د. لبيب قمحاوي

يمر الأردن الآن في أجواء ضاغطة تشير إلى أن أياماً عصيبة تنتظر هذا البلد الذي نجح حتى الآن في الإبحار ضمن عواصف وكوارث هزت المنطقة ودمرت العديد من دولها الرئيسية وجعلت منه بلداً يتميز بالإستقرار والأمن .

      إرتبط وجود الأردن وإستقراره وأمنه بالقضية الفلسطينية ومتطلبات الأمن الإسرائيلي منذ إنشاء إمارة شرق الأردن وإصدار وعد بلفور في بداية القرن الماضي وإستمر إلى يومنا هذا . ولكن ما يجري مؤخراً يوحي بأن هنالك تغييرات إبتدأت تطرأ على تلك المعادلة وتوحي إما بقرب فك الإرتباط التقليدي بين أمن الأردن وإستقراره من جهة وأمن إسرائيل من جهة أخرى ، أو بقرب حدوث تطور ما سيؤدي إلى الإستغناء عن دور الأردن التقليدي في أن يكون خط الدفاع الأول عن أمن إسرائيل من أي أخطار قادمة من العمق العربي في ظل الإنهيار والتفكك الجاري في العالم العربي وإنهيار حالة العداء العربي لإسرائيل ، أو أن هنالك تسوية ما ، يتم العمل دولياً على إنجازها بصمت وبمعزل عن أي تنسيق مع الأردن .

جاء تصريح هلاري كلنتون (وزيرة خارجية أمريكا السابقة ومرشحة محتملة للرئاسة الأمريكية) في 10/11/2015 والقائل بأن الحديث عن مستقبل المنطقة غير ممكن قبل أن يتضح مستقبل الأردن ليضيف مزيداً من الغموض على الأجواء المتوترة السائدة في المنطقة .

      “Any lasting peace deal is probably out of reach until Israel and the Palestinians know what happens in Syria and will Jordan remain stable”

ويبدوا أن هذا التصريح يفترض أن هنالك تغييراً ما سوف يطرأ على الوضع في الأردن قد يؤدي إلى تغييرات كبيرة فيه كدولة أو ربما في دوره الإقليمي ، حيث أن تصريحاً مثل هذا صادراً عن شخصية أمريكية على مستوى رفيع لا بد وأن يكون له أساسٌ ولم ينطلق من فراغ ، والحديث هنا يشير إلى إستناد كلينتون في تعليقها ذاك على “تقرير تم تداوله في أوساط واشنطن” .

        “Clinton’s statement was based on a report circulating in Washington,   and did not come from nowhere.”

وقد ترافق ذلك التصريح مع ما ورد في مَقـَالـَةٍ للكاتب السياسي/الصحفي المؤثر “ديفيد شنكر” “David Schenker” في نفس التاريخ ، يقول فيها ” إن المساعدات الأمنية فقط ، على أهميتها ، قد لا تكون كافية للحفاظ على أكثر حلفاء واشنطن من العرب ثقة (وهو الأردن) ” .

         “Security assistance alone, while valuable, may not be enough   to preserve Washington’s most reliable Arab partner ……Jordan.”

إن التغيير الهائل الذي يكتنف المنطقة ودولها لا يفترض أن هنالك أحد بمنأى عن تبعات ذلك التغيير ونتائجة بإستثناء إسرائيل التي يرتبط أمنها ووجودها بدول كبرى من خارج المنطقة . ولكن ، مع ذلك ، تبقى الحقيقة أن هنالك دول في المنطقة يحظى إستقرارها وبقاءها بدعم ومساندة أكثر من دول أخرى في نفس المنطقة .

        يقتات الأردن على الموائد السياسية والمالية لدولٍ أخرى ويستمد قوته من ضعفها أو خلافاتها أو إنهيارها لأن عوامل القوة الذاتية في الأردن شحيحة أو مفقـودة بإستثـناء العنصر البشري . فهو يفتـقر إلى الموارد الطبيعية من ماء ونفط وغاز ، وعوامل القوة التي قد يتمتع بها أحياناً متغيرة كونها مُستـَمـﱠدة من الخارج وقدرته بالتالي في الدفاع عن أمنه واستقراره مرتبطة بعوامل خارجية يرتبط معظمها بسياسات تمس دول الجوار . وهذا يستدعي بالضرورة بقاء الأردن قادراً على الحفاظ على توازن دقيق ومستمر في علاقاته الخارجية الإقليمية والدولية . وهذا ما يدفع الأمور بإتجاه إرغام الأردن على رسم سياساته ومواقفه بما يتلائم والتزاماته الدولية والإقليمية خصوصاً تجاه دول مؤثرة على وجوده وإستقراره مثل الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية وبالطبع إسرائيل . وقد برع النظام في الأردن في ممارسة لعبة التوازنات الإقليمية مما سمح له بالنتيجة أن يلعب أدواراً سياسية أكبر بكثير من حجمه وإمكاناته . وهذا لا يرتبط بالنظام حصراً بقدر ما يرتبط بالموقع الجيوسياسي للأردن الآمن والمستقر .

يبدو أن هنالك توجه لدى بعض أوساط صنع القرار في واشنطن لإعتبار الأردن في طريقه لأن يصبح دولة فاشلة (failed state) . فمؤسسات الدولة قد أصبحت عنواناً بلا محتوى حقيقي . والولاء أصبح للنظام أولاً وأخيراً وليس للدولة كونه المرجعية الوحيدة للوصول إلى السلطة أو المنصب العام . وقد أدى هذا الوضع إلى تعزيز الشكوك في واشنطن بمستقبل الأردن . فالدولة الفاشلة هي أيضاً الدولة التي تفتقر إلى المؤسسات والعمل المؤسسي وتفـشل في احتضان مواطنيها وتمثيل مصالحهم وحل مشاكلهم الحياتية . وهذا قد يكون السبب وراء التصريح الذي أدلت به كلنتون عن مستقبل الأردن والذي أعلنت فيه عن شكوكها بذلك المستقبل .

          “Hillary Clinton told a group of college students this week that the future of the Jordanian monarchy is ‘uncertain’. ”

قد لا يرغب الأردنيون أو يوافقوا على أن تكون مقدرات وطنهم ونظام الحكم فيه أمراً يتحكم به ويقرره أجانب من خارج الأردن مهما كانت أهميتهم أودوافعهم ، ولكن هذا لا يمنع ولا يجب أن يمنع الأردنيين من النظر إلى داخلهم بهدف إستشراف واقعهم على حقيقته والعمل على تقوية بنية الدولة الأردنية وتمكين مؤسساتها وتعزيز مبادئ الشفافية و تداول السلطة فيها ضمن برنامج إصلاح حقيقي وبشكل يمنع الآخرين من تصنيفها بنفس الدرجة التي تم بها تصنيف بعض الدول العربية كدول فاشلة نظراً لإفتقارها إلى المؤسسية والحاكمية الرشيدة وحكم القانون والشفافية وتداول السلطة بشكل جعل منها دولة الفرد الحاكم ، تبقى ببقائه وتزول بزواله .

الأردن لا يقف الآن على شفير الهاوية و لكنه قد يصل الى ذلك قريباً إذا ما إستمر الوضع على ما هَوّْ عليه . فمن الواضح أن الملك الأردني محاط بمجموعة من المستشارين اللذين لا هم لهم إلا المحافظة على مصالحهم ومكتسباتهم حتى ولو كان ذلك من خلال سياسات إخافة النظام من أي عملية إصلاح حقيقية والإيحاء له بأن تنفيذها قد يؤدي إلى الأطاحة بالنظام أو بنفوذه ، مع أن من سيطاح به ، فيما لو تمت عملية الإصلاح الحقيقي ، هم أولئك المستشارين من الحرس القديم والجديد معاً بالأضافة إلى العديد من العناصر الفاسدة التي ساهمت في تدمير الإقتصاد الأردني .

الأردن يجلس على كف عفريت لأن العديد من المسؤولين ، بما في ذلك العديد من رؤساء الحكومات ، لا هم لهم سوى إرضاء الملك وإطاعته دون ابـداء الرأي أو المشورة . وهم بذلك يكونوا قد تخلوا عن أهم دور لهم من خلال موقع المسؤولية وهو إبداء النصح والمشورة الصادقة وحصروا اهتمامهم في العمل على البقاء في السلطة من خلال ممارسة مواقف الإذعان والصمت والتخويف من عواقب الإصلاح .

وهذا الوضع يدفع بالكثيرين إلى التساؤل إذا ما كان النظام قادراً في ظل هذا الوضع على الإلمام بحجم المشاكل الداخلية والحياتية التي تعصف بالمواطن يومياً ، أو إذا ما كان هنالك تناقض بين ما يريده النظام وما يريده الشعب الأردني خصوصاً في ظل إنتهاج سياسات حكومية تهدف إلى إرضاء جهات أجنبية مثل البنك الدولي بغض النظر عن العواقب الحياتية لتلك السياسات على المواطن مثل رفع أسعار الخدمات الأساسية كالكهرباء والماء والمواصلات والتلاعب بأسعار المشتقات النفطية ورفع الدعم عن المواد الأساسية دون أن يقابل ذلك زيادة مماثلة في الأجور والرواتب، وإعتبار تلك السياسات في مصلحة النظام أو تلبية لرغباته، وأن ذلك بالتالي أكثر أهمية لتلك الحكومات من حماية قوت المواطن وكرامته.

إن إهتمام المسؤولين بالقضايا المرتبطة بالسياسة الخارجية والأمنية بشكل رئيسي وإعتبار ذلك كافٍ كونه يُرضي إهتمامات النظام هو بمثابة اللعب بالنار. فالأمن والإستقرار لا يرتبط بالعوامل الخارجية فقط، بل أيضاً وبالأضافة إلى قدرة المواطن على تلبية حاجاته المعيشية والعيش بكرامة.

إن سلوك أولئك المسؤولين في محاولاتهم التملق للملك وإختيارهم بأن يكون ذلك من خلال ممارسة حالة من الإنصياع التام والغير مطلوب أو مبرر للتدليل على ولائهم المطلق وكأن الملك يريد ذلك إنما هو إجحاف بحقه واستهتار بمسؤولياتهم وخرقاً لأحكام الدستور. فالنظام يتمتع بإجماع نادر حدوثه في هذه المنطقة ولا يوجد أي مطلب حقيقي لتغييره وهو بالتالي ليس بحاجة إلى ذلك النمط من المسؤولين اللذين نصبوا أنفسهم أوصياء على مصالح النظام وجعلوا من الشعب خطراً إفتراضياً عليه

وهكذا يصبح التناقض في ممارسة أولئك المسؤولين لمسؤولياتهم وواجباتهم في مواقعهم المختلفة أساساً للتناقض بين ما يريده الشعب وما يفعله النظام. وتصبح معركة التخلص من أولئك المسؤولين هي معركة مشتركة تجمع بين الملك والشعب، ويصبح العدو الحقيقي هو تلك الطبقة من المسؤولين اللذين نصبوا أنفسهم أوصياء على مصالح النظام والوطن لخدمة مصالحهم الخاصة.

وقد يدفع هذا الوضع إلى التساؤل فيما إذا كان النظام في الأردن غافلاً عن ما يريده الشعب أو عن ما يعاني منه اقتصادياً ومعيشياً وحياتياً وسياسياً، أو إذا ما كان النظام واعياً لكل ذلك ولكنه لا يكترث لتبعاته على المواطنين أو أنه غير قادر على وضع حد لطبقة المتنفذين من الحرس القديم والجديد اللذين يضعوا العراقيل أمام نوايا الإصلاح الحقيقي.

واقع الأمور يشير إلى أن هذا الموقف قد خلق حالة متفاقمة من القلق والغضب واليأس بين أوساط العديد من المواطنين سارعت منظمات إسلامية ومتطرفة إلى محاولة إستغلاله وقد نجحت في ذلك إلى حد ما. وفي ظل هذا الوضع، فإن سلوك أولئك المسؤولين وحرصهم على غياب الشفافية حماية لأنفسهم قد ساهم في تفاقم الأمور من خلال غياب المعلومة الحقيقية ولجوء الأردنيين إلى الإشاعات والأقاويل التي ساهمت في خلق أجواء متوترة وحالة عامة من الإحباط أو الغضب أو القلق المستند إلى ذلك الواقع، وكل ذلك يصب في صالح أفكار ومنظمات أصوليه أو ذات طبيعة متشددة أو متطرفة . وإستمرار هذا الوضع واؤلئك المسؤولين من شأنه أن يحول الأصولية والتطرف من حالة طارئة إلى ثقافة عامة قد يصعب التخلص منها أو تجاوز آثارها.

وقد ساهم في تعزيز هذا الوضع غموض العديد من القرارات والسياسات مثل سياسة تسعير المشتقات النفطية أو الدين العام المتفاقم أو الحرب على الإرهاب وتحديد ماهيته أو القدس أو السياسة الخارجية للأردن تجاه قضايا مصيرية وأقطار عربية شقيـقة. وقد تم ملاحظة ذلك أكثر ما يكون في سياسات الأردن المتضاربة والغامضة تجاه سوريا وما يجري فيها ولها أو علاقات الأردن مع دول الإقليم. وقد ساهم هذا الغموض في تبلور حالة من القلق الشديد على مستقبل الأردن.

مرة أخرى، وضمن ما ورد من معطيات يبقى السؤال هل الأردن ومستقبله وإستقراره على كف عفريت سواء أكان ذلك العفريت أمريكياً أو محلياً، أم أنه بخير؟


نشر هذا المقال في جريدة رأي اليوم اللندنية بتاريخ  16/ 11/ 2015