د. لبيب قمحاوي

يحلو للبعض التذمر من مقالات أو تحاليل سياسية تتعلق بدول المنطقة وأوضاعها بإعتبارها متشائمة أو سَوْداوية وكأن هنالك محاولة مقصودة للتجني والإفتراء . المنطقة العربية ، شِئـْنا أم أبينا ، هي في وضع كارثي يتفاقم يوماَ بعد يوم . وعـدد الدول العربية المصابة في إزديـاد ولا يوجد أي مبرر يدعونا إلى التفاؤل ، اللهـم إلا إذا رغب البعض في الركوب في قطار التمنيات والأوهـام . إن دفن الرأس في الرمال لن يؤدي إلى إختفاء الخطر بقدر ما يؤدي إلى تسهيل إرتـكاب الجريمـة .

الأردنيون يرغبون بشدﱠة في إعتبار الأمن والإستقرار الذي يعيشونه حالة دائمة منفصلة عن الواقع العربي وأنها نتاج لعبقريتهم أو لحنكة قيادتهم . والواقع أن كل هذا وذاك غير صحيح . فمع أن الأردن يعيش ظاهرياً في إستقرار إلا أن فقدان الأمن الداخلي إبتدأ يعبر عن نفسه في حالات متزايدة ومبعثرة من عمليات القتل التي لا تنحصر نتائجها بالفعل الجرمي لوحده ، بل تمتد لتشير إلى أسباب وقوع الجريمة نفسها ، وهو أمر لا يبشر بالخير كون الأسباب تشير إلى خيوط التطرف التي تمتد بين الدافع والجريمة . وهذا يعكس تنامي الظروف المحلية والحياتية التي تدفع الأردنيين إلى التطرف .

إن التعامل مع الشعب الأردني بمفهوم القـَنـْص و"تكسير الرؤوس" ووضع الناس أمام الأمر الواقع دون إستشارة ودون توفر خيارات أخرى أمامهم لن يُجدي لأنه سوف يدفع المواطنين دفعاً تجاه الحركات الإحتجاجية وقنوات المعَارِضـَة المتوفرة وهي في معظمها حركات أصولية ، تتفاوت في تزمتها ونزعتها نحو العنف .

الضغط المتواصل من الحكم على الشعب وقوتـِهِ ومستـلزمات معيشتـِهِ وحرياتـِهِ الأساسية دون توفر قنوات التعبير السلمي والمؤثر وأدوات التغيير الديموقراطي لمعارضة أو رفض كل ذلك ، سوف تؤدي بالنتيجة إلى الإحتقان الذي يسبق الإنفجار . وعلائم الإحتقان ابتدأت الآن في الظهور داخل المجتمع الأردني . وتجاهل ذلك الواقع لن يؤدي إلى اختفائه كما أنه من غير المجدي أن نلوم الآخرين من الخارج على أخطاء وكوارث ترتكبها الحكومات في الداخل وتؤدي إلى إثارة غضب الجماهير ، خصوصاً وأن الأسباب في الحالة الأردنية إقتصادية وحياتية أكثر منها سياسية .

ساعدت السلبية والفراغ السياسي واللامبالاة على تشجيع العديد من المسؤولين الأردنيين وخصوصاً بعض رؤساء الحكومات على التمادي في تحميل المواطن الأردني عبأ السياسات الإقتصادية الإرتجالية والفساد والقفز بين أبواب الموازنة وتلبية تبعات الإسترضاء المالي المستعملة للتخفيف من الآثار السلبية للسياسات القهرية التي تمارسها الحكومات مثل المكرمات بأشكالها المختلفة وتكاليفها الطارئة وإستعمال أموال الضمان الإجتماعي كصندون تسليف للحكومة في نزواتها الإقتصادية ومشاريعها الفاشلة التي تـُمَوِل الفساد بطريقة أو بأخرى ، متناسين أن أموال الضمان هي من الشعب وهي عبارة عن مدخرات العاملين الأردنيين للمستقبل وليس لتمويل سياسات حكومية فاشلة وفساد وديون ورواتب تقاعدية باهظة للمسؤولين .

إن شطط الحكومة الحالية في تبني سياسات تفتقر إلى الحساسية تجاه معاناة المواطن الأردني ابتدأت تعطي نتائجها السلبية من خلال حالات متزايدة من الإنفلات الأمني والغضب الذي لم يعد مكبوتاً . بالإضافة إلى أن حالة الإنهيار المؤسسي انتقلت من الكِتـْمان إلى العلانية وأصبح الإقرار بخضوع المؤسسات التشريعية والتنفيذية لسلطة الحاكم وإرادته بالرغم مما ينص عليه الدستور ودون مواربة أو إستحياء أمراً مشهوداً على شاشات التلفزيون . وهذا يعني أن سلطة الدولة إبتدأت تتقلص لصالح إمتداد سلطة الحاكم وبشكل رسمي وعلني ، وفي ظل غياب أي تأثير للمؤسسات الدستورية مما يدفع الأمور في إتجاه قد يحول الأردن بالنتيجه إلى دولة شبه فاشلة .

إن الوهم الأناني الذي ابتدأ يصيب كبار المسؤولين الأردنيين بأن الطاعة العمياء للحاكم هي الوسيلة الأمثل للبقاء في المنصب أطول مدة ممكنة ، لن يؤدي إلا إلى الكوارث . والحكومة الأردنية الحالية ورئيسها الذي برع في تبني ذلك النهج سوف يدخل تاريخ الأردن بإعتباره المسؤول الذي ساهم في إمتداد نفوذ الحركات الأصولية في الأردن من خلال سياساته الإقتصادية والمالية التي تخلو من أي حساسية تجاه معاناة المواطن الأردني ، والتعنت والإسفاف الحكومي في التنكيل به من خلال مسلسل من الضرائب وزيادات الأسعار وحماية الفساد وتجاوز النصوص الدستورية في فرض الضرائب مما دفع الكثيرين إلى اللجوء إلى منظمات أصولية سعياً إما وراء الراحة النفسية أو للتنفيس عن الغضب . وإذا ما أراد أحد  محاسبة المتسببين في تزايد هذا المد الأصولي في الأردن فعليه البدء بأمثال أولئك المسؤولين بإعتبارهم المسببين له من خلال سياساتهم الرعناء.

الأردن لا يستطيع أن يفصل نفسه عن محيطه العربي وتداعيات ما يجري في ذلك المحيط . والإعتقاد الخاطئ بأن الحاضنة الأمريكية والإسرائيلية قد توفر له حبل النجاة من أي مخاطر مستقبلية هو أمر لا يمكن الوثوق به ولا يجوز إعتباره من المُسَلـﱠمات نظراً لأن تلك الدول الحاضنة لها مصالح قد تتغير وقد تتعارض مع مصالح الأردن ، وعندها تصبح الخيارات المفتوحة أمام الأردن محصلة لتلك المصالح حُكماً . هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإن تأثير العوامل الداخلية سواء الإقتصادية منها أو السياسية قد تضيف بُعـْداً من الصعب السيطرة عليه من قبل دول أجنبية وخارجة عن نطاق الوطن . والتاريخ يثبت صحة هذه المقولات.

وعلى أي حال فإن مقدرات الدول التابعة أو بالأصح الأنظمة التابعة ليست بيدها بل بيد الآخرين . وهنا مكمن الخطورة . فما قد يطلبه الآخرون من بلد مثل الأردن قد يتعارض بالنتيجة مع المصالح الوطنية الأردنية . ولنأخذ مثالاً على ذلك القرار الذي صدر عن مجموعة G20 الذي انعقد في أنطاليا - تركيا في شهر نوفمبر من هذا العام والقاضي بتكليف الأردن (وهو ليس عضواً في تلك المجموعة) بتجهيز قائمة بالتنظيمات التي سيتم تصنيفها "بالإرهابية" هو قرار يبعث على الدهشة .  
ماهي مصلحة الأردن في مثل ذلك التكليف ولماذا الأردن ؟

إن هذا التكليف هو أقرب إلى الكمين ولا يوجد أي تشريف فيه ولا يشكل بالضرورة إعترافاً بمكانة الأردن أو قدراته ، وكل من يعتقد عكس ذلك فهو مخطئ إذ لا مصلحة للأردن من لعب هذا الدور الشائك وتحمل تلك المسؤولية الصعبة . ويبدو أن إختيار الأردن يهدف إلى تحميل دولة عربية ما عبأ و وِزْرَ تحديد المنظمات التي يجب تصنيفها بالإرهابية ويصبح منشأ الإتهام بذلك منشئاً عربياً ، والمتهمين عرباً أو مسلمين والأرض المنكوبة أرضاً عربية أو إسلامية !  
ترى ماذا سيحصل لو قام الأردن مثلاً بضم "حزب الله" إلى قائمة المنظمات الإرهابية ؟ وماذا سيكون موقف أمريكا إذا ما إجتهد الأردن وقرر أن "حزب الله" هو منظمة غير إرهابية في حين أن الولايات المتحدة تعتبره كذلك ؟ وماذا عن "حماس" المنظمة الفلسطينية المقاتلة ضد الإحتلال الإسرائيلي ؟ ما هي الفائدة التي سيجنيها الأردن من الدخول في هذا المستنقع ؟

إن فلسفة تحميل العرب مسؤولية الخراب الذي يُحيـق بهم والإقتتال الذي يجري بينهم هي فلسفة يتفق عليها الغرب والشرق الآن . والسبب يعود بشكل أساسي إلى العرب أنفسهم وإلى ضعفهم وتشتتهم وفرقتهم التي ارتكزت إلى أنانية وجبروت الحكام المستبدين بالإضافة إلى أنانية وضعف وتخاذل الجماهير العربية التي استنكفت عن التضحية ، ورضيت بالعيش في الذل عقوداً في ظل سلطان جائر مُسْـتـَبـِد خوفاً من التهلكة فيما لو حاولت تغييره وإستبدال الإستبداد بالديموقراطية . وهكذا التقت أنانية الحكم وإستبداده وجبروته بأنانية الشعب وخوفه وضعفه مما ساهم في إيصال الوضع العربي إلى ما وصل إليه من تـَهَـتـُّك . ولا فائدة ترجى ولا حكمة من أي محاولة للتنصل من هذه المسؤولية وإلقائها على الآخرين .

هنالك محاولات تجري الآن لتلافي الأوضاع السيئة والنتائج السلبية على المجتمع الأردني لسياسات تم تطبيقها منذ أواخر خمسينيات القرن الماضي وأدت إلى منع الأحزاب وتجميد الحياة السياسية المدنية في الأردن تبعها غياب الإنتخابات النيابية لعقود طويلة مما أدى في النهاية إلى خلق فراغ كان من المحتم ملؤه بقوى فاعلة في المجتمع الأردني كان أهمها الأخوان المسلمين . ومن هنا وُضـِعَتْ البذرة الأولى في نمو الأصولية الإسلامية في الأردن وسط فراغ كبير ومنافسة سياسية غير موجوده بفضل سياسات النظام التي رعت الأخوان المسلمين لما يزيد عن نصف قرن وحاربت وقمعت جميع القوى الأخرى من قومية ويسارية وشيوعية . والآن وبعد أن شعر النظام الأردني بخطر الفراغ السياسي عليه في ظل تنامي الأصولية والتطرف ، فإنه يحاول أن يتبنى عملية إصلاح سياسي مبتوره خصوصاً بعد موجات الربيع العربي ، ولكن فاقد الشئ لا يعطيه . فغياب الثقة بنوايا الحكومة وإستفحال العقلية الأمنية كانا وراء عزوف معظم الأردنيين عن الإستجابة لدعوة الحكومة أو حتى تصديقها . والصحوة المتأخرة للدولة الأردنية سواء بالنسبة للحياة الحزبية أو الديموقراطية المبتورة أو المواطنة الناجزة لا يــُلغي الآثار السلبيـة التراكمية لتـلك الممارسات السلبية والخاطئة على مدى عقود طويلة . وفـشل الدولة الأردنية حتى الآن في إعادة إحياء الحياة الحزبية وعزوف المواطنين الأردنيين عن تأسيس أحزاب حقيقية أو الإنضمام إليها إنما هو نتيجة لتلك الممارسات.

ونفس الشئ قد ينطبق على المحاولات الجارية حالياً لتشجيع الأردنيين من أصل فلسطيني على العودة إلى الإنخراط في الحياة السياسية المعلنة والرسمية من خلال المؤسسات الدستورية والرسمية والشعبية بعد أن تم إقصاءهم عنها لسنوات طويلة . وهذا العزوف سوف يـُبقي الأردن واقفاً على رجل واحدة إلى أن تعود الثقة الشعبية بحسن نوايا النظام وإلتزامه الكامل بمفهوم المواطنة الناجزة ، عندها سيعود الأردن واقفاً بثبات على رجلين إثنـين . وعلى الحكم في الأردن أن يبذل جهوداً مضاعفة لإعادة الحياة إلى الجسم السياسي المدني في الأردن على أن تفوق هذه الجهود في جديتها تلك التي بذلها سابقاً لمنع تلك الحياة بل وتدميرها.


نشر هذا المقال في جريدة رأي اليوم اللندنية بتاريخ  7/ 12/ 2015