب سهلاً ، "لكل حسب حاجته ومن كل حسب إمكاناته". فالنفط مقابل المال، والمال مقابل الأمن. الأردن "مثلاً" يعطي الدعم الأمني لمن يحتاجه من دول المجلس، و يأخذ في المقابل ما يحتاجه من المال حتى يبقى قادراً على البقاء والاستقرار. إن ما يحكم العلاقة بين دول مجلس التعاون الخليجي سوف يعتمد بشكل أساسي على متطلبات العلاقة بين أنظمة دول المجلس وليس شعوب دول المجلس، ومن هنا فإن تغيير صفة مجلس التعاون الخليجي وديناميكية العلاقة بين دوله وأنظمته لن يكون مدخلاً إلى إصلاح سياسي بهدف تيسير أمور الشعوب اللهم إلا بالقدر الذي يكون ذلك ضرورياً لتسهيل العلاقة وتبادل المنافع والخدمات بين الأنظمة الحاكمة للدول الأعضاء في ذلك المجلس.

إن هذه الرؤيا تصف واقع الحال و تهدف إلى تعزيز القدرة على استيعاب حقيقة ما يجري، وبالتالي، فهم الأبعاد الحقيقية لعديد من القرارات والسياسات التي بدأت تطفو على السطح . وفي النهاية يبقى القرار و المصير بيد الشعب بغض النظر عن ما يريده الحكام أو أمريكا وحلفائها.


نشر هذا المقال في جريدة القدس العربي اللندنية بتاريخ  20/ 6/ 2011 .