د. لبيب قمحاوي

عندما تصبح الأصولية هي الآلية الأهم للحراك السياسي والمجتمعي ، والعنـف هو الوسيلة الوحيدة للتغييـر ، فإن هذا يعني عملياً السير إلى الخلـف والعودة إلى الوراء بشكل دمـوي ، مما يجعل الدعوة إلى التغيير في مثل هذه الحالة مدخلاً حتمياً إلى التطرف والإقصاء والعنف الدموي .

  التطرف لن يؤدي إلا إلى مزيد من العنف وكذلك هو الإقصاء الذي يُحَوﱢل الوطنية إلى شكل من أشكال النازية ويجعل مقياس المواطنة هو إطاعة أولي الأمر دون تفكير أو إعمال للعقل  وذلك من منطلق “وأطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم” .

        الرعب الذي سببته تنظيمات إسلامية مثل داعش والنـُصرة والقاعدة من خلال مواقفها المبنية على الإقصاء والتطهير الديني والعقاب الدامي قد سببت حالة متفاقمة من الفـَزَعْ والرعب بين أوساط المسلمين المعتدلين ناهيك عن العرب المسيحيين وهم سكان المنطقة الأصليين اللذين يتوجب عدم التعامل معهم من خلال تهديدهم أو إقصاءهم وإضطهادهم وكأنهم دخلاء عليها .

       العرب المسيحيون هم الأكثر انفتاحاً وثقافة من أبناء المنطقة . والأسباب لا تعود إلى الدين لوحده بقدر ما تعود إلى كيفية ممارسة الدين وإلى القيادات الدينية المسيحية التي كانت على مر العقود الماضية أقل تزمتاً وأكثر إنفتاحاً من ميثلاتها من القيادات الإسلامية . هذا بالإضافة إلى أن المسيحية هي دين تشترك فيه عدة حضارات وثقافات متباينة تسمح للسيد المسيح أن يكون أسمر البشرة في أفريقيا وأشقر في أوروبا وهكذا ، في حين أن الإسلام يسعى لأن يكون ديناً وثقافة وحضارة وطريقة حياة وحيدة وواحدة للجميع مما يجعله أداة لصهر كافة المجتمعات الإسلامية ولو قهراً في بوتقة واحدة قد تأخذ شكل دولة الخلافة أو أي أشكال أخرى مما يمهد الأرضية بالنتيجة أمام ظهور وتبلور النمطية الإسلامية الأصولية الطاغية والعابرة لكل المجتمعات والثقافات حتى التي تقبل بها كدين .

       إن النمطية في الشكل والملبس التي يختار بعض الأصوليين الإسلاميين والتنظيمات الإسلامية المتطرفة المغالاة في التركيز عليها لتأكيد إسلاميتهم أو أصوليتهم لا علاقة لها في الواقع بالإسلام بشئ . إذ لا يوجد زي إسلامي مثلاً وما كان يلبسه المسلمون أيام الرسول وبعد ذلك كان عبارة عن ما هو متوفر لهم في ذلك الزمان والمكان ولا يوجد أي نص على ضرورة الإلتزام بذلك الزي مثل الجلابية أو الدشداشة طالت أم قـَصـِرْت . كما لا يوجد أي نص على إرخاء الذقن كون فن الحلاقة اليومي لم يكن متوفراً في تلك الأزمان . والنمطية التي نشاهدها هذه الأيام هي عبارة عن تسجيل موقف أو قد تكـون نوعاً من أنواع الإستعراض السياسي أو شبه العسكـري (الميلشيا) . بإختصار ، لا علاقة للنمطية في الملبس أو الشكل بالإسلام . وقد تكون أداة لإستفزاز الآخرين وإخافتهم ، وقد تكون تعبيراً عن موقف متصلب أو الإنتماء لتنظيم ما . ولو كان هنالك أيام الرسول البدلات وربطات العنق مثلاً لربما كنا نشاهد الآن أفواجاً من داعش والنصرة والقاعدة يلبسون البدلات وربطات العنق ويقاتلون بها ، فالمحاكاة قد تكون هي السبب المباشر للنمطية التي نراها وليس الدين .

       إذا كان هنالك من يجادل بأن الإسلام دين تسامح ومساواة فإن ذلك صحيح في أصوله ولكن سلوك العديد من القادة الإسلاميين قد لا يعكس ذلك . وفي النهاية ، فإن الممارسة هي المقياس . وممارسة العديد من الإسلاميين الأصوليين للإسلام إبتعدت خلال العقود الماضية بشكل متنامي وطردي عن روح التسامح والقبول بالآخر إلى أن وصلنا إلى حقبة الإسلام المتطرف الإقصائي الدموي الذي فتح الباب أمام ظهور العديد من التنظيمات الإسلامية الدموية التي إكتسبت من خلال دمويتها صفة الإرهاب والتي إقتاتت في مسارها على نتائج الظلم والقهر الذي عانت منه العديد من المجتمعات العربية والإسلامية . في الحقيقة لا يوجد إرهاب إسلامي بل يوجد ظلم وغضب وفقر وفساد وإستغلال وجهل وهم البيئة الحاضنة للكراهية والإرهاب ، وإستعمال الإسلام إنما هو وسيلة وإطار لتنظيم الآخرين وإستغلالهم في هذا السياق .

        إن محاولة التصرف على الأرض بإرادة سماوية هو أمر ينافي أحكام الدين . فالإسلام لا يؤمن بالكهنـوت ولا يـُفـَوﱢض أي جهة أو شخص السلطة لتنفيـذ أحكام الدين . فالله يخاطب عباده في القرآن الكريم بقوله “وإدعوني أستجيب لكـم” ولم يقل مثـلاً قولوا لفـلان أو علان . فالعـلاقة بين الخالق والمخلوق في الإسلام علاقة بسيطة ومباشـرة مما يعني أن مفهـوم الوصاية أو الوساطة غيـر قائـم في الإسـلام ولا يملك أي شخص أو تنظيم الحق في الإدعاء بأنه يمثل الحقيقة وما عداه فهـو باطـل .

        إن تسميم العقل والتلاعب بالعواطف وإستغلال مختلف أشكال الغضب وحالات القنوط والتهديد بالعقوبات السماوية مع تجاهل الرحمة والتراحم والتسامح قد دفع الأمور بإتجاه مزيد من التعصب والتطرف وجعل من الدين عصا للعقاب وليس وسيلة للرحمة والفضيلة والتسامح والتلاحم الإنساني في إطار المثل العليا التي بـَشـَّرَ بها الدين . فـالمبادئ الأساسية هي نفسها تقريباً في جميع الأديان والخلاف هو على القليل من تفاصيل العبادة التي قد لا تعني شيئاً أمام عظمة المبادئ المشتركة بين جميع الأديان مما يجعل من موضوع التطرف الديني الإقصائي أمراً لا يمكن إستيعابه أو فهمه من منظور عقلاني أو ديني بحت . إن التركيز على عوامل الخلاف مهما كانت ثانوية وتجاهل عوامل اللقاء والتطابق مهما كانت هامة ورئيسية يعكس أفقاً ضيقاً ونزعة نحو الإقصاء وإستعمال الدين لخدمة أهداف سياسية ودنيوية قد لا يكون للإسلام علاقة بها .

        الأصولية والتطرف الإسلامي ليست ظاهرة طارئة بل محصلة سنوات من التوجيه الخاطئ ومناهج التعليم المُوَجـَّهة دينياً وكليات الشريعة المفتوحة أمام أقل الناس كفاءة مما ساهم في خلق أجيالاً من أشباه المتعلمين لقيادة الواجهة الدينية وتوفير الأئمة والوعاظ مما ساهم بالنتيجة في بروز طبقة من علماء الشريعة غير مؤهلة لفهم وإستيعاب ثقافة التسامح والتعددية الدينية التي تتطلب سعة في الأفق وإلماماً بالثقافات العامة وإستيعاباً للحضارة الإنسانية ، بل سـَعَتْ إلى تكريس ثقافة إقصائية تسعى إلى فرض الرؤيا الإسلامية المتعصبة والمتزمتة والمتطرفة على الجميع بإعتبارها الرؤيا الوحيدة الصحيحة وكل من يعارضها أو ما يعارضها خطأ وكفر وزندقة تستوجب العقاب .

        والمسلمين بذلك لا يحق لهم أن يتذمروا مثلاً من مجتمعات أو دول غربية إذا ما إتخذت موقفاً محابياً للإغلبية السكانية المسيحية أو موقفاً معادياً للممارسات النمطية والأصولية للأقـلية الإسلامية ضمن مجتمعاتها . فالمسلمين يفعلون نفس الشئ ويستهجنوا أي نقد لهم بإعتبار أنهم دولة إسلامية أو مجتمع ذا أغلبية إسلامية يحق لها أن تعبر عن نفسها وعن خصوصيتها . أما إذا سادت روح التسامح الجميع ، فإن ذلك من شأنه أن يقضي على مشكلة الإقصاء والتمييز من جذورها وهي عملية تبدأ في إعادة النظر في مناهج التعليم والدراسات والعلاقات الإجتماعية والثقـافة الدينية وتكريس مفهوم المُواطـَنـَة .

       الحنين إلى الماضي والتغني بأيام العظمة والفخار للدولة الإسلامية لا تعني بالضرورة  توفر القدرة على إعادتها أو إعادة دورة التاريخ إلى الوراء . فعظمة الأمم لا تأتي بالتمني بل بالعمل الجاد . والإنفتاح هو المفتاح للتغيير إذ أن التغيير والتقدم لا يكون من خلال الإقصاء أو العقاب أو الفرز الطائفي بل من خلال التلاحم والبحث عن نقاط اللقاء بين المكونات المختلفة للمجتمع عوضاً عن التركيز على الخلاف أو الإختلاف .

       العودة إلى الأصول تختلف إختلافاً كبيراً عن العودة إلى الخلف . ما نراه هذه الأيام وما نحن بصدده هو دعوة إلى العودة إلى الخلف والتخلف وليس الأصول . فالأصول هي عبارة عن مفاهيم إنسانيـة وسلوكية مشتركة لا تستدعي الإقصاء والقتل وسفك الدماء ، في حين أن العودة إلى الخلف والتخلف تتطلب جهداً حقيقياً نفسياً وفكرياً وجسمانياً كون المطلوب هو حركة عكس الطبيعة وعكس موروث حضاري جاء نتاج عملية تطور تراكمية على مدى سنين طويلة أساسها تفاعلي إيجابي بين الشعوب والحضارات المختلفة . إن مطلب العودة أربعة عشرة قرناً إلى الوراء هو أمر سياسي وليس ديني ، فالدين لم يتغير والذي تغير فقط هو كيفية تطبيقه سواء من خلال الدولة الإسلامية في مراحلها المختلفة أو من خلال أفراد أو مؤسسات أو أحزاب أو تنظيمات تتكلم جميعها بإسم الإسلام وتحاول إحتكار الحقيقة .

        إن غرس قيم الكراهية من خلال الظلم والقهر والإضطهاد الذي يعاني منه العديد من الأفراد اللذين ينتمون بشكل عام للمجتمعات العربية والإسلامية قد ساهم بشكل حاسم في تبلور ثقافة العنف والسعي الواهم للعودة إلى أزمان سحيقة مرتبطة بالذاكرة بأيام العز والفخار والطمأنينة مقارنة بالذل والظلم للأزمان الحالية دون أن يعني ذلك أي شئ على أرض الواقع سوى الدمار والعنف والقتل .

      إن التطورات الأخيرة في موضوع الإرهاب الديني تـُرَكـﱢز على الإنتماء للمفهوم أكثر من التنظيم . وخطورة هذا التطور أنه يجعل من مطاردة الأفراد المؤيدين والمتعاطفين والملتزمين بهذا التنظيم أو ذاك أمراً صعباً إن لم يكن مستحيلاً لأن محاكمة النوايا أمراً غير ممكن طبقاً لمعظم القوانين ، هذا من جهة . ومن جهة أخرى فإن أي شخص يستطيع منفرداً أن يرتكب ما يريد من أفعال قد تكون دموية أو مُدَمـِّرة ومن ثم يعلن منفرداً ولاءه لهذه التنظيم أو ذاك ويَـنـْسُبُ تلك العملية له دون الحاجة لأن يكون هنالك بالفعل أي علاقة تنظيمية بين ذلك الفرد والتنظيم المعني . وهذا ما نشاهده في الفترة الأخيرة حيث يتم تحميل الإسلام وزر ما قد يفعله بعض الأفراد من عمليات إجرامية .

      إن السماح لتنظيمات متطرفه ومارقة مثل داعش والنـُصرة بتدمير الأرث الحضاري للمنطقة وتدمير البنية المجتمعية لشعوب المنطقة العربية بحجة العودة إلى أصول الإسلام هو إلتفاف على الحقيقة ومحاولة بائسة للعبث بالإسلام كدين وبموروثه المتسامح القائم على الرأفة والإبتعاد عن الدموية وإقصاء الآخرين . والأهم من ذلك أنها محاولة بائسه لإعادة تفسير الإسلام ودوره من خلال منظور ضيق جداً يتعامل مع الآخرين بإعتبارهم خطراً تتوجب إزالته ويتعامل مع التعددية بأشكالها المختلفة بإعتبارها أمراً لا يجوز السماح به بل يتوجب إلغاءها لصالح مجتمع إسلامي واحد ودولة إسلامية ذات نظام شرعي يقبل لنفسه بالإقصائية ويرفضها للآخرين!


نشر هذا المقال في جريدة رأي اليوم اللندنية بتاريخ  14/ 6/ 2016