بقلم د.لبيب قمحاوي

يشعر معظم الأردنيين بأن وطنهم في أزمة ، و القليل منهم قادر على تعريف ماهية هذه الأزمة أو الأزمات و مصدرها . وعلى أية حال فإن أهم ثلاثة أسباب للأزمة التي يعيشها الاردن الآن هي :-
أولا : التغيير الجذري في سياسات المملكة العربية السعودية و أولوياتها ، وانعكاس ذلك سلباً على طبيعة علاقتها مع الأردن ومع بعض دول المنطقة .
ثانيا : التغيير في كيفية ممارسة أمريكا لسياستها في المنطقة و الذي عكس نفسه في القرار المتعلق بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وما ترتب على ذلك من إضعاف لموقف الأردن و تهديد لأمنه الداخلي و دوره الاقليمي و أثر ذلك على علاقته مع أمريكا .
ثالثاً : و أخيراً اسرائيل نفسها التي ابتدأت تأخذ مكان الجميع كالحليف الاستراتيجي الاقليمي الأول و الأهم للسعودية في صراعاتها في المنطقة وخصوصاً ايران ، والذي نقل اسرائيل من خانة العدو الى خانة الحليف مجاناً و دون مطالبتها بأي تنازلات للفلسطينيين مقابل ذلك .

جذور الأزمة إذاً تكمن في انتقال العديد من الثوابت في علاقات الأردن الخارجية الى خانة المتغيرات التي يمكن الاستغناء عنها أو تغييرها بقرارات غير أردنية بل ضد رغبة الأردن . وقد جعل هذا الوضع الاردن في مهب الريح خصوصاً و أن تلك المتغيرات قد مَسًَّت أهم الحلفاء التقليديين للأردن و جاءت بشكل جماعي مما أفقد الأردن توازنه خصوصاً وهو يجابه أكثر الأوقات صعوبة في وضََعِْهِ الاقتصادي المتردي .

الصعوبة التي يجابها الأردن الآن تكمن في تداخل تلك الثوابت وتشابكها معاً خصوصاً بعدما تحولت من ثوابت الى متغيرات ، مما حرم الأردن من القدرة على خدمة سياساته من خلال التنقل بين تلك الثوابت التي فقدها جميعاً أوكاد في وقت واحد تقريباً . و الأخطر من ذلك هو التقاء أطراف الثوابت الثلاث ( السعودية و إسرائيل و أمريكا ) معاً خارج نطاق العلاقة مع الأردن ، وأصبح المطلوب من الأردن بالتالي أن يقبل بما هو مطلوب منه ولا قدرة له على تنفيذه ، أو معروض عليه ولا قدرة له على قبوله أو مقاومة الضغوط المرافقة له بإعتباره مطلباً جماعياً يمثل الأطراف الثلاثة ، وهي أطراف لا قدرة للأردن على مقاومتها بسهولة خصوصاً عندما تجتمع معاً . لقد فرض هذا الوضع نفسه على الأردن الذي أصبح يبحث عن مخرج للأزمات التي تعصف به وعن حلفاء جدد يمكنه الاعتماد على دعمهم .

إن إنتقال علاقة الأردن مع كل من السعودية و أمريكا و اسرائيل من الثابت الى المتغير قد أضعف من شعور النظام الأردني بالقدرة على الإعتماد على وجود حلفاء تاريخيين له سواء للدعم المالي أو السياسي ، بل على العكس أصبح انسحاب أولئك الحلفاء مصدر قلق له . هذا بالاضافة الى كون أولئك الحلفاء هم أساس ثقة النظام الأردني العالية بقدرته على الاستمرار ، واعتبار ذلك ركيزة الإستقرار الداخلي للأردن . و الافتقار الى كل ذلك جعل النظام الأردني أمام خيارات صعبة كون المتغير السعودي سوف يؤثر على الدعم المالي القادم من منطقة الخليج بشكل عام . هذا بالاضافة الى أن تكاتف الأنظمة الملكية في العالم العربي كان دائماً أمراً في غاية الأهمية لإستمرار و استقرار تلك الأنظمة . وقد كان عماد ذلك التكاتف تاريخيا الأنظمة الملكية في السعودية و الأردن و المغرب ، وهي الأن أبعد ما تكون عن التكاتف بل حتى الصداقة.

العلاقة الاسرائيلية – الأردنية قد أصبحت أقل أهمية لإسرائيل بعد أن تطورت العلاقة السعودية – الاسرائيلية الى علاقة استراتيجية شبه علنية وفي طريقها الى العلنية الكاملة . إن تطابق الاهداف الاستراتيجية في الاقليم بين السعودية و اسرائيل و أمريكا في عدائهم المشترك لإيران قد أضعف من خصوصية علاقة الأردن مع إدارة ترمب وبالتالي أمريكا ، وتغير الحال عن ماكان عليه في العقود السابقة . وهكذا أصبحت ثوابت السياسة الخارجية الأردنية وتحالفات الأردن الاستراتيجية التقليدية مع أهم ثلاثةحلفاء له في مهب الريح ، و أصبح الأردن وحيداً خائفاً من المجهول ومن تبعات ماهو قادم .

يحاول الأردن الخروج من هذا المأزق المتفاقم من خلال تبني سياسات داخلية و
فلسطينية و اقليمية و دولية تساعده إما على التأكيد لحلفائه السابقين على أهمية دوره و
إستمرارية هذا الدور ، أو على البحث عن بدائل جديدة للتحالفات القديمة دون أن يؤدي
ذلك الى زيادة الأمور تأزيماً خصوصاً في علاقاته مع أمريكا و اسرائيل . إن المشي
على حبل رفيع قد لا يكون سهلاً لشخص واحد مثل الملك عبدلله ، ولكن في غياب
دولة المؤسسات ، فإن الخيارات الأخرى تكاد تكون معدومة .

من المنطقي العمل على إستيعاب أبعاد العلاقة بين الأردن و كل طرف من الأطراف الثلاثة وذلك على الصعيد الداخلي و الاقليمي و الدولي مع اعتبار خاص للقضية الفلسطينية نظراً لخصوصية ارتباطها و تأثيرها على الأردن وعلى مايجري فيه . وهذا التحليل العام سيؤدي الى إعطاء صورة أكثر تكاملاً عن وضع الأردن المأزوم وما يمر به من تحديات ، والخيارات الاستراتيجية البديلة المتوفرة له .

الصعيد الداخلي :-

إن سماح الدولة الأمنية العميقة على صعيد الأردن الداخلي لجماهير الشعب بالتعبير عن غضبها على القرار الامريكي بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل كان يهدف في الواقع الى التعبير عن عدم رضى الملك شخصياً على هذا القرار وعلى الايحاء للآخرين بأن هذا الموضوع حساس وخطير شعبياً بحيث يفوق قدرته على القبول به حتى ولو أراد ذلك. و السماح للمسؤولين من حكوميين و نواب للتعبير عن رفضهم لقرار ترمب كان يهدف الى امتصاص الغضب الشعبي الذي تبع ذلك القرار ، إن لم يكن إعطاء الانطباع العام بوجود إجماع أردني على معارضة القرار الأمريكي ، دون السماح للأمور أن تتفاقم الى حد المواجهة مع أمريكا أو إثارة غضبها . الخيط الرفيع هنا يتمثل في إرضاء الشعب و إسكات أمريكا وعدم الاحتكاك بإسرائيل ومحاولة تهدئة الموقف الهائج للسعودية دون تقديم تنازلات مستحيلة .


الصعيد الفلسطيني :-

أما على الصعيد الفلسطيني فإن التأكيد المتزايد للنظام الأردني على استمرار الوصاية
الهاشمية على الأماكن المقدسة في القدس كان يهدف الى الاشارة إلى عدم استعداد
النظام الهاشمي للتخلي عن دوره في القدس وعلى دوره كوصي على الأماكن المقدسة وهو جزء هام من شرعية الهاشميين . و الحملة الدولية التي رافقت ذلك من مؤتمر التضامن الاسلامي في استنبول الى زيارة الفاتيكان و فرنسا التي رافقها تأكيد اردني متزايد على شمول الأماكن المقدسة المسيحية بالوصاية الهاشمية ، قد أثار غضب السعودية التي اعلنت ، وللمرة الأولى ، عن عدم ارتياحها ، إن لم يكن رفضها ، للوصاية الهاشمية على الأماكن المقدسة في القدس . وقد حَوَّلَ هذا الموقف السعودي الجديد الموضوع الى خصام مباشرعلني بين العائليتن المالكتين السعودية و الهاشمية مما جعل الموضوع شخصياً عائليا بالإضافة إلى كونه سياسيا . وهكذا ، فإن الأردن يسعى الى إعادة تعريف دوره الفلسطيني من دور سياسي مباشر له تبعات خطيرة وقد يكون محكوماً بالفشل ، الى دور ديني محصور بولاية دينية مُعْتَرفٍ بها حتى من قبل الاسرائيليين . وقد نشاهد نتيجة لذلك تطوراً في إتجاه حماية نهج الوصاية الدينية عوضاً عن المطالبة بالحلول السياسية ، واعتبار الوصاية الدينية الهاشمية على القدس هي البديل عن السيادة السياسية الفلسطينية ، حيث أن إفلاس القيادات الفلسطينية و العربية قد جعل من موضوع الوصاية الدينية على الأماكن المقدسة في القدس خشبة النجاة الوحيدة المتبقية لأن جميع القيادات الفلسطينية و العربية قد اختارت ، على مايبدو ، أن تتناسى دور الشعب الفلسطيني في فلسطين و القدس في تأكيد عروبتها وفلسطينيتها .

الصعيد الاقليمي :
أما على الصعيد الإقليمي فإن إبتعاد السعودية في نهجها الجديد عن الرابطة العربية و ذلك على المستوى الاقليمي قد فتح الباب أمام الأردن نحو خيارات إسلامية عوضاً عن العربية خصوصاً في ظل الفشل المتتالي للجامعة العربية و مؤسسات العمل العربي و بدء انهيار مجلس التعاون الخليجي . وقد قام الأردن بسرعة بالإلتفات نحو تركيا وهي الخيار الأقل خلافاً كون تركيا عضواً في حلف الناتو ، والتعامل معها كبديل إسلامي سني للسعودية على المستوى الاقليمي لن يثير غضب أمريكا و اسرائيل. وقد أثار هذا التحرك الأردني غضب السعودية التي فشلت في اقناع الملك عبد الله بعدم حضور القمة الاسلامية في استنبول مع أن الموضوع يتعلق بعروبة القدس .

ويبقى أمام الأردن خيار الخطوة الاسلامية الأخرى الأكثر دراماتيكية وهي الاقتراب من ايران زعيمة المسلمين الشيعة . وهكذا فإن الأردن يسعى الى التلويح للسعودية بالعَلَم الإسلامي الأحمر فيما لو تمادت في نهجها المعادي للأردن . ولكن الخيار الايراني يبقى محكوماً لمستوى عداء أمريكا و اسرائيل لها مما قد يرغم الاردن على التفكير ملياً قبل الولوج فيه . واذا ما استقر الرأي على فتح الباب الايراني ، فإن ذلك قد يكون على مستوى الصف الثاني من المسؤولين الأردنيين أو على مستوى مجلس النواب بإعتباره منتخباً و سيبقى الأمر في المدى المنظور محصوراً بالنقر على باب ايران عوضاً عن فتحه . وفي النهاية يبقى الخَيَار الايراني للتلويح أكثر منه للتنفيذ ، و ايران لن تمانع في ذلك على أية حال لأنها إذا لم تكسب فإنها لن تخسر شيئاً . وقد يتمثل المدخل الآخر البديل للعلاقات المباشره مع ايران في تحسين العلاقات مع سوريا و بمباركة روسية ايرانية ، ولكن المسار الإيراني المباشر سيبقى خيار اللحظة الأخيرة فيما لو تعقدت الأمور و اختفت الخيارات و تمادت السعودية في عدائها للهاشميين و للنظام الاردني الهاشمي .

الصعيد الدولي :
اوروبا هي الخيار البديل لمنع تدهور العلاقات مع ادارة ترمب و أمريكا . ولكن الأردن لن يخطو أي خطوة بهدف تأزيم العلاقة مع أمريكا بشكل مباشر . فالعلاقة مع أمريكا تبقى هي الخيار الأردني الأول . ولكن المشكلة هي في درجة خصوصية هذه العلاقة ، وهنا مربط الفرس . فالملك حسين قد أسس لعلاقة خاصة وتاريخية مع كافة الادارات الامريكية منذ عهد الرئيس أيزنهاور . و الأردن لن يجازف بتلك العلاقة حتى و إن كانت القدس في الميزان ، وتبقى العملية عملية إخراج فقط . ولكن كيف سيتم اخراج هذه المعادلة ؟ اوروبا قد تلعب دور المُلَطَّفْ وليس البديل . فالأوربيون على مايبدو ، على استعداد للعب دور التهدئة و العمل على حفظ استقرار الاردن الى أن تنجلي العاصفة ، وليس أكثر من ذلك . ولكن هذا الدور هام جداً خصوصاً في الفترات الانتقالية الحرجة و الصاخبة والتي قد تؤدي الى إنفلات الأمور من عقالها أو انهيار هذه الدولة أو تلك أو هذا النظام أو ذاك . وموقف أوروبا من موضوع الاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة لاسرائيل يهدف الى امتصاص جزء من الغضب العربي الشعبي العام و الارتدادات الناجمة عن ذلك الزلزال . إن الدور الأوروبي يبقى محدوداً في تحديد مستقبل الإقليم وفي حل مشاكله . و الاهتمام الأوروبي يبقى منصباً على تجنيب القارة الأوربية أي تبعات ناجمة عن مشاكل المنطقة مثلما حصل لسوريا و ملايين اللاجئين السوريين اللذين لجؤا الى أوروبا.

الاردن الآن في عزلة لا يُحسد عليها . و خياراته في التحالفات البديلة هي خيارات موسمية متفجرة ومن الدرجة الثانية . و الأردن هو من وضع نفسه في وضع خيار اللاخيار نظراً لافتقار الحكم الى طبقة من السياسيين المحنكين ذوي القدرة و الشجاعة على ابداء النصيحة الصادقة بغض النظر عن رأي أو مزاج الحاكم ، وكما كان عليه الحال في الأردن سابقاً . والإنحدار الملحوظ في مستوى الأداء السياسي للأردن على مدى السنوات الماضية كان مقدراً له أن يوصل الأردن الى هذا الوضع البائس و الخطير . العودة السريعة الى الأصول والى المؤسسية في العمل ضمن الإطار القانوني و الدستوري الصحيح قد يكون بداية الحل السليم لما يعانيه الأردن من مشاكل أساسها الإفتقار الى العمل المؤسسي و الرؤيا الاستراتيجية السليمة و الحنكة اللازمة لإدارة شؤون الدولة على كافة المستويات.


* مفكر وسياسي

21/ 12/ 2017