د. لبيب قمحاوي

 الحديث في الشأن الأردني يثير شجون البعض وغضب البعض الآخر وكأنه من غير المسموح أن يُـنَاقـِشْ الأردني قضايا أردنية خارج نطاق مؤسسة الحكم وموافقتها ومواقفها وإلا تم إتهامه من قبل المسؤولين بشتى أنواع التهم حتى لو كانت القضايا المطروحة للنقاش قضايا أردنية تمس مصلحة جميع الأردنيين . لقد ساهم إستفحال قوة ونفوذ الأجهزة الأمنية وكـذلك التيار المحافظ الملتصق بالحكم في تعزيز هذا الموقف المتشدد تجاه الرأي الآخر ، بالإضافة إلى الإستعداد الطبيعي لدى معظم المسؤولين الأردنيين للقبول بما هو مطروح عليهم من قـِبَلْ الجهات الرسمية بإعتباره من المُسَلـﱠمات وأمراً غير قابلٍ للنقاش أو النقد أو حتى التقييم ، مما أدى بالنتيجة إلى تبلور ثقافة الخنوع والخضوع السياسي والخوف المستمر من إثارة غضب مؤسسة الحكم .

      مصلحة الوطن الأردني أمراً يهم كل مواطن أردني بغض النظر عن إنتمائه السياسي أو أصوله العرقية أو الطائفية . وفي هذا السياق تعتبر المشاركة الشعبية في بحث قضايا الوطن واجباً على الجميع لأن في ذلك مدخلاً حقيقياً للإصلاح وتأسيساً لثقافة المشاركة والحوار الديموقراطي وتـَلاَزُمْ مبدأ المسؤولية بالمحاسبة ، والشفافية بالرقابة القانونية . ولكن حتى هذه المداخل البديهية أصبحت مرفوضة من النظام وأجهزته بإعتبارها تعدياً على صلاحياته وهي صلاحيات مفتوحة ومطلقة لا حدود لها ، بالإضافة إلى إعتبارها مدخلاً محتملاً لمعارضة سياسات وقرارات إعتاد النظام على الإنفراد والتفرد بها خصوصاً القرارات العسكرية والأمنية والسياسية بشكل عام .

         إن إحتكار إدارة الدولة الأردنية وكل ما يتعلق بها تـَجَاوَزَ كـَوْنـَهُ سياسة نظام ليصبح واقعاً عاماً وحقاً مكتسباً لمعظم مسؤولي الدولة ورجالاتها اللذين أصبحوا يتعاملون مع أي أردني يـُبديِ رأياً في سياسة الحكومة بإعتباره متطفلاً يمارس أمراً لا علاقـَةَ لـَهُ به ، وأن هذا الحق ينحصر فقط بأولئك المسؤولين اللذين نـَصـﱠبوا أنفسهم أوصياء على شؤون الدولة وحرموا المواطنين الآخرين من تلك الحقوق إلى الحد الذي أصبح فيه من الصعب على العديد من نواب الأمة ممارسة حقهم الدستوري في الإطلاع والرقابة والمحاسبة الحقيقية للسلطة التنفيذية . الوضع إذاً هو حالة أقرب إلى الإحتكار المطلق للسلطة وشخصنتها على كل المستويات . فحرمان المواطن من حقوقه السياسية بشكل يكاد يكون كاملاً أمراً يعكس حالة الدولة الآن والتي تـُسَيـﱠر أمورها من قـِبَلْ المسؤول المستبد على كافة المستويات . فتسلسل السلطة لا ينحصر في الإطار الدستوري إنما يُـمَارَسْ من قبل كل موظف على هواه ، والكل يعتبر نفسه بحكم موقعه الوظيفي أدرى بمصلحة البلد من منطلق أن ما يحق له لا يحق لغيره دون وجود أي غطاء دستوري لتبرير مثل ذلك الكلام .

       يتغنى العديد من المسؤولين الأردنيين بالمدى الذي وصل إليه الإصلاح في الأردن متناسين أن المطالب الشعبية للإصلاح كانت تعكس رؤيا متكاملة في حين أن ما تم حتى الآن هو إصلاح تجميلي يعكس عناوين دون أي محتوى حقيقي . ولكن الموقف الرسمي الأردني من التركيز على الإصلاح يهدف في الحقيقة إلى خلق إنطباع زائف داخلياً وخارجياً بأن هنالك إصلاح في حين أن الإصلاح الحقيقي غير موجود .

       يمر الأردن الآن بمنعطفات سياسية وإستراتيجية خطيرة تنبع من خارج حدود الأردن ، وإن كانت آثارها تـُلقي بظلالها على الوطن الأردني وإستقراره ومستقبله . وفي هذا السياق ، فإن مستقبل الأردن كدولة مرهون بالقرار السياسي المنفرد لقيادتها وقدرتها على التعامل بنجاح مع عوامل وتطورات إقليمية ودولية تتحكم بمسار القضايا الإقليمية المُعقـﱠدة التي ابتدأت تعصف بالمنطقة والأردن جزء منها .

  بعد أن تم التخلي الطوعي عن القضية الفلسطينية عقب معاهدة وادي عربة ، يُعتبر الصراع في سوريا والحرب على الإرهاب المدخلين الأهم لفهم وإستيعاب طبيعة وأهداف المسار السياسي الجديد للدولة الأردنية . إن إفتعال أو تضخيم الأخطار والتلويح بها بإعتبارها مصيرية قد تم إستعماله كأسلوب رئيسي في التعامل مع التحديات القائمة وأخطرها الحرب الأهلية الدائرة في سوريا على الحدود الشمالية للأردن والتي أخذت أبعاداً إقليمية ودولية قد تعصف نتائجها النهائية بإستقرار الأردن . وعلى أي حال فإن سياسة الأردن الخارجية تجاه تلك الحرب المدمرة في سوريا تمتاز بالغموض المقصود وإن كان تحويلها إلى قضية لاجئين ومساعدات مادية بشكل أساسي هو أكثر ما يميزها حيث أدى ذلك إلى تخفيف ، إن لم يكن تجاهل ، الأبعاد السياسية والإستراتيجية الخطيرة لما يجري ، وهو أمر في غاية الخطورة ويعكس مزيداً من الإستسلام الأردني للقوى الخارجية المؤثرة على المنطقة . هذا بالإضافة إلى أن ذيول الحرب على العراق وما جرى للعراق لم تـُحْسَمْ آثاره على الأردن حتى الآن وخصوصاً تلك المتعلقة بالإمتداد الداعشي الذي يخترق أراضي العراق وسوريا ويلامس الحدود الأردنية مع كلا الدولتين .

        أما الحرب على الإرهاب فهي الحرب التي لا يريدها الأردنيون ولا يحتاجها الأردن كون خطر الإرهاب عليه لم يرقى إلى مستوى الأسباب الموجبة لإعلان الحرب على الإرهاب بواسطة الحلف الدولي بقيادة أمريكا والذي يهدف في حقيقته إلى الوصول لأهداف تتعارض ومصالح العالم العربي والشعوب العربية . أما الموقف الرسمي الأردني في دعم الجهد العسكري ضد الإرهاب فقد يؤدي بالنتيجة إلى زج الأردن في أتون هذه المعركة مما قد يـُعَرﱢضْ الأمن الداخلي للأردن وإستقراره  بل ومستقبله إلى خطر شديد .

         لا أحد يرغب حقيقة في القضاء على داعش قضاءً حاسماً نهائياً . دول الشرق ودول الغرب لا تريد ذلك بالرغم مما يُعلن ويقال سواء همساً أو تلميحاً أو تصريحاً أو صُرَاخاً . الجميع ، دون إستثناء ، يستعمل داعش كـَعُـذ ْراً مُـحِلاً لكافة أشكال التدخل العسكري في دول المنطقة بإعتبار ذلك جزأ ً من جهد مكافحة الإرهاب . أما في الحالة العربية فهو غالباً ما يُستعمل عذراً لإستدعاء الدول الأجنبية للتدخل في شؤون المنطقة أو لإقامة القواعد العسكرية بحجة تعزيز جهود الحلف الدولي ضد الإرهاب .

        إن الضربات الجوية الإنتقائية لداعش تأتي في هذا السياق . وهي لا تهدف إلى الحَسْمْ بقدر ما تهدف إلى خلق الإنطباع بأن هنالك حرباً على داعش ، في حين أن تلك الحرب تـُدار بطريقة “ناعمة” غير مُدَمِرَة أو مؤثرة . أي أن ما يجري في الحقيقة  هو حرب صورية أكثر منها حرباً فعلية .

      الأردن بحكم موقعه الجيوبوليتيكي هو عضو مهم في التحالف الدولي ضد الإرهاب . فأراضية هامة وأساسية لمرور البشر والأسلحة سواء من أو إلى السعودية والعراق وسوريا ، ناهيك عن كونه مانعاً عازلاً لأي إختراق للأراضي الفلسطينية المحتلة وللعمق الإسرائيلي .

      إن دور الأردن في التحالف الدولي ضد الإرهاب هو دور غامض منذ البداية وحتى الآن . فلا أحد يعرف حقيقة هذا الدور وأبعاده . وحتى المسؤولين الأردنيين لا يملكون الحقائق الكاملة إلا ما ندر منهم وبالقدر اليسير الذي يسمح به النظام لهذا المسؤول أو ذاك .

      جرت محاولات لسبر غور الموقف الحقيقي للأردن بالنسبة لما يجري في سوريا من إقتتال وكذلك بالنسبة للحرب على الإرهاب ممثلاً بتنظيم لداعش . والواقع أن  الأردن لم يُفصِحْ عن مثل هذا الموقف إما لأنه لا يوجد في الحقيقة أي موقف ، أو لأن الموقف الأردني يتطور بشكل مستمر طبقاً لضغوط أو تعليمات قادمة من خارج الأردن وتملي عليه هذا الموقف أو ذلك ، مما يعني في نهاية الأمر أنه لا يوجد موقف أردني بالنسبة لهذه القضية أو تلك بقدر ما يوجد موقف أردني يعكس رغبة هذه الدولة أو تلك من الدول المؤثرة فعلاً على الأردن .

         إن التحديات التي يجابهها الأردن لا يمكن التعامل معها من خلال الإنفراد بالقرار السياسي ، فالمسؤولية يجب أن تكون مشتركة لأن الأخطار القادمة عامة ولن تصيب أحد دون آخر . العمل السياسي المشترك من خلال منظومة ديموقراطية حقيقية هي الوسيلة الأمثل للمشاركة في تحمل مسؤولية القرار السياسي أو الأمني وهذا قد يكون جزأ ً من الحل للتحديات التي يجابهها الأردن .

       خلافاً لما يعتقده الكثيرون ، فإن الموت لا يشكل الحل لأي مشكلة بل هو النهاية المحتومة لكل شئ حي . وحتى هذه اللحظة ما زالت الأنظمة العربية مُصِرﱠةٌ على الإستمرار فيما هي فيه حتى النهاية . والنهاية في نظر تلك الأنظمة يمكن أن تكون نهاية الشعوب أو نهاية الأوطان أو نهاية الدولة أما نهاية النظام فهي آخر ما يفكر فيه أي نظام . ولكن هل هذا المسار معقول ؟ وهل من المعقول أن لا يتعظ أي حاكم مما يجري حوله ؟ وهل أصاب الجميع ما يمكن أن ندعوه نزعة إنتحارية تجعلهم يصرون على مسارهم حتى ولو أدى ذلك إلى موت شعوبهم وأوطانهم ؟
نشر هذا المقال في جريدة رأي اليوم اللندنية بتاريخ  13/ 4/ 2016