بقلم د.لبيب قمحاوي

لا جديد فيما يتعلق بقرار أمريكا نقل سفارتها من تل أبيب الى القدس سوى إعلان القرار نفسه . فهذا القرار الذي يعكس انتقال قضية العرب الأولى من قضية معقدة و مؤثرة على علاقات أمريكا بدول العالم العربي و تحويلها الى أمر عائلي بين الرئيس الأمريكي وصهره اليهودي دون أي إعتبار لثوابت السياسية الأمريكية في هذا الموضوع الحساس و موقف أمريكا التاريخي بعدم الإقرار و الاعتراف بجواز إحتلال أراضي الغير بالقوة ، و التزامها بذلك بقرارات الشرعية الدولية . هل من المعقول أن يصل الضعف و التهاون العربي الى مرحلة من الذل والهوان بحيث يتوقف العالم عن إبداء أي احترام للحقوق الفلسطينية والعربية ويصبح الرئيس الأمريكي في حل من إبداء أي إعتبار أو حتى مجاملة لتلك الحقوق أو للمصالح العربية و الفلسطينية ؟ ان ما تفعله الأنظمة العربية ليس منع حدوث الشئ ، ولكن تطويق آثاره و محاولة إبراء ذمتهم من مسؤولية حدوثه ، وإلا لماذا إنتظرت الأنظمة العربية لحظة الحقيقة وساعة الصفر للاحتجاج . المطلوب ليس الاحتجاج على نقل السفارة و الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ، ولكن منع حصول ذلك في الأصل ، وهذا كان يتطلب نشاطاً مكثفاً ومبكرا ، الأمر الذي لم يحدث نظراً لغياب أي جدية عربية للتعامل مع هذا الأمر.

أما الجديد فعلاً فهو تفاقم حالة الإنهيار العربي الى الحد الذي مكَّن رئيس أمريكي لم يبلغ سن الرشد السياسي من العبث بثوابت السياسة الأمريكية بالنسبة لفلسطين و القدس وتحويلها الى مشروع عائلي ينسجم مع قناعات أفراد عائلته . إن السقوط العربي قد بلغ حداً من الإنهيار أفقد العرب ماتبقى من احترام لهم عند الآخرين وجعل من مطالبهم التاريخية عملية إستجداء فاشلة تخضع للمصالح الشخصية الصغيرة لهذا الحاكم العربي أو ذاك ، مما أعطى الآخرين الضوء الأخضر لفعل ما يريدون بالعرب و للعرب و لفلسطين .

إن نَقْل السفارة الأمريكية الى القدس لا يعني مساحة جغرافية أو عنواناً مقدسياً بقدر ما يعني اعترافاً أمريكياً بشرعية الاحتلال . و أمريكا بذلك تضرب عرض الحائط بكافة القرارات الدولية و تُخضع الشرعية الدولية و القانون الدولي لصالح دولة الاحتلال الاسرائيلي . ومع ذلك يبقى العرب مصرون على إختيار نهج المفاوضات و السلام برعاية أمريكية منفردة ! واذا كان هذا هو واقع حال القيادة الفلسطينية و القيادات العربية فلماذا نتوقع من أمريكا ومن اسرائيل مراعاة الحقوق و المصالح العربية ؟؟ على ماذا سيتفاوض الفلسطينيون الآن ؟ وبعد هذا الاعتراف الأمريكي بشرعية الاحتلال فهل بقي لها دور كوسيط في عملية السلام ؟ وهل بقي هنالك أصلاً من مسار سلمي ؟؟ على السلطة الفلسطينية الآن أن تعيد حساباتها جيداً و تعلن موت مسار السلام و أن تقوم بالتالي بحل نفسها و إرغام الاحتلال على القيام بدوره علناً.

عميلة نقل السفارة الأمريكية الى القدس ليست عملية استبدال اليافطة على مبنى القنصلية الأمريكية في القدس وتحويلها الى يافطة بإسم سفارة الولايات المتحدة الأمريكية . فالخطر الحقيقي هو في مدلولات هذا القرار والذي يعني عملياً اعتراف أمريكا بإن القدس هي عاصمة ما يسمى بدولة اسرائيل و أنها بذلك خارج اطار التصنيف كمنطقة محتلة وبالتالي خارج اطار أي مفاوضات أو تسويات على إفتراض أن هنالك تسوية سلمية . القرار الأمريكي يعني ضمناً الاعتراف بأن القدس مدينة يهودية و لليهود فقط مع بعض المناطق الأثرية مثل المسجد الاقصى وكنيسة القيامة وقبة الصخرة التي ستتحول من أماكن مقدسة للعبادة الى أماكن سياحية تابعة لوزارة السياحة الاسرائيلية .

فلسطين التاريخية بأكملها تحت الاحتلال ، ولكن رمزية القدس تبقى العلامة الفارقة في القضية الفلسطينية ، اذ لا فرق بين أي مدينة فلسطينية و الأخرى . لا فرق بين يافا وتل أبيب وحيفا ونابلس و رام الله و القدس ، فجميعها مدن فلسطينية . ولكن الاعتراف بشرعية الاحتلال الاسرائيلي للقدس هو اعتراف بتاريخ اليهود و اليهودية المزيف في فلسطين و اعتراف بحق اليهود التاريخي والديني في حائط البراق بإعتباره حائط المبكى كجزء من الهيكل المزعوم ، وفي القدس باعتبارها مدينة يهودية ولليهود أينما كانوا .

من المؤسف ان رد فعل بعض الدول الأوروبية وكذلك المجموعة الأوروبية هو أكثر قوة و وضوحاً من مواقف معظم الأنظمة العربية التي تتباكى من أن نقل السفارة الأمريكية الى القدس سوف يؤثر على عملية السلام وعلى المفاوضات و كأن هنالك مفاوضات ! لا يوجد حديث عربي عن حقوق الفلسطينيين أو عن إزالة الاحتلال أو عن تطبيق الشرعية الدولية . كل احاديث الأنظمة العربية هي عن تأثير نقل السفارة على مستقبل عملية السلام . أمر عجيب و محزن وعلينا أن لا نلوم الآخرين لما وصلت إليه الأمور بل أن نلوم أنفسنا حصراً .


المطلوب هو الفعل وليس ردة الفعل ، في حين أن جل ما نشاهده الأن هي ردة فعل ضعيفة ومستسلمة وراكعة لدول العالمين العربي و الاسلامي . الصراخ و العويل لن يُجدي ، وَكَيْلُ الإتهامات لأمريكا لن يجدي أيضاً لأنها لا تكترث لقوة الصراخ العربي المعلن و الخنوع والخضوع غير المعلن . ماهو الأهم احتلال القدس أم نقل السفارة الأمريكية اليها ؟ ومع ذلك ماذا فعل العرب و المسلمين لمعالجة موضوع احتلال القدس ؟ بالطبع لا شئ . أمريكا تعلم ذلك واسرائيل تعلم ذلك و العالم بأسره يعلم ذلك . فالقرار الأمريكي لم يأتِ كمفاجئة ، مما يستدعي طرح السؤال الأساسي ، كيف سمح العرب و القيادة الفلسطينية لهذا الأمر أن يتطور الى هذه الدرجة دون ممارسة أي ضغوط مُسبقة حقيقية ؟ فالفرق بين منع وقوع الأذى و بين معالجة آثاره كبير وكبير جداً . ويبقى رد فعل العرب و القيادة الفلسطينية بالرغم من كل شئ ضعيفاً و دون مستوى الحدث.


* مفكر وسياسي

06/ 12/ 2017