د. لبيب قمحاوي

يتصرف معظم المسؤولين الأردنيين وكأن الأردن من دول الإقليم الكبرى ويغالون بالتالي في تقييم أنفسهم ومواقعهم وأهميتهم إلى الحد الذي يبعث على الأسى والشفقة. وكل من يلتصق بالنظام ومؤسساته يجرع من نفس الكأس. وقد ساهم في تفاقم هذه العقدة، التي أصبحت تميز الدولة الأردنية، غياب أي قدرة أو وسيلة للشعب الأردني لإختيار المسؤولين ذوي الكفاءة أو لمحاسبة أو معاقبة أو كبح جماح أولئك المسؤولين الذين يفتقدون إليها والحد من شططهم . وهكذا تم التزاوج القسري بين غياب الكفاءة وجنون العظمة والشعور بفوقية جامحة تجاه الشعب ووطنية زائفة متسلطة تجنح إلى المغالاة والترهيب، لنخرج من كل ذلك بمعادلة أسماها البعض 'المراهقة السياسية' وهي أقرب ما تكون إلى 'الجنون السياسي'.
هل صحيح ما يشاع ويقال أن المحطة القادمة في مسلسل التغييرات الإقليمية هي الأردن؟ وأن الأردن بصدد لعب أدوار إقليمية مؤثرة إن لم تكن خطيرة، خصوصاً في سوريا، وبإيحاء ودعم خارجيين؟ كلام خطير والحديث فيه كالسباحة في وسط المحيط. وبغض النظر عن الإشارات القادمة من خارج الأردن، فالواجب الوطني والأخلاقي يتطلب النظر إلى الداخل لأن في ذلك الخلاص والقدرة على تصحيح الأمور وإنقاذ البلد والناس. المطلوب هو امتلاك الشجاعة للقول ابتداءً أن الأردن ليس ملكاً لشخص أو حكومة أو حزب أو دائرة بل هو ملك لأبنائه وأن العبث به قد يؤدي إلى تدمير الوطن على رؤوس الجميع. دعونا نقترب من المحددات الداخلية والمؤثرات الخارجية بكل آثارها السلبية والإيجابية ونتعامل معها بصراحة وشفافية دون خوف لا مبرر له أو مثبطات من نسيج الخيال أو مُحْبِطَات من واقعنا التعيس حتى نسبر غور المرحلة وما قد يتمخض عنها من نتائج.
على الرغم من أن هنالك إجماع واضح على شرعية نظام الحكم في الأردن وعلى استمراريته، إلا أن هنالك العديد من الأمور التي تثير خلافاً وجدلاً وطنياً: حول سلوك النظام وسياساته - الغامضة حيناً والمرفوضة أحياناً- وخياراته، وانتقائه لمسؤولين ورؤساء حكومات لا يحظون بتأييد شعبي. وهذا ما دفع العديد من الأردنيين إلى المطالبة بإصلاح النظام والحد من سلطاته المطلقة.
أساس الأزمة السياسية الداخلية في الأردن هو أن الأردن دولة أمنية مقدراتها بيد دائرة المخابرات العامة، التي تتبع نظرياً لرئيس الوزراء وعملياً للملك، مع أن في ذلك مخالفة صريحة للقانون وللولاية العامة للحكومة. إن ضعف معظم رؤساء الوزارات الأردنيين جعل من هذه المخالفة قانوناً ومن القانون مخالفة. وأصبحت سطوة مدير دائرة المخابرات العامة وسلطته أعلى من سطوة وسلطة رئيس الوزراء، وفي كثير من الأحيان كان اختيار كبار المسؤولين ومنهم رئيس الوزراء أو طرده من عمله يأتي بناء على تنسيب من مدير المخابرات العامة. كلام مؤلم وخطير ولكنه صحيح وهو في الواقع لب المشكلة. فالأردنيون ابتدأوا في التململ بعد أن استفحل الطوق الأمني حول أعناقهم وأصبحت مقدراتهم ومستقبلهم ومستقبل أبنائهم وقدرتهم على العمل أو التعلم وإمكانية وصولهم إلى المنصب العام بيد دائرة المخابرات وليس نتيجة تنافس شريف أو كفاءة، بل نتيجة تنسيب جهاز المخابرات العامة بالقبول أو الرفض. وهكذا ابتدأ الشعور العام بضرورة الإصلاح وتعمق الإدراك بأن الدولة الأمنية هي العدو الطبيعي للدولة الديمقراطية. وأصبح لدى الشعب الأردني نتيجة لذلك قناعة بأن الإصلاح السياسي وإنشاء الدولة الديمقراطية يتطلب تفكيك الدولة الأمنية التي تدير حالياً شؤون البلد وحياة المواطنين. إن محاولة ايجاد تفسيرات أو أعذار لما جرى ويجري، أو مبررات لسوء الوضع الاقتصادي والأمني في مختلف مناطق الأردن أمر مرفوض. فاختيار المسؤولين الكبار وصانعي القرار والحكومات برؤسائها وأعضائها أمر لا يخضع لصناديق الاقتراع أو لقوانين شفافة حتى نقبل التبريرات أو التفسيرات، ولكنه خيار واختيار شخصي مما يجعل تبعات هذه الخيارات والاختيارات من مسؤولية الجهة التي قامت بعملية الاختيار.
الشعب الأردني في حالة انفصام وهو منقسم على نفسه فأقـلية من الأردنيين ومعهم قوى الشد العكسي ينتابهم الزهو والفرح والإعجاب بقدرتهم على الالتفاف على مسيرة الإصلاح وإيقاف عقارب الساعة، في حين أن معظم الأردنيين يتملكهم الغضب أو يأكلهم اليأس والخوف على مستقبل الوطن.
من الواضح أن مجمل مسيرة الحركة الإصلاحية في الأردن تتعرض لضغوطات ومؤامرات من عدة جهات بهدف إفشالها. وهذا الوضع هو نتيجة جهد مشترك بين المؤسسة السياسية ، والمؤسسة الأمنية وقوى الشد العكسي بمباركة رأس النظام الخفية حيناً والمعلنة أحياناً. لقد نجح النظام الأردني في خلق تحالف مصلحي مكون من قوى شديدة البأس داخل مؤسسة الحكم وخارجه تسعى لإبقاء الأمور على ما هي عليه حماية لمصالحها واستمراراً لسياسة الاستهانة بالشعب ومطالبه والاستهتار بآماله. وهنالك محاولات حثيثة من قبل مؤسسة الحكم لإعادة الوضع إلى ما كان عليه: كل شيء بإرادة، حتى طلبات المعارضة لا تنفذ بإرادة شعبية، ولكن بإرادة ملكية.
هنالك ما يكفي من المؤشرات في الفترة الأخيرة تشير إلى أن نظام الحكم في الأردن أخذ يتصرف وكأن حركة الإصلاح والاحتجاجات والتظاهرات المرافقة لها قد تم احتواؤها والسيطرة عليها وأنها ابتدأت تفقد زخمها وأنها، بالتالي، في طريقها إلى زوال. وبغض النظر فيما إذا كانت تلك الرؤيا نتيجة إجراءات منظورة وغير منظورة قد يكون الحكم الأردني قد اتخذها ضد حركة الإصلاح بهدف إضعافها ، أو نتيجة عوامل ضعف ذاتية تعود إلى بنية الحركة الإصلاحية والاحتجاجية في الأردن، فإن إغفال الحكم الأردني للآثار المرافقة للتطورات الإقليمية على زخم الحركة الإصلاحية، وخصوصاً تلك الآثار المتعلقة بالبعد الإسلامي والتطورات في سوريا، قد جعل ذلك الاعتقاد أبعد عن الواقعية وأقرب إلى التمنيات.
ولكن لماذا هذا الإصرار على مثل هذا النهج السلبي تجاه حركة الإصلاح؟ كذلك لماذا لا يتعلم النظام الأردني الدروس مما جرى في دول المحيط خصوصاً وأن مطالب الحركة الإصلاحية الأردنية متوازنة ومعقولة بل وأكثر من معقولة؟ لماذا لا تتم الاستجابة لتلك المطالب خصوصاً وأنها مطالب استرجاعية بمعنى أنها تهدف إلى استرجاع ما سلبه الحاكم من سلطات الشعب وليس سلب الحاكم حقه الدستوري أو ما يعتقد أنه حقه. هل الأسباب ذاتية تعود إلى الحاكم نفسه وإلى رؤيته الخاصة وضغوط بطانته ومستشاريه لما يجب أن تكون عليه الأمور؟ أم هل الأسباب خارجية تعود إلى ضغوط إقليمية تضع الحاكم أمام خيارات وقرارات لا يملك تنفيذها إلا إذا كان حاكماً مطلقاً لا يخضع لضوابط النظام الديمقراطي؟
المطلوب من الأردن فعله على المستوى الإقليمي كان دائماً أكبر من الأردن ومن إمكانات الأردن . ومن هنا فإن قدرة الأردن على تنفيذ ما هو مطلوب منه يعتمد على الدعم اللوجيستي والسياسي والمالي والعسكري القادم من خارج الحدود الأردنية . وهذا بحد ذاته يقوي من موقف الحكم تجاه الشعب ومطالبه. وإذا أضفنا إلى كل هذا وذاك أن أولوية الحكم هي المحافظة على النظام ومصالح النظام وليس بالضرورة مصالح الوطن الأردني في حال وجود أي تعارض بينهما، فإن المعادلة تكتمل ويصبح فهم سياسات الحكم الأردني تجاه قضايا في غاية الخطورة ممكناً، وبنفس المقدار يصبح فهم الأسباب وراء موقف النظام من الشعب واعتباره كماً لا قيمة له ممكناً كون النظام ومؤسساته هم مصدر القوة وليس الشعب.
إن ما يجري الآن من تطورات إقليمية والدور غير المعلن للأردن في مثل تلك التطورات قد يفسر الكثير مما يجري والذي يبدو للبعض ألغازاً يصعب فهمها. إن تداعيات ما يجري في سوريا على الأردن خصوصاً والإقليم العربي عموماً أمر لا يستهان به. والغمز الرسمي المفاجئ بموضوع حالة الطوارئ في المملكة لا يرتبط بمسيرة الإصلاح أو قانون الانتخاب بقدر ما يرتبط بالمخططات المرسومة لما سوف يجري في سوريا. وهذا الغمز يهدف إلى إفهام القوى المعارضة لمثل هذا التدخل بأن الحكم في الأردن لن يقف عند أي حد لتنفيذ ما هو مطلوب منه إقليمياً ودولياً والذي قد يشمل تسهيل مرور الأفراد والمعدات، ومن ثم تسهيل تحويل منطقة درعا إلى ما يمكن أن يصبح قاعدة لتحرك قوى المعارضة السورية تقابلها قاعدة أخرى في حلب في الشمال. وعلى أي حال، فإن الحكم في الأردن لم يشعر في أي وقت بالحاجة إلى دعم شعبي لسياساته الخارجية بقدر حاجته الدائمة إلى عدم وجود معارضة فعالة لها.
الخيارات والمسارات أصبحت الآن واضحة، إما أن يختار النظام في الأردن مسارات تستند إلى دعم شعبي من خلال نظام ديمقراطي أو على الأقل تحظى بإطلالة شعبية تعطيها نكهة من الشرعية ، أو أن يستمر في الإصرار على أن الشرعية هي فيما يصدر عن الحكم بغض النظر عن ما يريده الشعب. خيارات ومسارات سوف تحدد مصير الأردن.


 

نشر هذا المقال في جريدة القدس العربي اللندنية بتاريخ  25/ 7/ 2012