الأصل أن تكون الدولة في خدمة المواطن ، أما أن يصبح المواطن في خدمة الدولة، والدولة في خدمة قلة القلَّة ، فهذا ما لا تقبل به الشرائع والدساتير والقوانين.
الدولة الأردنية في هبوط مستمر وملحوظ سواء في ادائها العام أو في قدرتها على القيام بالواجبات المناطة بها لخدمة مواطنيها . والأمر لم يقف عند ذلك ، بل أصبح المواطن الأردني رهينة تركيبة معقدة من القوانين الملتوية والنهج الأمني العرفي، واستعمال سطوة القانون والأمن لكسر إرادته وارغامه على العودة إلى وضع القرون الماضية عندما كانت الدولة تُسَخِّر مواطنيها عبيداً لها من أجل خدمتها وجباية المال. أما أن نعيش هذه الحالة في القرن الحادي والعشرين فهو أمر غير مسبوق.
الحكومات الأردنية تَكْذِب على الشعب وتخدع نفسها قبل أن تخدع الآخرين من خلال الإدعاء بأن الأمور في تحسن . والتصريحات المتفائلة للمسؤولين الأردنيين عن قرب الانفراج وعن اقتراب حل المشاكل الإقتصادية المستعصية يأتي في ذلك السياق.
تتعامل الدولة الأردنية مع مواطنيها بِشَكٍ واضح بإعتبارهم مذنبين بجرم التهرب من دفع مختلف أنواع الضرائب إلى أن يثبت عكس ذلك . لقد تم تطويع مؤسسات الدولة الأردنية وقوانينها لخدمة هدف الجباية وإعالة الدولة المترهلة بالرغم من تقصيرها وظلمها وإجحافها بحق مواطنيها وحقوقهم دون إمكانية توفير أية حماية قانونية للمواطن بعد أن تم مصادرة قُدْرَةِ القضاء على توفير تلك الحماية أمام جبروت وتعسف الدولة . لقد وَضَعَ كل ذلك الأردنيين في ضيق وغضب تراوحت اشكال التعبير عنه بين التظاهر من خلال الحراكات الشبابية ، إلى افلاس العديد من الأردنيين أو إغلاق العديد من الاستثمارات المحلية أو الخارجية وإلى هروب رأس المال وهجرة المواطنين، انتهاءً بِغُربَةِ معظم الأجيال الشابة والمتعلمة من الأردنيين وسعي العديد منهم لعدم العودة إن تمكنوا من ذلك .
لقد بلغ استفحال ظلم الدولة وجبروتها في التعامل مع المواطن إلى الحد الذي جعلها تفرض الغرامات بشكل يفوق الربا الذي منعه الإسلام وحَرَّمَهُ ، وبلغت الإستهانة بالمواطن وحقوقه الدستورية إلى الحد الذي يُمَكِّنَ موظف في دائرة ضريبة الدخل أن يقوم بالحجز على أموال وثروة أي مواطن أردني مهما كان ، دون أي حكم قضائي عادل وبنسب قد تتجاوز قيمة المبلغ المُطَالَبْ به بمئات أو آلاف المرات وفي بعض الحالات ملايين المرات . والأكثر من ذلك هو التعسف في شكله اللامعقول والذي يسمح لمثل ذلك الموظف بمنع سفر أي مواطن والذي قد يُفاجَئْ بمنعه من السفر في المطار أو الحدود دون إخطار مٌسْبق ودون معرفة الأسباب ، في حين أن العديد من كبار الفاسدين لا يحظون بنفس المعاملة السيئة والشرسة التي يحظى بها المواطن المسكين .
لقد حَوَّلَتْ الحكومات الأردنية المتعاقبة المواطن الأردني من مواطن له حقوق على الدولة مقابل الضرائب التي يدفعها ، مثل حقه في التعليم والصحة والبنية التحتية إلى مُسْتَجْدي لتلك الحقوق من خلال تحويلها من حقوق إلى مَكرُمات يتطلب الحصول عليها جهوداً مضنية وواسطات تجعل من المواطن مُسْتَجدياً وتُفْقِدَه إحساسه بالعزة والكرامة وبأن ما يسعى للحصول عليه هو حقاً له على الدولة وليس مِنَّةً تُعطَى له من خلال الاستجداء .
ما هي الدولة التي تقتات على تَعب وعَرَقْ ودموع ومُعَاناة مواطنيها وتَطْلُب منهم ما تعتبره حقوقاً للدولة ولا تعطيهم ما هو حق لهم ؟ كيف وصل الأردن إلى هذا الدَرَك من الإنحطاط في التعامل مع المواطن . وكيف تتصرف دائرة مثل دائرة ضريبة الدخل بتغول واضح على الأردنيين وتختبئ خلف قوانين تم التلاعب بها باعتبارها العُذْر المُسَبِّب للبطش بالمواطن تحت شعار عجيب إسمه " حَقْ الدولة " ؟ وإذا كان هذا هو الحال ، فأين " حق المواطن " ؟ من هو الذي بَاعَ مقدرات الدولة وأهْدَرَ مَوارِدَها ؟ هل هو المُواطِن أم الدولة ؟ من حَمَـى الفَسَـاد وساعد في الخراب العام أهو الدولة أم المواطن؟
إن أخطر ما يشعر به الأردنيون الآن هو عدم إطمئنان الأردني بأن ثروته الشخصية التي عمل لسنوات على جَنْيها هي في مأمن من جشع الدولة وجبايتها وجبروتها. الآمنون الوحيدون على ثرواتهم هم كبار الفاسدين لأنهم فوق القانون أولاً ولأن ثرواتهم من الفساد هي في الأصل غير مشروعة وليست في أصولها مِلْكاً لهم.
تسعى الدولة من خلال الإعْلَام المُلتوي ومسار يخلو من المصداقية إلى خلق شعور زائف بقرب الإنفراج وبأن الدولة تسير على مسار صحيح سيؤدي إلى تخفيف العبئ عن المواطنين . الأمثلة عديدة على المسار الكاذب للدولة ، ولعل أقلها وضوحاً ولكن أكثرها أهمية هي أكذوبة العَجْز بالمليارات الناتج عن إرتفاع اسعار النفط الخام كما تَدَّعي الحكومة مما سمح لها على مدى سنوات العقد الماضي بالتلاعب بأسعار مشتقات النفط وفرض زيادات على أسعار المحروقات والطاقة جعلت من الأردن واحدة من أغلى دول العالم في اسعار المشتقات النفطية والطاقة مقارنة بمعدل دخل المواطن . ولو كان ما تَدَّعيه الحكومة صحيحاً ، لَقَامت بِسَنّ التشريعات اللازمة لتشجيع الطاقة البديلة والسيارات الهجينة والكهربائية ، ولكن ماذا فعلت الدولة في الحقيقة ؟
بعد أن لمست الحكومة إقبال المواطنين على شراء السيارات الهجينة والكهربائية قامت بإلغاء الاعفاآت المتعلقة بها لأنها تريد بقاء استهلاك مشتقات النفط كما كان من خلال استعمال الأردنيين للسيارات التقليدية مما يعني في الواقع مزيداً من الدخل الغامض للدولة . أما بخصوص توليد الكهرباء من الطاقة الشمسية ، فقد ابتدأت الحكومة بوضع العراقيل أمام الأردنيين الراغبين في تركيب تلك الأنظمة وفرض المزيد من القيود والقوانين والأنظمة والرسوم بشكل أبعَدَ الكثيرين عن هذا الخيار المنطقي .
حقيقة الأمر هي أن الدولة وبكل بساطة لا تريد توفير استهلاك الطاقة النفطية ولا تريد طاقة بديلة ولا تريد سيارات هجينة أو سيارات كهربائية لأن الدولة تعزز مواردها من خلال المغالاة في تسعير المشتقات النفطية والطاقة الكهربائية دون وجه حق . وهي بالتالي تريد مزيداً من استهلاك المشتقات النفطية حتى تستمر في سرقة المواطن الأردني بطرق غامضة وغير معروفة تؤدي إلى توريد مليارات الدنانير إلى جيب الدولة أو بعض من الدولة !
من الواضح أيضاً أن أولوية الدولة الأردنية ليست في الحقيقة تشجيع الاستثمار أو خلق حوافز للابداع أو تشجيع رأس المال الأجنبي على الاستثمار في الأردن لأن مسارها في الجباية المتوحشة يؤكد عكس ذلك . وفشل زيارة رئيس الحكومة الأخيرة إلى دافوس تعكس هبوط ثقة المستثمرين الأجانب بالأردن ، وعزوفهم عن ابداء أي رغبة بالإستثمار فيه . فأكثر ما يهم المستثمر الأجنبي هو استقرار التشريعات المالية والإقتصادية من جهه، ووجود قضاء قوي ومستقل عن ارادة الحكومة من جهة أخرى . وكلا الأمْرَيْن غير متوفرين حالياً في الأردن . أما بالنسبة للمستثمر المحلي فإن الحوافز اللازمة لتشجيع الإستثمار والتصدير غير موجودة خصوصاً وأن أسعار الطاقة والمياة فاقت كل منطق ، ليس لندرتها بل لطمع الدولة ومغالاتها في فرض الضرائب . العديد من رجال الأعمال أصبحوا يُعَبِّرون عَلَنَاً عن نواياهم في إغلاق إستثماراتهم لعدم قدرتهم على مجاراة جشع الدولة وجبروتها والأسلوب العرفي والفَجّ في إرغام المواطنين على دفع ضرائب وغرامات ربوية تفوق الخيال في العديد من الحالات وتحت طائلة فرض الحجوزات الجائرة ومنع السفر دون أي حكم قضائي وانما استناداً إلى قوانين تتناقض وروح الدستور ونصوصه . وهنالك من المسؤولين عن الضرائب من يعترفون بفداحة ما يتم فرضه من ضرائب وغرامات ولكنهم يتذرعون بأن هذا هو القانون .
وفي ظل وجود سلطة تشريعية ضعيفة ، فإن سن قوانين جائرة أصبح أمراً ممكناً، بل تم تطويع القضاء لخدمة أهداف الحكومة في الجباية حيث قامت احدى محاكم التمييز باصدار حكماً يتناقض وأحكام قانون الشركات فيما يتعلق بالمسؤولية المالية للشركات المساهمة الخصوصية محدودة المسؤولية ، وتم من خلاله التفاف الحكومة في سعيها للجباية على قانون الشركات ، مما أدى إلى موجة من إغلاق تلك الشركات وعزوف العديد من الأردنيين عن المساهمة في تأسيس شركات جديدة .
إن حل مشاكل الأردن الإقتصادية من خلال نهج الجباية حصراً يعكس ضعفاً وقصوراً في تفكير الدولة والقائمين على الشأن الإقتصادي . إن ضغط النفقات العامة خصوصاً النفقات المظهرية مثل السفر والبَدَلات والسيارات والمكافئات ...إلخ - وليس التعليم والصحة والبنية التحتية - هي أمر أساسي للتوازن بين الدخل والمصروفات . ولكن من الملاحظ أنه لم تصدر أية تصريحات حكومية أو أرقام رسمية مُثْبتة عن ضغط النفقات العامة . جُلَّ ما نقرأ هو مباهاة المسؤولين الحكوميين بفرض الضرائب وبزيادة التحصيل أو الجباية بأشكالها المختلفة دون التطرق إلى ضغط الانفاق العام .
إن الإفلاس المادي هو أقل خطراً من الإفلاس الأخلاقي خصوصاً إذا ما قامت الدولة بإفتراس أبنائها . والسؤال يبقى في ذهن الكثيرين ، ما هو الحل ؟ لا يوجد حل إلا إذا تم التعامل بجدية مع منابع الخراب ، وبخلاف ذلك تبقى الحلول ترقيعية وناقصة وخاضعة لنفوذ ومصالح الخراب الكبير . إن إعادة بناء البنية السياسية للدولة الأردنية وبشكل يؤكد مبدأ الفصل الدستوري بين السلطات الثلاث وإستقلال القضاء وإستقرار القوانين والتشريعات ، وتلازم السلطة والمسؤولية وتكريس الشفافية ومبدأ المحاسبة يصبح ضرورة قصوى للحد من جموح الدولة وتَغَوّلها على المواطن .
" الدولة في خدمة المواطن " يجب أن يصبح نهج الدولة الأردنية فِعْلاً وليس شعاراً أجوفاً يهدف إلى إمتصاص غضب الشعب ودغدغة عواطفه .

 


28/ 01/ 2019