بقلم د. لبيب قمحاوي*

إمتاز المجتمع الأردني تاريخياً بـِصِغـَرِهِ وبمعرفة الناس لبعضهم البعض إلى الحد الذي جـَعَلَ من معرفة أصُول هذا وثروة ذاك ، وأين وكيف ومتى حاز على تلك الثروة، أمراً طبيعياً دون الحاجة إلى الخوض في ملفات سرية أو إستقراء المعلومات من مصادر معلومة أو مجهولة . وفي كل الأحوال ، فإن معرفة الحقيقة لم تعد الآن مقتصرة على ما يتعلق بأوساط مجتمع اللصوص بل إمتدت لتشمل أموراً كثيرة ترتبط خيوطها بذلك المجتمع خصوصاً في عصر المعلوماتية الذي يـُمَكـِّن الكثيرين من المهتمين من الاطلاع من خلال مصادر إعلامية خارجية أو دولية على خبايا الأمور التي يُحْظـُر في العادة على الصحافة المحلية أو الاعلام المحلي التطرق إليها.
إمتاز المجتمع الأردني خلال الحقبة الممتدة من أربعينيات وحتى سبعينيات القرن الماضي بنظافة يد المُجـْتـَمَعين السياسي والاقتصادي ورموزهما إلى درجة كبيرة جداً . ففي الوقت الذي كان فيه العديد من السياسيين ومنهم رؤساء وزراء ينتهجون سياسات قد لا يرضى عنها الكثيرون أو يقبلوا بها ، كان هؤلاء السياسيين أنفسهم يُحْجـِمون عن المساس بالمال العام ويعتبرونه من المحظورات التي لا يجوز الاقتراب منها ناهيك عن المساس بها . ومع أن معظم أولئـك الرؤساء قـادوا حيـاة سياسيـة عاصفـة ، إلا أنهم ماتوا فقراء أو أصحاب ثروات متواضعة ومعروفة الأصول ، بالرغم من أن الكثير منهم انتهجوا طوال سنوات حكمهم سياسات كانت تتعارض ورغبات قطاعات واسعة من الشعب ، وعملوا على فرضها دون تهاون.
أما المال العام فقد كان مقدساً نظراً لوجود اجماع على حرمته بخلاف الموقف السياسي الذي كان يفتقر إلى إجماع مماثل نظراً لتباين وجهات النظر فيما يتعلق بماهية الموقف السياسي الصحيح أو المقبول شعبياً. وهذا الخلاف والاختلاف جعل من تباين الموقف السياسي والاختلاف فيه وعليه أمراً مقبولاً ومتعارفاً عليه ، في حين أن الاجماع على قدسية المال العام وعدم المساس به جعل منه أمراً مقدساً لا يجوز المساس به ، ولا يوجد أي استثناء لذلك . وهنا علينا التمييز بشكل واضح وقطعي بين الشخصيات السياسية أو العامة صاحبة المواقف السياسية الخِلاَفية التي تـَبْقـَى قضايا رأي وقناعات ، وبين الفاسدين ، وعدم المزج بينهم أو السماح بذلك تحت أي ظرف، وذلك منعاً لأي إلتباس.
بالنسبة لرجال المال والاقتصاد في الحقبة نفسها فقد كان معظمهم عصاميين ابتدؤا بدايات متواضعة في بلد فقير لتنموا البلد تدريجياً وتنموا معها ثرواتهم ، وكان الجميع تقريباً يعلم أساس ثروة كل غني في الأردن . أما ولاية الحكومة على المال العام فقد كانت ولاية كاملة أساسها احترام قدسية ذلك المال وعدم المساس به إلى أن برزت إلى السطح منذ أواخر ستينيات القرن الماضي مجموعة من السياسيين الفاسدين واللصوص الصغار من ابناء مدرسة العمولات والكومسيونات المتنفذين في بعض مؤسسات الدولة واللذين أصبحوا مع الوقت لصوصاً كباراً إستباحوا تلك المؤسسات واعتبروا المال العام مالا خاصاً بهم يحق لهم أن يغرفوا منه ما شاؤا أو ما استطاعوا إليه سبيلاً.
والآن ماذا لدينا ؟
لدينا اللصوص القدامى الذين أصبح معظمهم إمـَّا في ذمة الله أو خارج إطار التداول بحكم أعمارهم ، ولدينا أبناؤهم اللذين ورثوا تلك الثروات الطائلة نتيجة لنهب المال العام أو إستغلال المنصب . ولم تقف الأمور عند حدود وراثة الثروة المنهوبة من المال العام بل إمتدت لتشمل وراثة السلوك الفاسد نفسه وكذلك وراثة المنصب العام . والواجب هنا يتطلب التأكيد على عدم التعميم وإن كان التخصيص غير ممكن لأسباب لا تخفى على أحد . إن هذا لا يعنـي أن مجتمع اللصوص الحالي هو امتدادٌ لمجتمع اللصـوص القدامـى حصراً، إذ أن هناك الآن العديد من اللصوص الجدد اللذين فاقوا من سَبَقـَهم في وحشية الانقضاض على المال العام وفي تسخير المنصب العام لخدمة أهدافهم الخاصة.
وابتدأ اللصوص الجدد والقدامى، خصوصاً في حقبة الخصخصة وما بَـعْدَها، في التصرف كنادي مغلق وفي التعاون فيما بينهم لمد نفوذهم ليغطي مجالات السياسة والتخطيط والاقتصاد والمال . ومُسَمـَّى "النادي" مجازي لأنه في واقعه أقرب إلى "العصابة" ، إذ اتسعت دائرة جشعهم مع مرور الوقت لتشمل كل شئ تقريباً وكل منصب وكل مشروع له قيمة. وتحول ما ابتدأ كظاهرة شاذة محدودة التداول إلى طبقة متنفذة تتصرف وكأن البلد ملكها وتعتبر أن كل من يقف في طريقها عدوٌ للوطن ومصالحه . ورافق ذلك عملية عَبَثْ ممنهجة بقوانين البلد بهدف تطويع ما أمكن من القوانين لخدمة تلك الطبقة ومصالحها من جهة ، ولحمايتها من أي مساءلة أو عقوبة لتـَعَدِّيها على المال العام وسوء استخدامها للمنصب العام من جهة أخرى . إن تطويع السلطة التنفيذية والمالية والاقتصادية ومن ثم القضائية لسلطة أو نفوذ طبقة اللصوص والفاسدين جعل من الفساد واقع الحال وليس الاستثناء ، وجعل عقاب الفاسدين أو الحد من قدراتهم أمراً في غاية الصعوبة إن لم يكن شبه مستحيل ، وتم تسخير القانون لحماية الفساد والفاسدين عوضاً عن ردعهم ومحاسبتهم وعقابهم.
لقد شجع هذا الوضع وشعور طبقة اللصوص بأنهم فوق القانون وبأنهم في مأمن من الحساب والعقاب ، على النزوع نحو المباهاة والتفاخر بسرقة المال العام مما عَـزﱠزَ من توجههم نحو التمتع الفاحش بذلك المال علناً ودون أي محاولة لإخفاء ثرواتهم معتمدين في ذلك على الدعم الذي توفره لهم أوساط مُتَـنَفـّذَة وقوانين تم العبث بها . وهكذا أَخَذَ معظم أولئك في بناء القصور والعيش علناً هم وعائلاتهم في مستويات تفوق دخلهم الشرعي . وأصبح التباهي في استعراض الثروة الفاسدة بالإضافة إلى احتكار العديد من المناصب العامة وسيلة للدخول في مجتمع النخبة الأردنية الذي يعود في جذوره ونشأته إلى عملية تطور طبيعية ومشروعة من خلال النخبة السياسية والاقتصادية مثله في ذلك مثل أي مجتمع آخر . وأصبح مجتمع النخبة بذلك هو الملاذ والغطاء لطبقة اللصوص والوسيلة لغسل خطاياهم من خلال الاختلاط بالأوساط النظيفة تماماً كما تتم عملية غسل الأموال القذرة وتبييضها وجعلها أموالاً نظيفة بالرغم عن أصولها القـَذِرَة.
وتفاقم الوضع بحيث أصبح أولئك اللصوص القدوة أمام الأجيال الجديدة على كيفية صنع الثروة من خلال الفساد واستغلال المنصب والتهرب من العقاب والالتفاف على القانون أو تطويعه . وهكذا ابتدأ الفساد ينخر في عظام المجتمع الأردني النظيف تاريخياً وأصبح الفساد والفاسدين هم القدوة عوضاً عن العصاميين والمخلصين وأصحاب الكفاءة كما يجب أن يكون عليه الحال في أي مجتمع سليم يعيش في ظلال الشفافية وتكافؤ الفرصة وسيادة القانون.
الخطر الأكبر على مستقبل الأردن يتمثل في الإحلال التدريجي لطبقة اللصوص مكان الطبقات النظيفة في المجتمع الأردني ، وتغيير المفاهيم الاجتماعية التي ترعرعت عليها الأجيال السابقة من الاردنيين والتي ترفض كل ماهو فاسد وتحويله إلى مجتمع يقبل بالفساد بل ويُمَجـِّد فاعليهِ بإعتبارِهِ قيمةً تعكس شطارةً وقدرةً على استغلال المنصب والمركز . وبهذه المقاييس فإن الخدمة العامة أصبحت وسيلة لتكريس المنفعة الخاصة ، وهذا الوضع يضع الأساس لتدمير قدرة القطاع العام والحكومي على خدمة المجتمع وعلى تجديد نفسه بشكل ايجابي يسمح له بالتطور المستمر لمواكبة مستلزمات العملية التنموية ومتطلبات العصر وتحدياته بأمانة وكفاءة.
إن غياب مفهوم تلازم السلطة والمسؤولية وانتهاك حُرْمَةِ المال العام سوف يعزز ثقافة الفساد والتسيب بأنواعه . وحُرْمة المال العام يجب أن لا تعني فقط القدرة على جبايته تحت طائلة العقوبات القانونية التي يوفرها "قانون تحصيل الأموال الأميرية" ، بل أيضاً وبالإضافة حمايته من لصوص المال العام تحت طائلة المساءلة والمحاسبة والعقوبات القانونية ، بالاضافة إلى العمل على استعادة الأموال المنهوبة وعدم التهاون في ذلك مهما مر الزمن ، وعدم السماح لأي قانون بإعفاء المجرمين من إعادة المال العام المنهوب أو أي جزء منه . وغياب ذلك أو التهاون فيه يشكل دعوة لضعاف النفوس للتعدي على المال العام وسرقته دون خشية من العقاب ، خصوصاً وأن الحصول على المال وتكديس الثروة أصبح بالنسبة للبعض عذراً كافياً لارتكاب العديد من المجازر السياسية والمالية والمعاصي الاخلاقية والضميرية مثل الاستيلاء على الشركات العامة الاستراتيجية مثل شركة مناجم الفوسفات، والخصخصة المشبوهة من خلال بيع العديد من الأملاك العامة وشركات ومؤسسات القطاع العام، والعمولات والكومسيونات التي رافقت مسيرة العديد من الشركات وأهمها شركة "الملكية الأردنية"، والتطبيع والتعاون الاقتصادي مع العدو الاسرائيـلـي وتبرير ذلك تحت ستار الواقعية السياسية ومتطلبات التنمية .
العودة إلى الأصول ، واحترام قدسية المال العام وتفعيل مبدأ تلازم السلطة والمسؤولية ومحاسبة الفاسدين وردعهم واسترداد المال العام المنهوب ، والحجر على كل من تثبت عليه تهمة الفساد ومنعه من تولي أي منصب حكومي أو عام ، والشفافية وأولوية الحق في التعينات الحكومية والعامة ، وتغيير كافة القوانين التي تسمح بالتسيب وتـَحْمي الفساد وتـُسَهل أموره ، وجعل القانون هو الضمانة ضد الفساد والرادع للمفسدين، هي بعض الاجراآت الواجب توفرها لوضع حد للتسيب والفساد الذي أنهك المجتمع الأردني وأوقعه في حفرة المديونية ووضع اقتصاده على حافة الافلاس ورَهـَنَ مقدرات الوطن لجهات خارجية.



* مفكر ومحلل سياسي
2017 / 06/ 19